محمد سعيد الصكار: أدلل نفسي في التنقل الحر بين اهتماماتي

صانع الأبجدية الطباعية لـ «الشرق الأوسط»: أقام رجل المخابرات في بيتي مدة شهرين كاملين

TT

ولد الشاعر والخطاط العراقي، محمد الصكار، في عام 1934، وظهرت له أول مجموعة شعرية عام 1952، والثانية بعد ست سنوات. مقيم في باريس منذ عام 1978، ولم يعد إلى العراق منذ ذلك الوقت، زار دمشق للمرة الأولى بعد غيبة 43 سنة، حيث كان في عام 1957، لاجئاً سياسياً فيها. وقد عمل في حلب معلماً للأطفال في المدارس الابتدائية، وما زال يحتفظ إلى اليوم بالمرسوم الجمهوري الذي أصدره الرئيس السوري آنذاك شكري القوتلي لتعيينه معلماً براتب 150 ل. س.

الصكار زار دمشق اخيرا للاشراف على نشر اعماله الكاملة.

وهنا حوار معه عن رحلته مع الخط العربي وتجربته الشعرية..

* الخطاط والشاعر صفتان متلازمتان معك، كيف نشأت وتداخلت هاتان الصفتان لديك؟

ـ لم يقتصر الموضوع على الشعر والخط، إنما هناك مسائل فرعية أخرى تتداخل. باعتقادي كلها معارف ثقافية مفيدة، بالنسبة للخط بدأ عندي قبل الشعر منذ أن كنت صبياً في الابتدائية، فأنا لم أكن مهتماً بالأمور الرياضية مع أن الصبيان في حارتنا يمارسون هذه الألعاب بشكل لافت، وإذ لا استطيع الابتعاد عن المحيط العام كنت أصمم لهم الميداليات وأرسمها وأخطها بخط بسيط ساذج، والأطفال يفرحون بها كثيراً وأفرح معهم. من هنا، بدأت اهتماماتي بالخط، وكان ذلك عام 1946، بعد ذلك انتقلت إلى مدينة البصرة وفيها مجتمع ثقافي مهم، اضافة إلى كل ذلك كان الصبيان في عمري (13 سنة)، يخطون على إسفلت الشارع وعلى الحيطان مرة بالفحم ومرة بالطباشير، وكنا نقلد كبار الخطاطين.

* ماذا تتذكر من الجو الثقافي في البصرة في ذلك الوقت؟

ـ أذكر أنه في أوائل الخمسينات كان من العيب على الشاب أن يظهر في الشارع دون كتاب، وربما لا تعرفين أن الشارع الشعبي كان موزعاً بين قطبين في إطار الشباب: مجموعة أنصار محمد عبد الوهاب، الذين يحملون كتبه دائماً، وأنصار فريد الأطرش الذين اضطروا إلى حمل الكتاب لئلا ينتقدوا، هكذا كانت البصرة منتدى ثقافياً كمدينة، وهذا يعني أنه كان فيها مجالس أدبية مستمرة تقام ويلتقي فيها الأدباء والشعراء يتجادلون ويتساجلون ويقرأون أشعارهم، وأنا نشأت في وجود هذه المجالس، ونشأت مع كوكبة من الشعراء الذين يتميزون بالجدية مع مشاريعهم الثقافية.

نشأت وكان بدر شاكر السياب حياً وعرفت الشاعر محمود البركان الذي لا يزال موجوداً وما زال مبدعاً صامتاً، ومن جيلي أيضاً الشاعر سعدي يوسف، ومحمود عبد الوهاب، ومهدي عيسى الصقر، الكاتب والروائي الذي ما زال يواصل كتاباته إلى اليوم، كما كان في عهد الشباب. وهناك أسماء كثيرة لا تحضرني الآن. هذا المحيط الثقافي كان يجعلنا في حماس مستمر للقراءة والمداولة وإجراء التجارب والمناقشات والمساجلات، كان هناك فضاء ثقافي مدهش في البصرة.

