عندما تحكي الأبنية ذاكرة مدينة خارجة من الحرب

أيمن تراوي يؤرخ بالصور بيروت الحرب وبيروت الإعمار في كتاب «حروب التدمير وآفاق التعمير»

TT

العين هي أقوى ذاكرة، وما تلتقطه العين ينحفر ويتجسّد في الذاكرة. وهناك صور سواء كانت جميلة أو لا، يجب ان تبقى في الذاكرة، لتشكّل جزءاً من ماضينا وركيزة لمستقبلنا، ولتذكرنا دائماً بمرحلة عشناها. هذا ما أراد المصوّر أيمن تراوي تحقيقه عبر كتاب: «بيروت: حروب التدمير وآفاق التعمير»، الذي يضم صوراً للعاصمة بيروت، ولاسيما وسطها التجاري، خلال الحرب حيث آثار الدمار تبصم كل مبنى، وصوراً أخرى لبيروت بعد الاعمار من خلال «بيروت: حروب التدمير وآفاق التعمير»، أراد أيمن تراوي أن يقدم مدينة بيروت، «لا سيما أن الاعمار والازدهار، ينسيّ براثن الحرب، وهذه الصور لن تطول في ذاكرة اللبنانيين... فكان يجب توثيقها»، يقول أيمن تراوي. من خلال هذا الكتاب، أراد تراوي، إبراز جمالية الهندسة المدنية والمعمارية التي أصبحت تتمتع بها بيروت، ومدى التطور الذي أصبح يواكب مختلف مرافق العاصمة. «بيروت: حروب التدمير وآفاق التعمير»، كتاب يضم 128 صورة، لكل مكان لقطتان، واحدة خلال الحرب وأخرى بعد الإعمار، مع شرحٍ عن المكان ومتى شيّد خصوصا أنّ لبيروت تاريخا قديما مع العمارة، وقد دمرت وعمّرت لأكثر من مرة. فخلال ستة آلاف سنة شهدت بيروت مرور العديد من الحضارات، من الكنعانية إلى العثمانية كما دمّرها زلزالان في القرن السادس ثم طوفان، تبعه حريق حوّلها الى رماد. وبعد كل كارثة، كانت بيروت تنهض من الركام من جديد وكطائر الفينيق الذي ينبعث من الرماد مصرّة على الحياة والأمل.

