صدق أو لا تصدق.... القدود الحلبية ليست حلبية

أكاديمي شامي يضع حمص في مواجهة حلب ويحاول أن يجرد مدينة سيف الدولة الحمداني من مأثرة ابتكار فن القدود

TT

يا قاتلي باللحظ اول مرة

اجهز بثانية على المقتول

لكن دعه يستمع اولا الى (قدية) فلا تأتي حلب الا ويأتي الطرب يسبقها وخلفه ذكريات عمر ضاع ربعه الاجمل بين (ابو اكوب وهب الريح) ولم يعرف صاحبه حتى اليوم لماذا يقولون يا مال الشام وليس يا مال حلب او يا مال اللاذقية - ويا مايلة عالغصون - ومعها - يا قامة الرشأ المهفهف ميلي ـ ما عدنا نريد ان نعرف:

القراصية منين منين؟؟ فقبل هذه ـ العويصة الحلبية ـ وهي من الفروع هناك خلاف على الاصل لا بد من مناقشته والوصول فيه الى رأي قد يغضب مدينة فنية كاملة او يفرحها.

فهناك من يزعم ان القدود ليست حلبية وفي جعبة - المكبتر ـ رسالة محبرة من توفيق المنجد يطالبنا فيها بتصحيح ذلك الخطأ الفاحش، فالقدود حمصية وليست من مدينة حلب. ولا ادري اين الخطأ فلا يوجد اجمل من قدود الحلبيات غير القدود الحمصية ـ من ينقذنا بعد هذا الحكم الاحمق من براثن الشاميات وعرائس البحر ـ اما ما يحمله عنق القد ففيه خلافات، والاغلبية السورية توافق في أي استفتاء ديمقراطي لا يشارك فيه اصحاب النفس الامارة بالسوء والقبح على ان الحمصيات اجمل السوريات قاطبة وهذه تساهلت فيها حلب. اما ان يأتي من يسلبها مأثرة اختراع القدود فتلك وايم الله حرب نفيرها اعلى من سحبات صباح فخري في الليالي التي يتوقف فيها القمر عن الدوران وينتظر مليحات القدود وهن يرتبن ويصلحن ماكياج المساء ليستقبلن به شمس الصباح في منتزهات السبيل والميماس والزبداني والانصاري.

ولا اظن اني استطيع التملص من الاجابة عن اسئلة المنجد الذي يريد ان يسلب حلب ذلك المجد مع ان كنيته حلبية. ونقطة القوة في رسالته انه ارفقها بمقالة قديمة لاستاذنا الدكتور عمر موسى باشا الذي كان رئيسا لقسم اللغة العربية بجامعة دمشق تدعم فكرة سلب القدود من اهل حلب. اما نقطة الضعف ففي المرفقات ايضا لأن الباشا يعيد القدود الى بلدة بين حماة وحمص اسمها ـ ويا لفرحة محمد الماغوط ـ سلمية، وينسب ذلك الفن العريق جميعه الى شاعر من تلك البلدة اسمه امين الجندي.

ولا اعرف ان كان هذا الجندي جدا لشاعر سورية الكبير - امد الله في عمره - علي الجندي، ففي القرن التاسع عشر كان كل من يذهب الى العسكرية يصبح جنديا وتصبح له ذرية تحمل لقب وظيفته العسكرية. والمهم ان امين الجندي المتوفي عام 1841 ميلادية كان هو صاحب القصيدة التي اوصلها ناظم الغزالي الى النجوم من كثرة ما غناها واجاد وهي قصيدة افتخار الكهول بالشعر الفضي:

عيرتني بالشيب وهو وقار

ليتها عيرت بما هو عار

ان تكن شابت الذوائب مني

فالليالي تزينها الاقمار

واذا كان الشيوخ يفتخرون بالشيب ويخدعون انفسهم فما ذنبنا نحن ليخدعنا استاذنا الكبير عمر موسى باشا بقوله «ان العاملين الزماني والمكاني غير متوافرين لنشوء الموشحات والقدود في حلب»

لماذا يا دكتور؟

وما الفرق ونحن في القرن التاسع عشر بين حمص وحلب ودمشق، فهنا يجري العاصي وهناك بردى وقويق. فحلب لم تكن - آنذاك - دون نهر وقوارب ومنتزهات على ضفاف الماء فقد اصابها الجفاف في خمسينيات القرن الماضي وليس قبل ذلك. وكانت النتيجة المأساوية ان جف قويق ثم بردى مع ان بعض القادمين حديثا من دمشق يؤكدون ان الاخير عاد يجري بصورة طبيعية وليس خوفا من المخابرات. اما عن اقتران الموشحات والقدود والربط بينهما فمسألة لا تحتاج الى جهد.

