صدام يخلف عائلة كبيرة شقية كانت مثله ضحية لشهوة المال ورغبة السلطة القاسية

زهير المخ*

TT

تتبارى الأقلام من كل حدب وصوب في التنبؤ بالمصير الذي يلف بغموضه شخص الرئيس العراقي صدام حسين بعد انهيار سلطته سريعاً في بغداد، ولكن لا يشار إلا عرضاً وباستحياء إلى المصير ذاته الذين ينتظر أفراد «العائلة الممتدة» الذين كوّنوا بمجموعهم اليد الضاربة لرأس السلطة في العراق. فسقوط الرأس في نظام مثل الذي اقامه صدام حسين يعني سقوطا اوتوماتيكيا لكامل المجموعة ومصيرا مماثلا في الغالب لمصيره.

في مقدم هذه المجموعة طبعاً هي زوجة الرئيس العراقي وابنة خاله ساجدة خير الله طلفاح التي ارتبط بها في العام 1962 وهو بعد في منفاه وأنجب منها خمسة أطفال (ولدين وثلاث بنات). وفي خضم اندلاع نار الحرب مع إيران، اشتعلت بين جوانح صدام حسين نار أخرى; إذ سرعان ما وقعت عيناه على اخصائية العيون سميرة الشاهبندر التي تنتمي إلى إحدى الأسر البغدادية العريقة، فتزوجها بعد أن طلّقها من زوجها نور الدين الصافي وأنجب منها عليا (19 عاماً).

ولم تمر الزيجة الثانية دون متاعب. فما هو معروف على نطاق واسع أن دافع مقتل طباخ الرئيس الخاص كامل حنا ججو على يد ابنه الأكبر عدي كان، في أغلب الظن، أن ججو هو «عراب» هذه الصفقة. وفي خلال ذلك، انزوت ساجدة في صومعتها لفترة لم تعمر طويلاً; إذ جرى تقليدها «وسام حزب البعث»، ضمن مراسم احتفالية لم تكن دون افتعال كبير، وأسبغ عليها لقب «أم المجاهدين»، و «الرفيقة المجاهدة الأولى في تاريخ العراق».

هذه «المجاهدة» كان عليها أن ترى بأم عينها سلسلة من الأحداث التي ألمّت بالعائلة: فمن جهة، كان عليها «تجرع السم» عندما قتل اخوها وزير الدفاع الأسبق عدنان خير الله في حادث سقوط طائرة هليكوبتر ظل يكتنفه الغموض وتحيطه الألغاز حتى يومنا هذا. ومن جهة أخرى مارست ساجدة سياسة «عض الأصابع» عندما عزل أخوها الأصغر لؤي خير الله من مناصبه الأمنية كافة دون إبداء أسباب وجيهة لهذا العزل، وهو متزوج من إحدى بنات علي حسن المجيد، ومتورط في عمليات قمع انتفاضة الجنوب في مارس (آذار) 1991 ومن جهة ثالثة، كانت فاجعتها الكبرى في هروب ابنتيها رغد (36 عاماً) ورنا (34 عاماً) بصحبة زوجيهما حسين وصدام كامل المجيد إلى الأردن.

وعلى أي حال، لم يكن هروب رغد (بصحبة ابنها علي وبناتها الثلاث) ورنا (برفقة ابنها أحمد وابنتها الرضيعة) مع زوجيهما إلى الأردن حدثاً عابراً في تاريخ العائلة الحاكمة، بل كان بالأحرى انعكاساً حقيقياً للخلافات التي بدأت تنشب أظفارها في جسد العائلة الذي تزاوجت فيه شهوة المال ورغبة السلطة.

من هنا لا يخطئ من يؤكد أن العائلة الحاكمة شهدت، خصوصاً منذ منتصف الثمانينات، تبدلاً في موازين القوى داخلها وهي التي ظلت على حالها ردحاً من الزمن دون ما تغيير في هيكليتها. وهذا التبدل يجد تفسيره في العداء الذي استحكم بين جناحي عائلة آل المجيد من ناحية وآل الحسن من ناحية أخرى، حتى قبل أن يدخل الابن الأكبر عدي على خط هذا العداء.

