شاعر البعث سابقا يفتح النار على المداحين.. ويغني لسقوط الصنم

علي الحلي: مجابهتي الأولى مع حزب البعث كانت مع بداية الحرب العراقية ـ الإيرانية القذرة * عندما طلبوا مني قصيدة مدح للجلاد تركت وصيتي وحددت مكان إقامة الفاتحة

TT

في العراق.. كانت مشكلة كبيرة ان يكون الانسان اديبا، او شاعرا.. فهو ان اعلن عن نفسه بهذه الصفة، او عرف بها، تتنصت اسماع الجدران حتى على صمته.. ان كان شاعرا.. فلماذا لا يمدح الدكتاتور.. وما دام هذا الشاعر لا يمدح الدكتاتور فهو (خائن) و(عميل)، ويستحق شتى انواع العقاب.. والامر ينطبق على الاخرين، لا مهرب من العقوبة لمن لا يستجدي عطف «الرفيق القائد».

ولكن الامر الاشد هولا.. ان يلقي الشاعر قلمه ويرفض ان يكون ضمن جوقة المداحين، خاصة اذا كان من كبار الشخصيات المعروفة في تيار البعث.. هكذا شخص، لا بد ان يستحق القتل.. يجب ان يموت، وقد قتل صدام اقرب اصدقائه ان كان يعرف معنى الصداقة لمجرد شعوره بـ«قلة ولاء» الشخص المعني.. فلماذا لم يفعل ذلك مع الشاعر علي الحلي..؟

لسان الشاعر علي الحلي يقول انه فعل ذلك، وفعل اكثر.. لان ما هو اصعب من الموت ان يجعل الانسان ينتظر او يتوقع الموت في اية لحظة.. في حادث سيارة، او عيار ناري طائش، او قطرات سم.. وكان علي كما يقول يتلو وصيته كلما خرج من البيت، وكأنه ذاهب الى الموت وليس الى المقهى. قامت «الشرق الأوسط» باجراء الحوار التالي مع علي الحلي:

* هل ستعود الى الشعر، او يعود الشعر اليك؟

ـ ليست العودة الى الشعر قضية ذات اهمية كبرى بالنسبة لي.. اليوم سواء اعاد الشعر لي.. ام عدت اليه. فالامر سيان على وفق السياقات الوجدانية التي لا تتصل مباشرة بحاجات الانسان المادية اليومية، ولا تدخل بتاتا في تفاصيل الحياة الاقتصادية، او مفاصلها السياسية.

وفي تقديري وهذا رأي عرضته قبل اكثر من ثلاثين عاما لم يعد الشعر عموما يشكل هما انسانيا بالنسبة لآلية البشرية المعاصرة، بعد ان امتصتها عوالم التقنية واجهزت على احساساتها المرهفة حماقات عنصر السرعة الجنونية، وانحسار عامل «الاسترخاء الذهني» من مساحة العقل البشري المبدع بصورة مخيفة ومتصاعدة، وليس من شك عندي، بان الشعر بطبيعته.. ملتزم في جوهره الاصيل بعنصر «التأمل» الصافي على مسرح الخيال، ومن ثم الانفلات الفعلي من ضوابط الظروف المادية، التي تلتهم قوت الوجدان، وتسحق اكسير الروح.

وهكذا.. اختفت دواوين الشعر من الاسواق ومكتبات بيع الكتب الا الدواوين الشعرية القديمة، وبشكل ملحوظ. وليس هناك ناشر تجاري قد يجازف في طبع مجموعة شعرية على حسابه الخاص الا ما ندر، وبشروط معينة، وفي حدود ضيقة جدا. وليس كل الشعراء، او اكثرهم من نمط «نزار قباني» الشعري، ليلقى الشعر رواجا غير عادي في شرقنا العربي.

فرق كبير.. بين شعر يعتمد على الاثارة السياسية الحادة لعواطف الجماهير ومشاعرها المباشرة، كما حصل في شعر الجواهري وعلى امتداد القرن العشرين تقريبا، وشعر يطال الاثارة الجنسية، او يدغدغ العاطفة الشهوانية كما حصل في شعر نزار قباني.