ان الاندلس خلاصة المغرب والشام وزبدة ذلك التلاقح. وشاءت الظروف ان تكون معظم القبائل التي هاجرت للاندلس قبائل سكنت الشام وباديتها والمدن التي يحيط بها، وقد ظل الاندلسيون الاوائل يتطلعون الى حمص ودمشق وحلب ويقيمون المباني واسلوب العيش والموسيقى والملابس على ذلك الطراز، ومن الطبيعي ان تكون الطبيعة المتقاربة ووسائل العيش المتشابهة طريقا معبدا لنشوء فنون متقاربة.

ان الموشح ومعه القدية وليدان طبيعيان لبيئة غناء ورقص وشراب وطبيعة ساحرة، وهذه صفات عامة تنطبق على ربع الكرة الارضية. لذا لا بد ان نأخذ تطور صناعة الموسيقى بعين الاعتباروكذلك فلكلور الشعوب الاقدم خصوصا وان هناك من يجرد العرب وفنونهم من مأثرة اختراع الموشح، ويعيد ذلك الى القوط الذين كانوا يسكنون اسبانيا قبل العرب فكل الذي فعله العرب على رأي المستشرقين الكبيرين (خوليان ريبيرا وجارسيا جوميز) انهم اخذوا الاغاني الاسبانية القديمة وصنعوا على منوالها دون ان يكون لهم أي فضل في الابتكار.

ولن نطيل في الصلة بين الموشحات والقدود فالموشحات تستحق وقفة وحدها ولنا اليها عودة لاظهار الخلافات الجذرية على هذه الجبهة المعقدة التي تختلط بها السياسة بالفن، وهناك مجلدات حول هذا الموضوع سندقق في ابرز نظرياتها لاحقا فكل ما يعنينا اليوم ان نعرف ان كانت القدود حلبية فعلا او ان مدينة سيف الدولة الحمداني سرقتها عنوة من مدينة خالد بن الوليد.

لقد كتب امين الجندي حسب احصاءات الدكتور باشا مئتي قدية اشهرها:

يا صاح الصبرو هى مني

وشقيق الروح نأي عني

والمطربون يحيلون شقيق الى حبيب مع ان الاصل اجمل واعمق. ونظام القدود كما استقر في بلاد الشام يقتضي ان تتألف القصيدة - القدية من لازمة احادية تتكرر وبعدها خمسة او عشرة ادوار مزدوجة او رباعية كقول امين الجندي من النوع الثاني:

هيمتني تيمتني عن سواها اشغلتني

عاتبي ماذا عليها باللقا لو اتحفتنيي

ولعل اهل الخبرة بالقدود يذكرون انه يقول في هذه القدية - جوجحتني مرجحتني - وكانت هذه الالفاظ حرية ان تذكر الاكاديمي الشامي الكبير بأن شرط الموشحات والقدود غير المعلن الحق في استخدام العامية، فالقدود والموشحات ولدا في بيئة مهجنة العروبة وعذرا من حلب التي لا اظنها تنكر التأثير التركي من - امان جانم امان ـ الى اطباق المازة التي يمزمز عليها المصغون للمغنيفي الميدان والسليمانية.

وفي قدية جوجحتني واللازمة التي تليها يخلب صباح فخري الالباب دون ان يدري انه يغني القدود الحمصية لا الحلبية. فمن لا يذكره من ابوظبي الى القاهرة الى لوس انجليس وهو يشدو بصوته الحلبي وقامته التركية:

يا غزالي كيف عني ابعدوك

شتتوا شملي وهجري عودوك

وكل هذه القديات التي ملأت شهرتها الافاق من نظم شاعر سلمية امين الجندي وتلك البلدة ليست جديدة على التاريخ السياسي العربي فهي التي دمرها القرامطة حين اتخذها ائمة الاسماعيلية مقرا قبل ان يتوجهوا الى شمال افريقيا لكنها جديدة على تاريخ الفنون الغنائية، خصوصا وان هناك من يريد ان يعطيها مجد ابتكار القدود الحلبية من خلال الشاعر الذي كان يطعم كل قدية كما يقول الاكاديمي المرموق الباشا بالتغزل ببنات قريته سلمية وبشالهن المميز الزاهي الالوان والذي سيصبح لاحقا (موضة) عالمية ومن ذلك الكثير قوله في قدية -هيمتني تيمتني:

تسدل الشال السليمي

فوق اعطاف شجتني

وكان بامكان الدكتور عمر موسى باشا ان ينسب القدود الى السلمية ويرتاح، فأمين الجندي من هناك وعاش لاحقا في حمص ودمشق وبذا يظل للاصل الفضل والاسبقية. لكن الاكاديمي الذي يريد تجريد حلب من قدودها وضع حمص في مواجهتها لأنها اكبر واشهر لحرمان حلب من التميز في تطوير ذلك الفن. وما ضره - غفر الله له ـ لو اقترح انطلاقا من - يا مال الشام - اسم القدود الشامية نسبة الى سورية الكبرى كلها، ولو فعل لما اعترض عليه احد فالموشحات الاندلسية ومع انها نشأت في جيان والمرية واشبيليا والوادي الكبيروقرطبة فانها نسبت الى الاندلس كلها حيث الطبيعة الساحرة في كل مكان من ذلك الفردوس المفقود.

ويبقى الجانب الصوفي من المسالة فالدكتور باشا وتوفيق المنجد الذي نقل مشكورا الينا رأيه يعتقدان ان بيئة حمص الصوفية التي عاش فيها الشيخ ـ الشاعر كانت وراء اختراع القدود، وبالتالي فان تسميتها بالقدود الحلبية وليس الحمصية جور وظلم كبير يلحق بذلك الشاعر المبدع وبلده .

والذي يهمله الاكاديمي المجدد هو ان الموشحة الصوفية من الفنون القائمة بذاتها قبل امين الجندي بوقت طويل، وقد نظمها سلطان المحبة محيي الدين بن عربي عند سفوح قاسيون ومن موشحاته تلك:

دخلت في بستان الانس والقرب كمكنسة

فقال لي الريحان يختال بالعجب في سندسة

انا هوالانسان مطيب الصب في مجلسه

جنان يا جنان اجن من البستان الياسمين

وحلل الريحان بحرمة العاشقين

ولا يستطيع احد تصحيح الجور مهما كانت عدالة المطالبات الفنية، فالقدود ستظل حلبية بسبب صباح فخري. ولو انجبت حمص او دمشق مطربا يغنيها بذلك الاتقان لصارت القدود حمصية او دمشقية، فالذيوع كما علمتنا الفنون للمطرب اولا ثم يأتي الملحن وفي النهاية كاتب الكلمات وهناك الوف الاغاني لا نعرف من كتب كلماتها. ولولا بحث ذلك الاكاديمي وتنقيبه لظلت القدية شائعة دون ان يسأل احد من نظمها شأنها في ذلك شأن مئات الاغاني الفولكلورية الشهيرة التي لا تنسب لأحد وبعضها تأليف جماعي وبعضها الآخر لشعراء اشتهرت اغانيهم ولم ينلهم من شهرتها نصيب. فهل يستطيع الدكتور المتعصب لحمص ـ مثلا ـ ان يخبرنا من هو كاتب تلك الاغنية الشعبية السورية التي تشتهر بها قرى الشمال السوري وبادية الشام.

(يابا لا لا لا يابا لا لالامين شرد لي الغزالة.... سألت الزين راحت على فين .... قالو ا شردت لحالا.. ويابا لالا لا يابا لا لا لا )

لقد نضجت القدود في حلب وحملت اسمها لانها مدينة طرب منذ الازل الى هذه الايام، وربما تكون المدينة الوحيدة في العالم التي خلقت طبقة من - السميعة - الذين ينافسون نقاد الفن. ومن المعروف ان المرحوم محمد عبد الوهاب كان يهاب الغناء فيها خوفا من تلك الطبقة التي ترفع المطرب او تخفضه، لكن قبل ان نفتي بحلبية القدود لا بد من نظرة على الموشحات فقد يكون الجواب في الاندلس.