سامي ميخائيل: إنهم يدمرون مدينة شبابي

كاتب إسرائيلي من أصل عراقي يتحدث عن أمه.. وعن صدام

TT

ولد الكاتب الاسرائيلي سامي ميخائيل في بغداد عام 1926، أي في نفس السنة التي ولد فيها الشاعران الراحلان عبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري. وفي شبابه انتسب الى الحزب الشيوعي العراقي وناضل سريا في صفوفه. وفي عام 1949، هاجر الى اسرائيل مع عائلته. وقد اصدر الى حد الآن 13 رواية آخرها حملت عنوان: «الماء يعانق الماء» التي تتصدر قائمة أفضل المبيعات في اسرائيل راهنا. وخلال الحرب التي شنها التحالف الاميركي ـ البريطاني رأس «جمعية التضامن مع الشعب العراقي». وفي نص جد مؤثر حمل عنوان «صدام ووالدتي» كتب سامي ميخائيل يقول: «كان الطاغية العراقي ـ يقصد صدام حسين ـ حاضرا طول الوقت في الشعور العربي والاسرائيلي، فبالنسبة لليهود هو كان يمثل كنزا ثمينا للدعاية، ذلك ان وجوده يسمح بأن يظهروا بلادهم للعالم على الصورة التي يتمنونها: بلد صغير يبحث عن السلام، وهو ضحية سوقي شرس يهدده بأسلحة الدمار الشامل. أما العرب، خصوصا منهم أولئك الذين يعشقون أساطير الصحراء، فقد رأوا فيه رمز الفارس الشجاع والجسور، الذي كان قد هزم في الماضي اعداءهم وأسس امبراطورية مجيدة. وهو يواجه دونما خوف أو رهبة قوتين كبيرتين هما الولايات المتحدة وبريطانيا اللتان حوّلتا العالم بأسره الى حلبة خاصة بهما».

ويواصل سامي ميخائيل قائلا: «مثل عدد كبير من المهاجرين العراقيين الى اسرائيل والى بقاع أخرى من هذا العالم، كنت قد قدّرت صدام حسب معايير تاريخية، وكنا نعلم ان الذي سوف يدفع الثمن غاليا هو الشعب العراقي، سواء في النصر أو في الهزيمة. وكنا نعلم ايضا ان الذين كانوا يساندونه خارج العراق سوف يكونون كثيرين وان التصريحات التي سوف يدلون بها سوف تكون شلالا من الكلمات، لكننا كنا ندرك ان الشعب العراقي سوف لن يضحي من أجله ذلك ان عددا كبيرا منهم كانوا يعلمون جيدا ان صدام حسين لا يمثل العراق. ان العراق واحد من أغنى بلدان العالم، لكن على ارضه يعيش واحد من افقر شعوب الارض بسبب طغاة من امثال صدام حسين(..) والحرب الاخيرة لم تفاجئني. فلقد بدأت يوم 11 سبتمبر (ايلول) 2001 بسقوط برجي التجارة في نيويورك واعلان الرئيس بوش الحرب ضد ما سماه بـ «محور الشر» (..)، وقد شاهدت بغداد تقصف بشدة يوما بعد آخر، ومن مدينتي، مدينة حيفا كنت اشعر انهم يدمرون مدينة شبابي. وبعد سقوط بغداد، شاهدت على شاشة التلفزيون الجموع وهي تهجم على الجامعة الرائعة وعلى المؤسسات العامة. منذ ازيد من ألف عام، أي منذ غزو المغول لها، لم يعرف العراق كارثة حلت به كمثل تلك الكارثة. وبعيني رأيت قطعة من حياتي تحتضر. وقبل اسبوعين من ذلك، كنت قد فقدت احد أسس وجودي، فقد اغمضت والدتي التي قاربت المائة عام عينيها والى الأبد. وربما تكون قد ولدت قبل وقت قليل من والدة صدام. وعلى أي حال الاثنتان ولدتا في العراق. وهم يقولون ان والدة صدام حسين جاءت الى العراق لكي تضع ابنها، وربما تكون الصدفة هي التي جعلت مصير المرأتين يتقاطعان في مدينة كانت في ذلك الوقت متواضعة ومتفائلة. كانت والدتي تحب بغداد، فلقد كانت مدينة أول قصة حب عاشتها وفيها بنت بيتا جميلا لأولادها الثمانية. غير ان الموت حلّق فوق عشها، لذا تخلّت عن البيت لكي تنقذ أعز ما عندها في الحياة أي أولادها، وهكذا تركت العراق والى الأبد. وخلال حرب الخليج الأولى، كانت امي قد بلغت الواحدة والتسعين من عمرها، وكانت عجوزا غير انها ظلت جميلة، وذات ليلة، خلال الحرب، كنت نائما عندها، لما دوت صفارات الانذار خفت ان اجبرها على ان تركض حتى المخبأ فاقترحت عليها ان تجلس في المطبخ بمواجهة الشارع وان تشرب شايا معدا على الطريقة العراقية، امسكت بفنجان الشاي وقالت: «أليس له أولاد؟ ـ (تقصد صدام) ـ فليشفق عليهم على الاقل» اضافت بحزن. وقلت لها انه حتى الطغاة يخشون على مصير ابنائهم، غير انها لم تقتنع».