وبكل ايجاز.. هذا هو حال الشعر اليوم في العالم كله. اما بقاياه فما زالت تنعم بالحياة وببعض العنفوان في البيئات الرعوية، والرقعات الزراعية، والمجتمعات القبلية البدائية وبنسب متفاوتة.. في الوقت الذي يلاقي الشعر اندحارا فظيعا في المناطق المتقدمة صناعيا وتقنيا، وابتعدت عن سبل الحياة الريفية الاولى بشكل او بآخر، وانغمست في نمط الحياة الآلي، والروبوت، والانترنت.

ان التساؤل عن عودة الشعر، او العودة اليه، ليست مسألة ذاتية، يتحكم فيها الانسان وفق مشيئته وهواه، بل هي ذات ابعاد خارجة عن نطاق الذات وتتعلق بالمؤثرات العامة.. مثل ازمة العصر، وازمة الاخلاق والمثل العليا، او ازمة ضمير الانسان نفسه، وتغير معالم حضارته بشكل حاد، يلغي الكثير من اختياراته ومعادلاته في مجالات الفكر والممارسة معا.

* شاعر البعث يطلب التقاعد

* المعروف انك اول من تصدى للمداحين من الشعراء والادباء، على الرغم من انتمائك لحركة البعث منذ البدايات.. الم تصادفك متاعب في هذا المجال وانت تخرج عن سلطة المديح وجوقة المادحين؟

ـ قبل كل شيء.. افترض الاجابة عن السؤال لا تنطلق من بدايته، لكي يتحقق الانسجام العملي بين الحدث والزمن، والعكس من ذلك صحيح ايضا. ان افتراقي الكلي عن فكر الحزب، وكنت شاعره في العراق مثلما كان سليمان العيسى شاعره في سورية، قد جرى منذ عام 1979، وبصورة ادق واكثر صدقا منذ اعدام الطليعة القيادية الشريفة، المخلصة، النقية (مجموعة عبد الخالق السامرائي ورفاقه)، وانزلاق الحزب الى هاوية الديكتاتورية والفاشية ومعاداة الشعب.

وعندما قدمت طلبا باحالتي الى التقاعد من الحزب لاسباب طبية مقنعة، اتذكر ان بعض قياداته وجهت لي سؤالا محددا عن السبب المباشر في ترك الحزب: اجبت بصورة مختصرة ومحددة، وبجرأة ايضا حسدت نفسي عليها في ذلك الجو الرهيب، (ايها الرفاق: انني اشعر صادقا.. باني اصبحت غريبا عنكم.. وانتم غرباء عني. اقصد اني غريب عن الحزب.. والحزب غريب عني. وغربتي من داخل نفسي).

ولقد عرضت نفسي لمخاطر جمة منذ تلك اللحظات السود، ولكن الرأي العام السائد عني كان يحظى بكثير من الايجابية.. فلم امارس او اساهم فعلا جانبيا مع اية كتلة داخل الحزب او خارجه.. في عمليات تآمر او مروق او تحايل او تدليس او صراع او ابتزاز مالي الى غير ذلك من الاعراض السياسية والاجتماعية التي ابتلي بها كثير غيري..

ولقد ساهمت صراحتي المفرطة في الدلالة على سلامة توجهي الشخصي ونقائه، وثمة نقطة مهمة يجب توضحيها اول مرة.. فقد كانت مجابهتي الرئيسية الاولى مع الحزب قد انطلقت مع بادية الحرب العراقية ـ الايرانية، وكنت مؤمنا بانها حرب قذرة لا تمتلك الشرعية، ولا الوطنية، ولا البعد القومي او الديني، وكانت اقرب الى حرب طائفية ـ عرقية قد سخرت من قبل حلف الناتو، وحلف وارسو، وبأسناد دول عربية معينة.. ولقد فطنت الى كل ذلك وقبل اندلاع الحرب، وقد نشرت مقالا خطيرا بعد نهاية الحرب الاخيرة.. بعنوان «كيف سقطت المخابرات العراقية في شراك الحرب العراقية ـ الايرانية» استندت فيه الى رؤى محلل دبلوماسي غربي، كما استنتجت منذ البداية وفق تصوراتي الخاصة.. انها حرب لا تمتلك الشرعية، ولا الافق الوطني، ولا البعد القومي.. وانها حظيت بدعم كل القوى، المؤيدة للغرب عموما، والمعادية للثورة الاسلامية بقيادة الامام الخميني.