* لكن هناك الآن تراجعاً ثقافياً ملحوظاً، ما السبب برأيك؟

ـ السبب هو القمع الذي تفرضه السلطة، هناك حصار ثقافي روحي قبل الحصار الاقتصادي الذي فرض من قبل الحلفاء. حالياً في العراق وفي ظل هذا النظام هناك سياسة ثقافية محددة موجهة لخدمة أغراض النظام، هذه للتطبيل له وللمديح، وللأسف الشديد أنها استطاعت أن تكسر تماسك بعض الشعراء الجيدين وأن تحيلهم إلى جوقة من المداحين، هذا الأمر أدى إلى عزل طبيعي بين هؤلاء المداحين وبين المبدعين الذين يحترمون كلمتهم ومهامهم ككتاب وكمثقفين. ولا يمكن أن نغفل السائد وهو السيطرة على وسائل الإعلام الرسمية في ترويج ونشر ما يروق لها ويؤسس لمواقعها وعدم إتاحة الفرصة للكتاب والمثقفين الآخرين.

* يرى بعض النقاد ان كتاباتك تعبّر عن موقف آيديولوجي في عصر اختفت فيه الآيديولوجيات؟

ـ نعم لديّ موقف فكري واضح ومعلن ولست خائفاً عليه، وقد تعرضت بسبب هذا الموقف إلى مشاكل مدونة في كتابي المنشور «أبجدية الصكار.. المشروع والمحنة»، حيث حوصرت بسبب الأبجدية التي وضعتها قبل أكثر من ربع قرن، حوصرت حصاراً نفسياً واجتماعياً واضطررت إلى مغادرة البلد لأنهم وجهوا إليّ تهماً تقودني إلى الإعدام، وغرزوا في بيتي يومها رجلاً من المخابرات يقيم معي في البيت، يتناول معي القهوة الساعة التاسعة ومن ثم وجبة الغداء وهو موجود كذلك في مرسمي ولا يغادرني إلا في العاشرة مساء، كان يقول لي إنه من المخابرات ويضيف أن المخابرات مصنفة إلى صنفين، واحدة للرئيس وأخرى لنائب الرئيس، وهو من جماعة نائب الرئيس الذي هو الآن رئيس. وأرجو ألا يفاجئك إذا قلت إن الرجل أقام في بيتي وبشهادة بعض المثقفين الذين رأوه رأي العين أقام شهرين كاملين. ولك أن تتصوري أي حصار روحي وثقافي واجتماعي مفروض، في ظل هذا الوضع لم استطع البقاء في البلد، وكانت محنتي مع الأبجدية سنتين كاملتين.

* هناك، كما أرى، مشكلة في الأدب العراقي في الحفظ، إنكم تكتبون من الذاكرة فقط؟

ـ أنا أحمل معي الوطن أينما سرت، وواقع الحال عندما أكتب عن الوطن الآن أكتب من الذاكرة لأن المسافة الجغرافية بعدت ولم يتبق لدي إلا ذاكرتي، فالقصائد والمسرحيات والقصص التي أكتبها عن الوطن هي من محتويات الذاكرة، والآن أنا متأكد أن النفوس قد تغيرت والمواقع تغيرت، لكن هذا هو متاعي وهذا ما لدي.

في الحقيقة إن قصصي ومسرحياتي بشكل خاص تأخذ مساحة زمنية قبل هذه المرحلة، فمثلاً هناك أضواء تسلط فيها أعمال على زمن يمتد من نهاية الأربعينات إلى وقت مغادرتي، كما عنيت بتسجيل بعض الملامح ورسم بعض الخرائط على الذاكرة لمواقع البصرة ولبلدة «الخالص» التي كنت فيها وكتبت عن هذه الأماكن قصائد كثيرة، وأذكر أنه عندما كانت البصرة تقصف في الحرب العراقية ـ الإيرانية، أقمت معرضاً خاصاً لمدينة البصرة في مدينة باريس، تضمن 23 لوحة، كنت منفعلاً أكتب القصائد وأحولها إلى لوحات، والمعرض كان مخصصاً فقط للمفكرين وللأدباء والسياسيين والفنانين وليس مفتوحاً للجمهور، لأن مرسمي لا يتسع لأعداد كبيرة. استمر المعرض لمدة خمسة أيام، لكن نظراً لتوافد الوجوه الثقافية العربية مدّد المعرض لخمسة أشهر، إلى أن سقطت من التعب ونقلت إلى المستشفى وأغلق المعرض، وقد سألني صديقي فواز الطرابلسي يومها كيف حالك؟ قلت له: مريض، فقال: ما الذي يوجعك؟ قلت: البصرة توجعني.

