لماذا انحسرت المسلسلات البوليسية في الدراما السورية ؟

TT

كان ذلك منذ سنوات قليلة، عندما بدأ اللعبة الكاتب ممدوح عدوان، فقد رأى الدراما السورية بدأت تعاني من القصص والموضوعات النمطية التي تجاوز بعضها حتى الميلودراما المصرية، فوقعت في اختيار متكرر لقصص النزوح من الريف الى المدينة، و(الضياع) الذي يعانيه الذين هجروا الارض على ارصفة المدينة وساحاتها بعد ان انقطعوا عن جذورهم.. او في مطب قصص الخمسينات والاربعينات، حيث الهروب من المشاكل الاساسية والراهنة الى قصص تلك العقود البعيدة نسبيا، وتقديم المجتمع الدمشقي بالذات بعاداته وتقاليده المحصورة بين صراع التجار في الاسواق، وخبايا قصص النساء المتوارية في (الحرملك) وقاعات البيوت الشامية خلف ستار الحجاب والملاية والتقاليد والاعراف الموروثة (صوروا اكثر من عشرين مسلسلا في بيت دمشقي واحد).

ادرك ممدوح عدوان هذه الرتابة والنمطية في المسلسلات السورية التي بدأت مرحلة التراجع بسبب تقديمها القصص المتشابهة، فعمد الى التغيير، والى اعتماد نمط (بوليسي) جديد في هذه المسلسلات، وكانت البداية مع مسلسل «اختفاء رجل» الذي شغل الناس وقد رأوا فيه انموذجا جديدا لم يألفوه من قبل، وراحوا يتساءلون كما يتساءل مشاهدو الاعمال المأخوذة عن قصص اجاثا كريستي: من القاتل؟

* قصص غريبة عن مجتمعنا

* لم يؤلف ممدوح عدوان قصص المسلسلات، بل كان «ىفبركها»، وقد عمد الى الاعداد عن قصص بوليسية اجنبية، ومنها قصص اجاثا كريستي بالذات، ثم قام بـ«تعريبها» فجاءت في جملة احداثها غريبة عن طبيعة المجتمع العربي الذي لا يعرف مثل هذه الجرائم المدروسة من قبل مرتكبيها، ذلك لأن اكثر جرائم المجتمع العربي تنتمي الى نوع «الدفاع عن الشرف» او «الثأر» او «السرقة».

ورغم الاثارة الكبيرة المتوفرة في هذه الاعمال والتي شدت المشاهدين اليها، فقد ظلوا يجدونها غريبة عنهم، بل تساءل البعض: لماذا يعمد الكاتب الى استبدال الاسماء والاماكن الاجنبية باسماء عربية؟ لماذا لا يتركها كما هي ويقدمها على انها نوع من المسلسلات المقتبسة عن اصول اجنبية؟

ولكن الكاتب ظل يقدم هذا النوع من المسلسلات التي وجد انها رائجة، ومنها «اللوحة الناقصة» و«حكاية حب عادية جدا».

وكانت الجماهيرية التي حققتها هذه الاعمال رغم حملة الصحافة عليها، سببا اغرى بعض الكتاب التلفزيونيين لأن يقلدوا ممدوح عدوان في تقديم اعمال اجتماعية ذات طابع بوليسي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مسلسل «الصفقة» الذي كتبه مفيد ابو حمدة، ولما كان المؤلف غير متمكن من كتابة هذا النوع من الكتابة الوافدة والجديدة، فقد بدا المسلسل وهو يعاني من التفككك ومن سذاجة الطرح، فأصيب المشاهدون بعده بنوع من خيبة الأمل.

* مجرد «اكشن»

* على ان الملاحظة الاساسية التي يمكن ان نسوقها في هذا المجال هي ان اكثر الاعمال التلفزيونية السورية التي يمكن ان نطلق عليها، تجاوزا، صفة الاعمال البوليسية، تفتقر الى الشروط التي يجب ان تتوفر في هذا النوع من الاعمال، فالعمل البوليسي ليس فقط وقوع جريمة واكتشاف مرتكبها كما اصبح الامر عليه في الدراما السورية، حتى الاجتماعية منها، بحيث لا يكاد يخلو مسلسل من دور لمخفر الشرطة ولرئيس مخفر الشرطة وعناصره في تتبع (المارقين) كما في اعمال كثيرة مثل «الخشخاش» و«قلوب خضراء» و«الضحية» وغيرها.

* أين سجلات القضاء؟

* وقد تساءل النقاد الذين حملوا على هذا النوع من الاعمال (البوليسية): لماذا يعمد كتاب المسلسلات البوليسية الى الاقتباس او الى (التأليف) دون الرجوع الى سجلات القضاء والدوائر الجنائية، واختيار قصص جرائم متميزة او محبوكة لاعدادها تلفزيونيا.

من جهة ثانية وقف البعض امام المسلسل الاذاعي الشهير «حكم العدالة» الذي تبثه اذاعة دمشق ظهر كل يوم ثلاثاء ويكتبه المحامي هائل اليوسفي.

وتساءل الناس: ما دام برنامج «حكم العدالة» قد حقق مثل هذا النجاح الكاسح من الاذاعة على مدى سنوات طويلة، لماذا لا يعده كاتبه حلقات تلفزيونية، خاصة ان جميع قصص هذا المسلسل من البيئة المحلية، ومن ملفات القضاء السوري؟

* ماذا يقول المؤلف؟

* طرحنا السؤال على كاتب المسلسل المحامي هائل اليوسفي فقال: ليس كل برنامج اذاعي ناجح يصلح لأن يكون عملا تلفزيونيا.. لقد تميز برنامج «حكم العدالة» بأنه (اذاعي).. وشخصياته التقليدية تعيش في اذهان الناس من خلال اصوات شخصياتها مثل شخصية (المساعد جميل) و (الرائد هشام) و (المحامي وائل).. ومن الصعب تقديم ابعاد هذه الشخصيات التي تكونت في اذهان الناس سماعيا، بالتشخيص التمثيلي المصور على الشاشة.

وتابع: ان تقديم هذا البرنامج تلفزيونيا سيجعله يفقد الكثير من شعبيته، تماما كما حدث بالنسبة للتمثيليات الاذاعية التي كان يقدمها فنان الشعب الراحل حكمت محسن (ابو رشدي) مع مجموعة من الفنانين القدامى ومنهم تيسير السعدي، وانور البابا (ام كامل) وفهد كعيكاتي (ابو فهمي) وغيرهم، لقد اعدت الحلقات للتلفزيون ففشلت فشلا ذريعا.

من هنا، ولجميع الاسباب التي ذكرناها بدأت المسلسلات التلفزيونية السورية في السنوات الثلاث الاخيرة مرحلة التراجع حتى وصلت الى ما يشبه الانحسار التام.. تماما كما حدث بالنسبة لمسلسلات الفانتازيا التاريخية.. واصبح الانتاج ذا اتجاهين: اولهما الى الاعمال التاريخية الموثقة والثاني الى الاعمال الاجتماعية الراهنة التي يرى فيها المشاهد نفسه على الشاشة.