* فجاءات ما بعد الصمت

* ومرت سنوات انقطعت فيها عن نشر الشعر.. في الوقت الذي كانت كل ضفادع الشعر وجحافل النظامين، تضخ نقيقها في كل زاوية آسنة ومستنقع في قصور الطاغية ومؤتمرات اعياد ميلاده الوثنية.. لكن ما ان احتلت القوات الايرانية مملحة (الفاو).. وهي قطعة من ارض وطني، وظلت تراوح في احتلالها، عند ذلك تدفق في داخلي نازع الكرامة والحس الوطني العارم الممتزج بالقومي. وكانت نقطة البداية في الكتابة عن الحرب، واكثر قصائدي عن تحرير (الفاو) بالطريقة التي احتلت فيها وفق الحسابات الاميركية كما تعلم الجماهير العربية من تلك الحرب المجانية القذرة، التي اشعلها الجلاد صدام بالتواطؤ مع القوى الاجنبية، والحديث يطول.

اما المتاعب التي جرتها علي فكانت تآكل جسدي واحساساتي، وفي تلك الفترة انصرفت الى الترجمة.. للتغطية على صمتي او هروبي عن نشر الشعر، كما اخذت في كتابة بعض المقالات المقصودة، وفيها اغمز الشعر وسوء حاله وانحداره في اكثر بقاع العالم، كما رحت اترجم اية مقالة تؤيد وجهة نظري وكانت متاحة.

وبعد غزو الكويت بتلك الصورة الهمجية، واندلاع (عاصفة الصحراء) التي اطلق عليها «ام المعارك»، وهي من اكثر هزائم التاريخ المنكرة، فانني لم انشر حرفا واحدا يشير الى ذلك العار الصدامي. وبدأت لحظتها وفي بداية عقد التسعينات، وخلال وجود قوات الغزو العراقي في الكويت.. كتابة القصائد المحرمة، واخذت بالاحتفاظ بها في مكان امين، وبعد ان كتبتها بنسختين وقد تجاوزت الثلاثين قصيدة.. بدأت تظهر بعد سقوط النظام الفاشي تباعا، وكان لها صدى قوي لدى الناس بما يشبه الفجاءات بعد الصمت الطويل.

* عاصفة لوثت الوجدانات والأفئدة

* نعرف تماما.. انهم حاولوا جرك الى الطريق الذي سار عليه الآخرون من الانتهازيين والمشوهين وخدم السلطة المتجولين.. ترى كيف استطعت المقاومة والصمود.. كل هذه السنين؟

ـ كان امرا صعبا جدا استلزم الكثير من التحوط والتحفظ وبعض التقية المشروعة لان كل من كان يحيط بي مشكوك في نزاهته ونظافته ومبدأيته، بما فيهم اقرب رفاقي واصدقائي الذين يظهرون الود المزيف على قسماتهم، وفي ايديهم الخناجر المسومة، والتقارير الجاهزة لاسيادهم من رجالات الامن.

وكما ذكرت في البداية.. انني نفضت يدي تماما من الحزب بتقرير طبي، لكنني وقعت في معترك التحدي والصمود والصبر بوجه العاصفة التي اقتلعت حتى الاشجار الصلبة، ولوثت الوجدانات والضمائر والافئدة، سواء عن طريق الارهاب والتلويح بالعصي الغلاظ.. ام عن طريق الرشوة والمال الحرام ومنح الهبات.. من الاراضي والدور والشقق السكنية والسيارات الفاخرة، والتمتع بالسفرات المجانية حول العالم وطبع مؤلفات الشحاذين من الشعراء والنظامين وكتاب الحكايات السلطانية.. لتشجيع قطيع المتسولين على الاستمرار والتواصل في مديح الحاكم الطاغية والتسبيح بحمد سلطته الباغية من خلال تسخير اقلامهم المأجورة وعواطفهم الرخيصة.

