وثائق المخابرات العراقية تكشف عن هوس نظام صدام بأدق التفاصيل

مكالمات هاتفية بين مواطنين عاديين تصنف كوثائق استراتيجية قبل أن تحفظ كـ«سري جدا»

TT

اكثر ما ارهب العراقيين خلال سنوات حكم الرئيس المخلوع صدام حسين هو جهاز مخابراته بتفرعاته وشعابه الامنية داخل الدوائر المتخصصة ومحافظات العراق بحسب متطلبات التمركز الجغرافي.

كانت عيون المخبرين تراقب المدنيين والعاملين في الادارات في كل مكان، الامر الذي جعل فرحة العراقيين باختفاء نظام صدام تتبلور اساسا من خلال تفكك «القبضة الحديدية» التي مثلها جهاز المخابرات ورجالاته. فقد استعادوا راحة نفوسهم بالتعبير عما يخالجهم جهرا بدون رقيب يترصد مكالماتهم وتحركاتهم. فلا احد منهم كان يستطيع ان يتسلم منصبا او يرأس ادارة في السابق قبل ان يستوفي الشروط التي توضحها وثائق تابعة لاجهزة المخابرات العراقية بما فيها من اشارات الى ديانة الشخص وعلاقاته والاسفار التي قام بها الى خارج البلاد.

خلال زيارات تفقدية في اماكن وجود هذه الاجهزة سابقا في العاصمة بغداد وفي محافظة كربلاء التي شكلت لسنوات طويلة مصدر قلق للسلطات العراقية عثرت «الشرق الأوسط» على وثائق تشير الى ان اعمال التجسس على المواطنين شملت كل شيء تقريبا، بما في ذلك مكالماتهم الاعتيادية، التي توثق وتصنف كما توثق وتصنف اخطر المعلومات الاستراتيجية. ففي اماكن تجولت فيها او في ما تبقى منها من حطام لم يكن في السابق يخطر في بال احد مجرد اجتياز باب احد ابنيتها من دون سبب او دعوة رسمية فما بالك بالتطفل عليه والاطلاع على عدد من مستنداتها.

معظم ملفات المخابرات العراقية، بحسب مصادرنا هنا، نقلت الى اماكن آمنة قبل القصف لكن القليل المتبقي منها تعرض للحرق خلال عمليات القصف الشديد بالصواريخ لكن مع ذلك فهناك تلك التي نجت من الحرق وظلت تحت انقاض البنايات المدمرة.

ليس سهلا البحث عن مثل هذه الوثائق لصعوبة دخول المباني التي قد تنهار اجزاء منها في اي لحظة من شدة دمارها فضلا عن القنابل العنقودية التي قد تكون منتشرة بين الانقاض، كما حذرت من ذلك الجهات الامنية الجديدة في بغداد.

اما الجيش الاميركي فلم يكترث في البداية لامرها لكنه سرعان ما طوق هذه الابنية ومنع دخولها عبر بوابتها المعروفة.

والمثير ان عددا قليلا من الصحافيين اهتموا بمحاولة جمع ما هو متوفر من وثائق. وجل من ابدوا هذا الاهتمام وكانوا سباقين اليه هم من الصحافيين الاميركيين الذين بدوا لي خبراء في «حملة البحث والتنقيب» عنها وعارفين ادق المعلومات عن اماكن المكاتب التي ربما بقي فيها شيء يصلح للكشف عنه.

والحديث هنا ليس عن تلك المعلومات التي تساعد في فهم عمل المخابرات كما هو حال المخابرات العراقية بل انهم يبحثون عن اي وثيقة بامكانها ان تدين النظام العراقي السابق او تشير الى ارتباكه او قيامه بأي صفقة تجارية او غيرها للحصول على اسلحة الدمار الشامل.

ومن خلال قراءة سريعة لبعض تلك الوثائق وجدت ان المخابرات العراقية كانت مهووسة (لكثرة الوثائق الضامنة لهذا الباب) بمتابعة افراد مشتبه بهم والبحث والسؤال في ابسط الامور التي تتعلق بحياتهم وحياة زوجاتهم وأقاربهم حتى ان كانوا من تلك العناصر العراقية الموجودة خارج البلاد. كما تشمل الملاحقة والمتابعة للمدنيين تفاصيل عن الدوريات المزيفة «اللباس المدني» التي تحرس الاحياء وتتعرف على بعضها البعض باستخدام اشارات خاصة متفق عليها فقط لنقل اي تحرك مريب او سماع اي اشاعة تتناول اي جهة مسؤولة في البلاد. فالاشاعة التي تبدو لعامة الناس امرا عاديا تبدو من خلال الوثائق التي حصلت عليها بأنها «استراتيجية» قائمة بحد ذاتها في العمل المخابراتي. كما يوجد في هذه الوثائق جانب اساسي يهتم بمحاولة فهم واختراق المعارضة العراقية التي تنشط في الغرب وفي بعض دول الجوار من منطلق ما كتب تحت خانة «سري للغاية» حول «النيات العدوانية التآمرية ضد القطر».

