لم يلفت أحد نظري الى القراءة أو الكتابة أنا التي حملت العصا، ورحت أشق بها البحر، وما زلت أراها هكذا بحرا لجى، أعماقه سحيقة لا يقدر عليها سوى البحارة العظماء والعباقرة، هكذا كنت أنظر الى الكتاب واعتبرهم كائنات خرافية، فذة، وقادرة على فعل المستحيل «الكتابة»، هذا في الوقت الذي ما زلت أشعر فيه بأنني لا أعرف الكتابة، ولا قبل لي بأعبائها ولا أستطيع أن أصل الى قدرات هذه الكائنات الخرافية التي تسمى الكتاب، أو أقدم كتابة تصل الى مستوى إبداعاتهم. ظل هذا الشعور موجودا، كما ظلت رغبتي في التجريب من أجل كتابة شيء ما يخصني موجودة، في الوقت الذي ظل فيه إحساسي بالانبهار من هؤلاء العظماء يسيطر عليّ ويملؤني برغبة في الكتابة يصاحبها إحساس بالعجز أمام إبداعاتهم.
قراءاتي الأولى ربما هي التي جعلت هذه الأحاسيس تسيطر عليّ، فقد قرأت كتبا عن الأساطير الاغريقية، وأخرى عن شخصيات تاريخية، وكانت هذه الكتب مصحوبة بصورة موازية لأحداثها، كما قرأت الكثير من مجلات سمير وميكي والسندباد، وربما كان لمربيتي دور كبير في تشكيل دعائم هذا الاحساس بقصصها الأسطورية وحكاياتها الشعبية ولغتها وطريقتها الجذابة في سرد الأحداث ورواية القصص.
هذا الاحساس كان مسؤولا أيضا ـ ربما ـ عن تأخر إقبالي على الكتابة والوقوع في حبائلها، فقد كان خوفي وإحساسي بأنني لست كاتبة وراء لجوئي الى المذاكرة ، وأخذ نفسي بالشدة ومتابعة كل ما يصدر من كتابات باللغة الانجليزية. وكان هذا يجيء أيضا في سياق دراستي لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه، بعد ذلك اتجهت للكتابة وأصدرت أول مجموعة قصصية في دار شرقيات بعنوان «خشب ونحاس» بعد ان اتصل بي مديرها، وعرض علي أن أجمع ما نشرته من قصص في كتاب تصدره الدار. كان هذا في عام 1995، وقد دفعني في طريق الكتابة بعض الأصدقاء حيث يرجع الفضل للشاعرة فاطمة قنديل في نشر أول قصة لي في مجلة «أدب ونقد» القاهرية. أما عن «خشب ونحاس» فهي مجموعة من القصص وجهتها لأبني، على أمل أن يقرأها ذات يوم، وكنت أريد أن أجعل عنوانها هكذا «حكايات لأبني أيمن» لكنه اعترض علي وضع اسمه على المجموعة، معللا ذلك بأنه لا يريد ان يكون مشهورا. كان عمره في ذلك الوقت 8 سنوات، وقد نزلت على رأيه وغيرت عنوان المجموعة التي كانت الى جانب استفسارات ابني تتضمن الكثير من الأسئلة والقضايا الوجودية.
بعد صدور المجموعة افرحني جدا استقبال النقاد لها لكنه لم يغير إحساسي السابق بأنني لا أعرف الكتابة ولم يدخلني ذلك بالتالي في زمرة الكتاب الخرافيين، وبقيت كما أنا أرتعب من الامساك بالقلم وأتهيب من فعل الكتابة، وكان لكلام النقاد فقط فضل استمرار رغبتي في التعبير عن نفسي وكتابة همومي ومشاعري الانسانية وأصبغها بالغبار المحيط بي، فقدمت بعدها مجموعة «منازل القمر» في سلسلة أصوات أدبية من هيئة قصور الثقافة، وقد تدخل المشرف عليها في ذلك الوقت الروائي محمد البساطي في حذف حوار باللغة السامية جاء على لسان بطلة قصة «الوحدة»، قال لي انها زيادة، فوافقت على الحذف لكني عندما فكرت في الحوار بعد ذلك عند صدور المجموعة وجدت ان البساطي لم يكن لديه حق في ما أشار عليّ به.
حديثي حول الكتاب الخرافيين، وأنني لن أستطيع أن أكتب مثلهم لا يعني ان لدي مثلا أعلى في الكتابة مع أنني استمتعت كثيرا بقراءة هيمنجواي وجين اوستن وسارتر وتوفيق الحكيم وطه حسين. ومشكلة الكتابة عندي كانت تتمثل في أكثر من عنصر، الأول عدم وجود تراث من الكتابات الانثوية لكاتبات مصريات أو عربيات يسندني، كما ان الكثير من قراءاتي كانت باللغة الانجليزية، وأنا مصرية لغتي الأصلية العربية، وقد كان اختياري للغة التي أكتب بها أصعب ما واجهني في رحلتي الإبداعية، لكني حسمت الأمر وقررت أن أكتب بالعربية دون استسلام لغواية الكتابة باللغات الأجنبية التي كتبت بها بالفعل بعضا من إبداعاتي لكني مزقتها وألقيتها في البحر.
وفي العام الماضي كان موعدي مع أول جائزة أحصل عليها في حياتي، وهي جائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الاميركية لأحسن رواية صدرت بالعربية خلال كل عام، وقد اتصلت بي الدكتورة فريال غزول وهي من أعضاء لجنة تحكيم الجائزة، وأخبرتني بأنني حصلت على الجائزة عن روايتي «أوراق النرجس» التي أصدرتها قبل شهور من موعد اعلان الجائزة عن دار شرقيات. قالت غزول ذلك وطلبت مني ألا أخبر أحدا، لكني اكتشفت بعد ذلك ان خبر الجائزة تم تسريبه للصحافة، فذهبت الى أمي وأخبرتها، قلت لها ان لدي خبرين أحدهما جميل والآخر ليس كذلك، الأول انني حصلت علي جائزة نجيب محفوظ، والآخر ان هذا الخبر تسرب الى الصحافة، ولم أكن أريد أن يحدث ذلك، لأن الدكتورة غزول طلبت مني عدم تسريبه وأخشى أن تظن أنني المسؤولة عن هذه الفعلة.. لكن لم يمنع ذلك فرحي بالجائزة وأتمنى أن يحصدها غيري من الكتاب والكاتبات الجديرين بها في مصر ووطننا العربي.