وبلا مبالغة او تزوير للتاريخ.. كان الشعر الثوري الاصيل في عقدي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم صورة مثلى من «الطهارة» في اغلب توجهاته لكنه.. وفي ظل النظام الديكتاتوري المتخلف تحول النظم الشعري في واجهته الامامية الى التجارة، وبعد ان ترسخت صنعة قصيدة المديح الكسيح الى صورة يومية ميكانيكية، مفرغة من الفن والحدس والنبوءة.. تحول هذا النمط من كتابة الشعر الى مهنة النجارة وقطع الاخشاب، وحين بلغ الهرم الوثني اعلى قمته في المديح غدت سلعة الشعر نوعا من ممارسة الزنى والدعارة الفكرية حتى سقوط الصنم في ام الحواسم العقيمة.

وبكل اصرار منقطع النظير، اسقطت من جانبي كل الذرائع والشرائع المتصلة بالهوان الصنمي امامي، وتساميت بعناد فوق كل المغريات والاغواءات، وعاهدت وجداني بيني وبين ربي الا اخون الحرف والكلمة، وان انسجم مع معطيات الضمير الحي حتى الشهادة والنفس الانساني الاخير.

لقد مرت بي مواقف واحداث ووقائع مرعبة خلال تلك الفترة السوداء، لكني استطعت الفكاك منها بكل شرف.. تصور يا صديقي.. وانت في خضم ذلك الجبروت والطغيان والرق ـ وزيرا للاعلام والثقافة يتصل بك هاتفيا قبل منتصف الليل بقليل ليلح عليك بان تساهم في عيد ميلاد الجلاد الستين، وان اسمي موضوع في اول القائمة التي تحتوي على عشرين اسما اختارها الطاغية او اطلع عليها بنفسه.. ترى ماذا يكون شعورك.. ومنظر السياف يتراءى لك في كل احلامك، ونهارات يقظتك؟! وانت رافض شعوريا وعقليا ووجدانيا كل هذه الترهات المفبركة باسم الشعر؟

قلت لذلك الوزير، الصديق منذ الخمسينات: لست نجارا يا استاذ اعد القصيدة مثل مواصفات النجار، خصوصا انني هجرت الشعر غير مأسوف عليه بعد ان هجرني هو الاخر في عملية التطهير الذاتي منذ زمن بعيد! وقد لا تصدق انني تركت وصية غير مكتوبة ـ شفوية او شفاها ـ لتحاشي العثور عليها.. لقد حددت مكان اقامة (الفاتحة) على روحي، فقد كنت مؤهلا جدا لاسقط شهيدا على ايدي الجلاد وزبانيته في اية لحظة. كأن تكون النهاية قيام جلاوزته بعملية دهس سيارة لوري مخصصة للقيام بهذه المهمات التي كثرت على يده طيلة ايام حكمه الاجرامي، او ان يبعث في سبيلي بحجة منحي سيارة، او تقديم هبة مالية من مكارم السلطان، كما كان يفعلها مع الشعراء والشحاذين، ثم يدس السم في كوب قهوة او شاي، او في كأس عصير من البرتقال، كما اعتاد فعل ذلك مع الكثير من ضحاياه، الذين لا يعدون.. كل شيء كان معدا وجاهزا.

وكنت في فترات متباعدة ازور مع صديق لي ضريح جدي الامام موسى بن جعفر في الكاظمية لقراءة الفاتحة، والتزود من صبره المثالي على سجون هارون الرشيد وتعذيبه له اكثر من سبعة اعوام الى ان دس له السم فقتله في سجنه، كما يروي المؤرخ المسعودي الشافعي، المعتزلي، وغيره من المؤرخين.

الحديث عن قسوة الاحتمال، ومرارة الشعور بالحبس الاختياري او الاضطراري والاحتباس المرعب في قرارة الوجدان، ومن ثم شعورنا بالحصار الداخلي، بالاضافة الى الامتناع عن النشر وقاية من التلوث وعفونة الطقوس الوثنية التي كان غيري يمارسها بصفاقة ورخص.. كلها قد اثقلت كاهلي وزادت من همومي، وغدت آلاما مضاعفة، لكني استطعت بحول الله مجابهتها بصبر ومقاومة مستميتة دفاعا عن الحياة الحرة القابلة، التي كنت اصبو بشوق الى اشراقة شمسها بعد سقوط الظلام والديكتاتورية وحكم القتلة الفاشيست.. وهكذا كان. وشكرا لله.