في العام 1975، اندلعت الحرب الأهلية، فدمّرت معظم مرافق العاصمة، ولا سيما الوسط التجاري، الذي اعتبر كخط تماس طوال 17 عاماً (فترة الحرب) إذ يقع بين شطري العاصمة المتنازعين، واللذين عرفا خلال الحرب بـ«بيروت الغربية» و«بيروت الشرقية». ويعود تاريخ بناء معظم أبنية الوسط التجاري الى القرن التاسع عشر، فالسراي الكبير (مقر رئاسة مجلس الوزراء) بناه العثمانيون في العام .1853 كما أن هناك عدداً من الكنائس والمساجد شيّدت في القرن السادس عشر. فمسجد الأمير عساف الواقع قرب السراي بناه الأمير في العام 1572، أما كنيسة القديس لويس للبكوشيين فقد شيدت عام 1863 وكانت تخدم الجاليات الأجنبية في بيروت آنذاك. وشوارع الوسط التجاري أو «البلد» أو «الأسواق» ـ كما كان يطلق على هذه المنطقة في السابق ـ كثيرة، واخذت نصيباً وافراً من العزّ، بدءاً من شارع المعرض الشهير بقناطره ما يجعله مشابهاً لشارع la paix عند الدائرة الأولى في باريس، مروراً بشارعي اللنبي وفوش، كما أنها تتميز بأبنية جميلة يعود بناؤها الى مئات السنين. وروعة الهندسة تتجلى في معظم أبنية الوسط التجاري، سواء السراي الكبير أو مبنى بلدية بيروت... وكثير من الأبنية السكنية. لكن الحرب ارادت أن تختطف جمال وبريق هذه الأبنية لتحوّلها الى مساكن أشباح، حيث شظايا القنابل والمتفجرات تهشم كل مبنى. ومع وصول الرئيس رفيق الحريري الى سدّة رئاسة الوزراء عام 1992، بدأت حركة اعادة اعمار وترميم الوسط التجاري عبر انشائه «الشركة اللبنانية لتطوير واعادة اعمار وسط مدينة بيروت ـ سوليدير»... وبدأت «الورشة» في بيروت... التي اخذت تنفض عنها تجار الحرب. وأيمن تراوي الذي لم يكن يعرف أن الصورة الجديدة لبيروت ستكون بهذه الروعة أراد أن يحتفظ بصور لـ«بيروت الحرب». فجال بعدسته في وسط المدينة المدمر، وعلى ابرز مرافقها، كالمدينة الرياضية، ومنطقة المرفأ، وعلى أبرز فنادقها... ليؤرشف بيروت الحرب. فالتقط صور 17 عاماً من الدمار والخراب، خلال سنتي 1992 ـ 1990، أي قبل أن تبدأ «سوليدير» بالإعمار. وأراد أيمن أن يحتفظ بهذه الصور للأجيال القادمة لتدرك ماذا فعلت الحرب بلبنان، لاسيما أنّه لم يكن يدري أن حركة الاعمار ستكون بهذه السرعة. وفي العام 2000، عندما اكتملت عملية اعادة اعمار وترميم الوسط التجاري، وعندما بدأت معالم بيروت الجديدة تتبلور، أراد أيمن أن يقارن بين ما فعلته الحرب، وما فعله من اخلص واحب بيروت. فقرر مع «البيروتين» في كتاب يروي هاتين المرحلتين ومع بداية هذا الصيف، وخلال شهرين، التقط أيمن تراوي صور بيروت الجديدة، المزهوّة بالأبنية الجميلة المشعة بالحياة والناس. وأراد أن ينجز الكتاب قبيل القمة الفرانكوفونية، ليرى رؤساء العالم، ارادة اللبنانيين لبناء وطنهم وبعد ثلاثة أشهر من العمل المكثف... خرج هذا الكتاب للنور. فرأينا صورة للمدينة الرياضية خلال الحرب، حيث أنابيب المياه المتفجرة، وحيث الخيم والأطفال المشردة... تقابلها صورة عند إعادة افتتاح المدينة في صيف 1997، واستضافتها للدورة العربية، ورأينا صوراً للوسط التجاري حيث الركام في وسط الشارع تقابله صورة اليوم حيث المقاهي والناس في وسط الشارع. ورأينا صورة لعمارة، بنيت في العام 1930 على الطراز العثماني، مزخرفة الشبابيك... رأيناها بحلّة الأمس «مدججة» بالشظايا، وملابس المهجرين تطل من شرفاتها، وفي الصفحة المقابلة ها هي اليوم، زهرية اللون متألقة وسط الشتول والأزهار. ونحن بصدد ذكر أبرز معالم العاصمة، التي أعيد اعمارها، لا بد من الحديث عن مطار بيروت، الذي نال نصيبه من الدمار بشكلٍ وفير، وقصف بالطائرات لأكثر من مرّة. وبسبب كل هذه الأضرار التي لحقت به تمّ هدمه بالكامل، وانشئ مطار جديد وفق أحدث أنظمة الملاحة الجوية، ليستوعب أكثر من ستة ملايين مسافر، كما أضيف الى جانبه مدرج بحري. وبالعودة الى وسط بيروت، الذي يشتهر بأبنيته القديمة، كما عثر فيه على آثارٍ، فلا بدّ من الحديث عن بعض الأبنية الأثرية القيّمة. والجدير ذكره أن مباني الوسط التجاري، أي بيروت القديمة، متعددة الطراز، نظراً لمختلف الحضارات والارساليات التي مرّت على المدينة، وتركت بصمتها عبر ابنيتها.