وبنفس النبرة الحزينة، واصل سامي ميخائيل نصه الجميل قائلا: «عقب ثلاثين يوما من الحداد على وفاة والدتي، التقينا جميعا حول قبرها، نحن ابناءها واحفادها واحفاد احفادها في حين كانت الدبابات الامريكية والنهابون العراقيون يطفئون أضواء المدينة التي ولدت فيها ويغتصبون شوارعها. وكانت شاهدة قبرها الجد بسيطة اشد صلابة من كل التماثيل التي شيدها الطاغية تمجيدا لنفسه».

ومستعيدا ذكريات الماضي المظلم، كتب سامي ميخائيل يقول: «نحن يهود العراق دفعنا الثمن غاليا من أجل تأسيس دولة اسرائيل، فقد طردنا من العراق لأننا يهود غير مرغوب فينا، وعند وصولنا الى الدولة العبرية اصبحنا رغما عنا اعداء للبلاد التي منها جئنا. في اسرائيل نحن ما زلنا حتى هذه الساعة نعامل كمواطنين من الدرجة الثانية. وعندما طردنا من العراق، استولى رجال الشرطة في مطار بغداد على فساتين والدتي التي كانت قد خاطتها لنفسها ولبناتها.

ومن بيت جميل محاط بحديقة في حي «الكرادة» الراقي، وجدت عائلتي نفسها بين عشية وضحاها، تحت خيمة حامية ملقاة في حقل يقع في ضواحي تل أبيب. ومثل كل القادمين من بغداد، لم يحصل والدي على أي شيء (..). فقد كان قدم الى اسرائيل ومعه بذلتان أنيقتان وحذاء ملمّع ورباط عنق جميل، ومثل الآخرين، ارسل لقطع الاعشاب البرية على حواف الطرقات. ولم يكن يتكلم اللغة العبرية ليعبر عن المأساة التي حلّت به. وفي اسرائيل كانوا يقولون له: «افرح! ابتسم! فأنت محظوظ لانك حققت الحلم الذي تبتغيه!».

وهذا هو مصير الأحلام، والآمال والمشاريع في منطقة الشرق الاوسط برمتها. وانا متأكد من ان والدي له اشباه كثيرون بين اللاجئين الفلسطينيين، وبين اكراد العراق وأرمن تركيا، على الأقل لم يتم القضاء على عائلة والدي بالغازات السامة مثلما حدث للأكراد في حلبجة. وكانت الى جانبه امرأة قوية هي والدتي التي اعتنت بأولادها بطريقة رائعة. وهو عرف احفاده واحفاد احفاده. وكان مغرما بالأدب الجيد غير انه كان يزن الزمن حسب الطريقة العربية أي اعتمادا على الكوارث والحروب. ووفيا لهذا التقليد، بإمكاني ان أقول انه مات عجوزا سعيدا عاما قبل حرب الخليج الثانية».