هكذا بات الثلاثي إبراهيم الحسن (الأخوة غير الأشقاء للرئيس العراقي) ينظر إلى ارتباط ابنتي صدام حسين بعائلة آل المجيد سوف ينعكس سلباً على مواقع آل الحسن داخل مؤسسات الحكم، وهي العائلة التي ينتسب إليها كل من برزان ووطبان وسبعاوي، الذين عملوا ما بوسعهم لإرضاء متطلبات الأخ الرئيس وهي كثيرة من أجل توطيد دعائم سلطته، وباتوا يتطلعون بشغف إلى اليوم الذي يقطفون فيه بعض الجميل عبر المصاهرة كي يغدو الجيل الثاني من أبنائهم على قاب قوسين أو أدنى من المراكز المتقدمة لـ«دار» الرئاسة.

كان برزان أحد أصغر المشاركين في انقلاب 17 يوليو (تموز) 1968، وبدأ حياته مرافقاً لأخيه، وهو متزوج من أحلام خير الله طلفاح (أخت ساجدة)، كما أن عدي تزوج من إحدى بناته سجى. هكذا، تسلق برزان المراتب بسرعة حتى تسلم في العام 1979 جهاز المخابرات العامة، وهو المسؤول المباشر عن المجزرة الجماعية التي قتل خلالها نحو خمسة آلاف مواطن كردي في أربيل في العام 1983، بيد أن الخلاف الذي تفجر على خلفية بزوغ نجم آل المجيد أبعده في العام ذاته إلى سويسرا حيث تسلّم هناك ممثلية بلاده في المنظمة الدولية.

وفي جنيف، برع برزان في توظيف أموال النظام في بنوك سويسرية ونمساوية، وكانت عودته إلى بغداد في العام 1998 دلالة على رضى رأس النظام على المجهود الذي بذله برزان في عمله بالخارج، خصوصاً في باب تنويع مصادر التوظيفات المالية للسلطة الحاكمة، وجرى تعيينه بمنصب فخري كمستشار في ديوان الرئاسة.

أما وطبان الحسن الذي تسلّم مناصب أمنية حساسة في أجهزة السلطة، فقد ارتقى هو الآخر إلى مرتبة وزير للداخلية. لكن تفجر الخلاف مع نجل الرئيس الأكبر ساهم ليس فقط في إصابته بطلق ناري من مسدس صوبه عدي نحوه، بل إلى انسحابه سريعاً من مسرح الأحداث أيضاً.

يبقى في الصورة سبعاوي الحسن الذي تولى في العام 1995 إدارة جهاز المخابرات العامة، ولكنه قبل ذلك أشرف على اعتقال المواطنين الكويتيين والتحقيق معهم وتعذيبهم إبان الغزو العراقي لدولة الكويت في أغسطس (آب) 1990. وبما أن علاقته بنجل الرئيس الأكبر شابها بعض التوتر، فقد تمت إقالته من منصبه وتجريده من عضويته في قيادة حزب البعث.

وفي خارج الصورة تطل فريال إبراهيم الحسن (الأخت غير الشقيقة لصدام)، وهي متزوجة من أرشد ياسين الذي شغل لفترة من الوقت سكرتيراً خاصاً للرئيس العراقي، وهو المنصب الذي شغله في ما بعد عبد حميّد التكريتي.

ما المصير الذي حل بابنتي الرئيس إثر اغتيال زوجيهما؟ بالنسبة لرغد وهي البنت الكبرى للرئيس، ظلت معتكفة عن الحياة العامة، وتمتلك شركة البادية للنقل البري التي ورثتها من زوجها المغدور حسين كامل، وهي شركة أسسها الأخير بعد العام 1991، وعيّن لإدارتها شقيقه جمال كامل وهو الوحيد الذي ما زال على قيد الحياة من أفراد أسرته. أما رنا فإنها تزوجت في العام 1999 من الفريق الركن كمال مصطفى العمر أمين سر مقر قيادة الحرس الجمهوري، وهو شقيق جمال زوج حلا (31 عاماً) الابنة الصغرى لصدام، الذي لعب أدواراً مفصلية في أجهزة الاستخبارات والأمن.

الظاهرة المصاحبة لهذا المنحى هي طبعاً رابطة الدم التي ظلت تحكم الدائرة المغلقة للرئيس العراقي، وهو ارتأى أن المصاهرة هي الرابطة الأكثر حميمية في الحد من غلواء نفوذ الطامحين من الأقارب للتآمر على سلطته المطلقة، وكان لهذا المنحى نتائج وخيمة دفعت بالعائلة كلها قسراً نحو إذكاء روح التطرف والعداء، وها هي اليوم تحصد بعضاً من نتائجهما.

* أكاديمي عراقي مقيم في فيينا