وخشية التآمر بالنسبة للسلطات الامنية تكمن في امكانية اقبال بعض الجهات المعارضة على «شراء بعض الضباط في الجيش العراقي»، اذ تقول الوثيقة المؤرخة في 27 مايو (ايار) عام 2002 تحت عنوان «سري للغاية» ان عناصر ما يسمى بالمعارضة العراقية في الخارج تعمل على ضمان ومفاتحة قادة عسكريين وضباط للعمل على اسقاط النظام مقابل ابقائهم في اماكنهم ومسؤولياتهم (.. وسيبدأ العمل على ذلك من جنوب العراق وشماله ووسطه مع ضمان فتح حدود الدول المجاورة للعراق لعناصر المعارضة للعمل بحرية وبتنسيق مع ضباط وقادة الاولوية الذين تم التحرك عليهم). واضافت حول اهمية اختراق هذه المعارضة لقوات الحرس الجمهوري قائلة «سيتم ايضا عملهم على مفاتحة قادة الحرس الجمهوري كونهم مفتاح كل نصر».

وتعترف الوثيقة بامكانية حدوث ذلك مشيرة الى الوضعية المادية الصعبة للعسكريين، وتقول «ان عمليات التجسس داخل القطر مستمرة خاصة بين العسكريين الذين يعانون من اوضاع سيئة من الناحية المادية والمعنوية وانهم سيساندون اية عملية ستستهدف النظام، كما انهم يعانون من عملية التمييز بينهم وبين اقرانهم من الحرس الجمهوري» مضيفة «ان دعوة الدولة للشباب لاداء خدمة الاحتياط بين فترة واخرى ولد الكره الشديد للحكومة خاصة في ظل الظرف الاقتصادي الحالي».

والمثير ان هذه الوثيقة الموقعة برمز «ء.م.ع.م» لمدير جهاز الامن تخلص الى القول بان «الضربة الاميركية على القطر قائمة واحتمالات تأجيلها غير حقيقية، خاصة ان اغلب الدول العربية وافقت سرا على ضرب العراق كون الدوائر الغربية تخشى من المثلث العراقي ـ السوري ـ الايراني وخاصة ان العراق هو الذي يدعّم عوائل الاستشهاديين الفلسطينيين».

وابدى متسلم هذه الوثيقة تحفظاته عليها قبل ان يحولها الى مدير المخابرات اذ كتب عليها «هذه المعلومات قديمة واستحداثها الآن هو لارباك العمل».

ولاحظت ان نسبة 90% من المراسلات كانت مكتوبة بخط اليد والبقية بالآلات الكاتبة.

ومن بين الوثائق التي عثرت عليها «الشرق الأوسط»، مصنفات تدقق في اي صغيرة وكبيرة تخص بعض المدنيين الذين لا تأتي احيانا اسماؤهم بوضوح كما هو حال مستقبليها في الجهاز الامني اذ يكثر استخدام الشيفرات والرموز، حيث جرى تسجيل لمكالمة هاتفية بين عراقيين لم ترد اسماء المعنيين بها لكنها مع ذلك ادرجت الوثيقة ضمن ملف «سري للغاية وشخصي» موجهة الى «السيد م. م. ع. المحترم» (معاون المدير العام) بتاريخ 20 يوليو (تموز) عام 2002 العدد 11161. واترك للقارئ ان يرى ان كان العمل المخابراتي الذي يتوقعه اي منا ان يركز على مكالمة هاتفية باللهجة المحلية لا يبدو من خلال قراءتها انها تهدد امن وسلامة العراق كي يوقع على استقبال نسخة منها نحو ثلاثة مسؤولين على ثلاثة اقسام مختلفة داخل الجهاز.

وقالت الوثيقة: م/ مكالمة طيّ مكالمة هاتفية مسموعة من طرفين باللهجة العراقية وردت على منظومة الاقمار الصناعية. التفضل بالاطلاع مع التقدير.

ـ .... ها شنو؟

* هو مسجل بالمدرسة في جيش القدس.

ـ اي، وبعدين؟

* ها هيّ، سجل بعد.

ـ شنو، دوروا عليه؟

* لا ما جايين، بس كالوا لي يعني.

ـ ها؟

* حملة، حملة.

ـ اي، عادي. خلي يجي يشارك، شكو بيها. والله يالله يجي يشارك وغصبن عليه.

* اي، يكولون خلي يجي للمدرسة يراجع.

ـ يالله، اول ما يجي يراجع ويروح يداوم، شكو بيها؟

* الجهال (الاطفال) زينين؟

ـ كلهم زينين. اي. اي. غصبن عليه. اي هسا رجع الخط.

* .... خالي (فاضل) هم راح بالأربعة تقريبا.

ـ اكللك، شوكت اجوّي عليه؟

* ما اجوا، بس يجي كالوا لي يجي، لا، لا.

ـ ما أفتهم كل شي، لانه.... ثقيل.

* ها...

ـ اي الحمد لله والشكر، يالله، اكللك، اذا شفته الاستاذ (عادل)

* اي، اي.

ـ كلليله يابه... ويّه ابويه، بس يجي يداوم. زين سلّمينه.

* شلونهم همّه، زينين؟

ـ كلهم زينين. يالله، في امان الله.

* ديالله، غير وقت، في أمان الله.

والشيء الوحيد الذي يمكن ان يكون قد استقطب اهتمام رجل المخابرات الذي قام بتسجيل هذه المكالمة هي اشارة المتحدث الى جيش القدس الذي اسسه الرئيس صدام حسين لدى انطلاق الانتفاضة واصبح يجوب شوارع بغداد، واصبح كل مواطن عراقي مجبرا على الانضمام اليه وتقليص ساعات عمله للذهاب الى التدريب والا فان ملفه لدى المخابرات سوف يحمل علامة «مواطن غير صالح» والله بعدها المعين.