* مسخ الحركة الثقافية

* كيف تقومون الحركة الثقافية والشعر بشكل خاص في العهد السابق؟

ـ في الواقع.. انني تطرقت الى هذا السؤال في مقالة مطولة نشرت في إحدى الصحف في يوليو (تموز) الماضي ويمكن ايجاز الامر بالقول: ان الحركة الثقافية الحرة مسخت تماما منذ عام 1979 تحديدا، ومرورا بأعوام الحرب العراقية ـ الايرانية الثمانية، وبعد غزو الكويت ودوام الاحتلال حوالي سبعة أشهر وانتهاء بسقوط الحكم الفاشي التسلطي، وظلت الثقافة المأجورة في خدمة النظام وتوجهاته، غير ان الشعر المتسول قد لعب دورا مخزيا، تستحي منه ايام خلافة الجواري والغلمان والخصيان في العهدين الاموي والعباسي، وكيف كانوا يمسحون احذية الملوك والسلاطين بقصائدهم الشعرية الطوال وهم يركعون زحفا عبر عتبات القصور، الحبالى بالعار والجريمة، ولم يكتف الجلاد بتركيع شعراء المديح تحت قدميه، بل انتقل الى الفنانين والرسامين والنحاتين بلوحاتهم وجدارياتهم وتماثيلهم النصفية والكاملة.. وصولا الى كتاب الحكاية والقصة والرواية والاغنية والنشيد.. وصار يجمعهم حول بركة باحد قصوره الفخمة، تشبها بالمتوكل العباسي! لكنما افجع ما كان يثير الاعصاب، ويبعث على الشفقة والرثاء ان ينحدر وبشكل من الاسفاف المبتذل النقد الى مائدة التلوث والنفاق والتدليس.. ويتخلى عن المسؤولية التاريخية التي يستلزمها شرف مهنته، او ان يتحول بعض كتاب القصة والرواية الى مرتزقة ينظرون الروايات الثلاث التي نسبت الى الجلاد «زبيبة والملك» و«القلعة الحصينة» و«رجال ومدينة».. وكأنهم امام روايات دستويفسكي وتولستوي وفوكنر! ولقد تخلص بعض كتاب النقد من ذوي السمعة المرموقة، وسافروا إلى خارج العراق للعيش او المعالجة الطبية، كما فعل الاستاذ جلال الخياط، والدكتور علي عباس علوان. واختار ياسين النصير.. هولندا دار اقامة له، وهناك آخرون من الصعب حصر أسمائهم الان.

وصمد في الداخل الدكتور علي جواد الطاهر، والدكتور عناد غزوان وغيرهما، وفي الحقيقة، ان ما يطلق عليه بالكتابات النقدية في ظل النظام الفاشي لم يقابل باهتمام يذكر لا في داخل العراق، ولا في خارجه، لان الكتابات كانت مدفوعة الثمن مسبقا.. مثل الكتابين اللذين اصدرهما فؤاد مطر وصاحبه امير اسكندر حيث دفع تكاليفهما ورشوتهما الجلاد نفسه، فقبعا في مزبلة الاسواق البائرة، وهكذا ينتهي مصير ثقافة النفاق والدجل والارتزاق الرخيص.

* نطمح إلى ثقافة حرة جديدة

* هل تنظرون بتفاؤل الى مستقبل الثقافة، والشعر في العراق؟

ـ التفاؤل.. يا صديقي.. مرهون باستقرار الوضعين السياسي (الامني).. والاقتصادي وهما كما ارى، كفيلان بازدهار اكيد لمستقبل الثقافة في العراق، كل عنصر مرتبط عضويا بالآخر. ومن خلال هذه الرؤية المحددة، يمكن توكيد حالة التفاؤل المستقبلي المنشود.. للثقافة الرصينة في العراق.. بعيدا عن عربة الاعلام الحكومي، او الحزبي او الديني، او المذهبي.