* وصفوك أنك «صانع الأبجدية الطباعية»، ما القصة وراء ذلك؟

ـ لقب تكريمي أعتز به كثيراً، بدأت في عام 1965، بوضع أبجدية للطباعة، للكومبيوتر، يوم لم يكن كومبيوتر في بلادنا. المسألة ببساطة أنه أعلن عن نشأة جامعة جديدة في الكوت، وأنا انفعلت بهذا الحدث الثقافي ولا أعرف أحداً من مؤسسيه، لذا قررت أن أقدم هدية للجامعة فأهديها خمسين لوحة تؤرخ للخط العربي منذ نشأته إلى أيامنا. وعندما قررت هذا، رأيت أنه من المناسب أن يرفق بهذا المعرض كراس يعطي شرحاً تاريخياً لهذه المسائل، فبدأت أكتب هذا الكتيب ووصلت إلى أن الحرف العربي هو المطبعة، فدخلت في هذا الموضوع وتبين لي أن حربنا الثقافية لا تقل أهمية عن حرب النفط، نحن نحارب ثقافياً أكثر مما نحارب نفطياً، ودخلت في هموم المطبعة العربية (فأنا صحافي ومقيم في المطابع وعندما لا أشم حبر المطابع أدوخ)، علمت بوجود نظرية يؤسس لها المستشرقون تقول: لكون الحروف العربية موصولة تعددت أشكال الحرف الواحد. أصبح لدي رغبة كبيرة لإيجاد صيغة لتجاوز هذه الفرضية. بقيت سنتين أفكر بجدية وفجأة خطرت على بالي فكرة مفادها أنه إذا قلبنا النظرية وقلنا لكون الكتابة العربية موصولة الحروف يمكن الاختصار. طبعاً هذه نكتة واعتبرت ذلك لهواً، بصراحة خفت أن أصاب بالإحباط فاتجهت إلى اللهو. فإذا بهذا اللهو يدخل إطار الجد وتتحقق لدي النظرية الجديدة «أنه بسبب موصولية الحروف يمكن الاختصار» وهذا ما حصل، فبدلاً من 900 حرف ومن 300 حرف أصبح لدي 22 وحدة بصرية، وهكذا أصبحت الأصوات اللغوية أكثر من الحروف في أبجدية الصكار.

* ما القيمة الفنية النهائية للخط، على أي أساس تقوم: القواعد أم الإيحاء؟

ـ جاوبت عن هذا السؤال في إحدى مقالاتي بعنوان «محاولة في الاستدلال على شخصية الحرف المخطوط: تجربة على حروف خط النسخ»، وقلت إن هذا التصور قائم أصلاً على الألفة الطويلة للقواعد الأدائية لهذا الفن، وعلى التأمل في دلالة حركة الخط، ولذلك يمكن القول إن الطرفين ـ القاعدة وما توحي به ـ متداخلان، وهما معاً مسؤولان عن القيمة الفنية النهائية.

* إذاً كيف تصنّف نفسك: شاعراً أم خطاطاً؟

ـ أنا أقرب إلى الشعر، لكن هناك رأياً يقول إنني شاعر في خطي وملوّن في شعري، وأحب التنويه هنا إلى نقطة طريفة، هو أنني في الواقع مدلّل، أنا أدلّل نفسي في التنقل الحر بين اهتماماتي، فعندما أبدأ بالخط، لا أخط لوحة أو لوحتين أو ثلاثاً، لكن لا أسمح لنفسي أن أجهد قبل أن يبلغ بي الملل مداه، أنتقل إلى الرسم، ومن الرسم أنتقل إلى الكتابة (قصصاً أو مسرحاً أو ربما قصيدة)، يضاف إلى هذا ممارسات أخرى كتجليد الكتب، فأنا مجلّد كتب جيد، لكن لا أجلّد إلا مؤلفاتي. على كل حال، أنا مجموع هذه الأشياء لأن الواحدة تغذي الأخرى.

=