وفي هذا السياق لا بدّ من الحديث عن مسجد الدباغة الذي شيّد في عهد المماليك في العام 1343، وسمي «بالدباغة» نسبة الى أحد أبواب بيروت في العصور الوسطى ويعرف اليوم بجامع أبي بكر الصديق. ومن الأبنية ذات الطراز الأجنبي، مبنى طانيوس ومسعود المميّز بهندسته الايطالية وقد بني عام 1900وعرف باسم مقهى كوزموس. وعندما نحكي عن «الأسواق»، كما كان أهل بيروت يسمّون الوسط التجاري فلأنها كانت تضم مختلف الأسواق كـ«سوق الصاغة» و«سوق الطويلة للألبسة» و«البرج» و«السور» وشارع «برج ساحة السراي الكبير»، والمعروف ببرج الساعة الذي بناه المهندس اللبناني يوسف افتيموس عام 1897، بناءً على طلب الوالي العثماني، وقد أعاد الرئيس رفيق الحريري ترميمه في العام .1992 وقد اطلق على أحد الشوارع إسم «السور» لكونه يقع حيث كان يمتد سور المدينة بيروت. ومن الأبنية المميزة ايضا المبنى الذي يشغله اليوم مجلس الإنماء والاعمار، وقد كان مستشفى عسكرياً بناه العثمانيون في أواخر القرن التاسع عشر وحوّل الى قصرٍ للعدل في عهد الانتداب الفرنسي. وقد أعاد الرئيس الحريري ترميمه في العام 1992، نتيجة تضرره خلال الحرب.

واللافت في كتاب «بيروت: حروب التدمير وآفاق التعمير»، المقارنة التي أقامها أيمن تراوي بين الرئيس رفيق الحريري ـ كونه قام باعادة اعمار بيروت، والبارون الفرنسي جورج أوجين هوسمان الذي يصنفه التاريخ كواحد من أبرز البنائين العظماء. إذ قام باعادة بناء باريس بين عام 1853 ـ 1870 ليرتبط اسمه بباريس الجديدة، التي تحوّلت بفضله الى شكلها الحديث الذي عبرت به الى القرن العشرين، ويقول تراوي ان البارون هوسمان تعترض للانتقادات نفسها التي تعرّض لها الرئيس الحريري، كتغيير هوية المدينة والغاء أبرز معالمها، لكن العمل الجبّار الذي قام به هوسمان كان كفيلاً باسكات كل الحملات المناهضة. وبعدما تبلورت صورة بيروت الجديدة ـ مع احتفاظها بهويتها القديمة. اثبت الرئيس الحريري أن كل الانتقادات التي وجهت له لم تكن في محلها. ويعلق أيمن تراوي قائلاً، أنه لا بد من لفت نظر الجميع، الى أن هوسمان أعاد إعمار باريس خلال 17 عاماً، بينما الحريري أعاد اعمار بيروت خلال ثماني سنوات، واستغرق هذا الكتاب ثلاثة اشهر لانجازه. وكما سبق وذكرنا أن صور «بيروت الدمار» التقطها تراوي خلال 1992 ـ 2002، أما «بيروت الاعمار» فالتقطها خلال صيف .2002 وأراد تراوي ان يكون الكتاب جاهزاً قبيل قمة الفرانكوفونية (التي عقدت في بيروت في أواخر أكتوبر) لتبرهن هذه الصور لرؤساء العالم، عن المجهود الذي بذله اللبنانيون لبناء وطنهم.

وفي الأوّل من أكتوبر (تشرين الاول) قام أيمن تراوي بإهداء الكتاب للرئيس الحريري، كما عُلِقَتْ الصور في السراي الكبير خلال القمة الفرنكوفونية. وخلال حفل العشاء الذي أقامه الرئيس الحريري لرؤساء الدول الفرنكوفونية في السراي، تسنى لهم مشاهدة الصور التي نالت إعجاب الجميع ولاسيما الرئيس جاك شيراك، الذي يقدر الانجازات الهندسية والاعمارية بشكل لافت، كونه تولىّ رئاسة بلدية باريس 17 عاماً.

وختاماً يعلّق تراوي قائلاً: «لم أكن أتوقع أن يحصد الكتاب اصداء بهذه الايجابية، فغالباً ما أقابل اشخاصاً يقولون لي بأنهم أرسلوا الكتاب الى أولادهم أو أقاربهم في الخارج، ليروا الصورة الجديدة لبيروت...» أي أصبح الكتاب بمثابة وثيقة انجز بتمويل من بنك البحر المتوسط الذي توجه تراوي اليه شاكراً، كما انه اليوم يباع في غالبية المكتبات اللبنانية، كما سيباع قريباً في الخارج. واليوم ولغاية فبراير (شباط) يعرض أيمن تراوي صوره في شارع المعرض في الوسط التجاري، وينوي عرضها في اوروبا.