وما نصبو اليه.. ثقافة حرة، جديدة، غير مستنسخة من ماض مشوه، وغير مسخرة لهدف ضيق، ولا تستند الى مفاهيم وثنية او عبادة الفرد مهما كانت مكانته، وارتفعت منزلته.. ونحن بحاجة الى فسحة من الحرية المسؤولة.

ومع شعوري بالحزن للرؤية المستقبلية، فانني اتصور ثقافة عمادها الركون الى الآلة بالدرجة الاساس، ومن ثم الاستعاضة عن الكتاب. ومن هنا يختفي دور الذهن القادر على حركة التأمل والتبصر العقلي، وتلك فاجعة وربما يأتي يوم لا يعرف اكثر شبابنا اسماء ثقافية لامعة.. امثال طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم.. ناهيك من جهلهم بامرئ القيس وطرفة بن العبد البكري والمتنبي.. وهكذا.

كذلك الحال سيكون الموقف من الشعر بشكل عام.. سوف يفك الارتباط اكثر واكثر.. بينه وبين طقوسه الجاهلية، وممارساته الصنمية، وحتى اشكاله وانماطه ورؤاه كذلك.

وبتقديري.. سوف تظهر حضارة شعرية جديدة مغايرة لما تعارفنا عليه، ولا بد ان تندثر حالات تسكع الشاعر المستجدي على موائد الملوك والخلفاء والطغاة لان مثل هذه الدعارة الشعرية لن تكون ذات صلة مقدسة، او علاقة مثالية بتاريخ المستقبل وشرفه.

ولما كان المثقف الاصيل مسؤول عن شرف الثقافة واغنائها والاضافة الجوهرية الى خريطتها الواسعة.. كذلك الحال بالنسبة للشاعر، وما عليه من شرف المسؤولية تجاه الشعر النقي، المترع بالطهر.

* موسيقى الصمت

* نعرف انك كنت تتهرب من النشر في صحافة النظام خصوصا في السنوات الاخيرة لكننا نعرف ايضا انك كنت تواصل الكتابة والترجمة.. ترى ما هي نتاجاتك في حقول الثقافة والادب، والشعر بشكل خاص، وهل في النية اصدار قصائدك التي كتبتها مؤخرا.. في ديوان شعري؟

ـ بالنسبة الى الشعر، كتبت قصائد عديدة، تجاوزت الثلاثين قصيدة، كانت في طليعتها قصيدتي عن الجواهري بعد رحيله، ولم استطع نشرها، بل خبأتها في مكان امين وقد طلبت مني.. جريدة (القبس) الكويتية نشرها وهي في طريقها الى النشر، وكل هاتيك القصائد كانت محرمة على النشر او حتى حيازتها.

وبدأت في كتابتها بعد غزو الكويت، وهزيمة النظام العسكري الذليلة.. والى يوم سقوطه في التاسع من ابريل (نيسان) عام 2003. وسيكون عنوان الديوان: «موسيقى الصمت».. تعبيرا عن سنوات العزلة الذاتية، والامساك عن النشر والحصار النفسي المميت.

اما في حقول الادب والفكر والترجمة.. فقد انجزت كتابا مهما بنظري، اخذ مني ثلاثة اعوام.. واعني به «ابن خلدون.. في مرايا النقد المعاصر» وهو دراسات من النقد المقارن.. والكتاب الثاني: «الزهر المترهل.. في الثابت والمتحول»، ويمثل دراسة نقدية لافكار علي احمد سعيد (ادونيس).

اما الكتاب الثالث، فهو «الشعر الحر.. بين النظرية والتطبيق»، وفي مضامينه رؤى جديدة لمفهوم الشعر الحر، والرد على النقاد العرب في الخلط بينه وبين متطور الشعر العمودي، كما ان فيه اشارة جديدة موثقة الى الخلط الكبير الذي وقع فيه النقد في مفهوم «بداية» انطلاقة الشعر الحر حسب نمطه الغربي.. مدعما بالادلة والبراهين المادية والتواريخ والحيثيات.

* هذا بالاضافة الى الكتب الاخرى مثل «طرب.. وموسيقى».. هناك الكثير من الروايات والقصص والمسرحيات والمقالات الفكرية المترجمة، وقد صدر منها:

ـ الازهار البرية ـ مجموعة قصص لارسكين كالدويل 1997.

ـ سمها.. تجربة ـ رواية سيرة ذاتية لكالدويل 1987.

ـ دراسات نقدية معاصرة 1987.

ـ جيمس جويس 1985.

ـ جيل اورن 1984.

ـ من الادب السوفياتي الحديث 1987.

ـ الفن والتجرية 2000.

ـ علاوة على ترجمات من الشعر الانجليزي والاميركي والمكسيكي والدنماركي والاسترالي والايطالي وغير ذلك.

* السقوط.. وجمهورية الرق

* ماذا عن قصيدتك «السقوط».. مقطع منها.. وما هي مشاعرك، وانت تكتب قصيدتك (جمهورية الرق)؟

ـ كانت قصيدة «السقوط» اخر ما كتبت من شعر في خاتمة الاعوام السوداء، التي انهت سنوات الهموم والاحتباس النفسي والعذاب الفظ على يد الحكم الفاشي وقد كتبتها يوم التاسع من ابريل وفرغت منها يوم العشرين منه.

وكانت تفصح عن اختلاطات عجيبة من الاحساسات المتدفقة بالالم وعنفوان الامل، وتكشف عن هموم الناس البسطاء وعذاب المناضلين في سجون الطاغية وعدوانه الاثيم على الحرية والحرمات والثوابت الانسانية..

اما قصيدة «جمهورية الرق»، فقد كتبتها منذ بدايات عقد التسعينات من القرن المنصرم، وتم نشرها في جريدة «التآخي» لسان الحزب الديمقراطي الكردستاني في 2003/5/26 ثم اعقبتها بقصيدة «تداعيات»، وقد نشرت في جريدة «الاتحاد» لسان حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بتاريخ 2003/7/2.

وقصيدة «جمهورية الرق» كانت جوابا على ابيات مثيرة بعث بها اليَّ الصديق الراحل الدكتور عصام عبد علي، حيث كنا نعيش معا عذابا نفسيا مشتركا، بعد ان نفضنا ايدينا واسقطنا كل عواطفنا من الحزب وسلطته.

والقصيدة.. ذات نفس ثوري ـ نفسي، وفيها اختلاجات وتداعيات ذاتية واجتماعية حادة، تلقي الاضواء الكاشفة على مصادرة الحريات الشخصية، والجرائم التي ارتكبها النظام ضد الشعب وجيران الوطن، والانسانية جمعاء.. ومعاناة الشعب الطويلة منه.

* مختارات من قصائد علي الحلي

* السقوط (مقطع)

هذا انا الطاغوت.. والصنم المهشم.. توأمان!!

مني المجازر، والسجون، وبتر اذان الخليقة.

وقطع ألسنة الحقيقة

استل من احسابكم.. نسبي، وملك الصولجان

وسللت من امجادكم.. سيف (الامام)

وشطبت من تاريخكم.. لغة السلام

وغصبت دجلة والفرات

حرقت غاب السنديان

وتركت من قصصي.. تعاويذ الزمان

على براري النهروان

هذا انا الطاووس

والكابوس، والظل الحرام

سبط (الحسين)؟؟! ـ وما صدقت! ـ

و«سطيح» جدي.. ما كذبت

يقص تاريخ السقوط على الانام

جدي المسمر في توابيت الظلام

انا.. والهزيمة.. شاهدان!!

9/4 ـ 20/4/2003

* تداعيات

من اين نستبق الولادة..

هل كل ما نلقاه.. مكتوب باعراق الجباه؟!

لم يبق الا الاوكسجين..

تحتاجه رئتي، وهل في يبدر النعمى.. سواد؟

ينسل من طوق الحصار..

***

سعداء من يلقون بئرا، او حفيرا في متاهات القفار

حتى اللحود تبرأت من ساكنيها

وتمرد المثوى على الحفار

لا رمس يجود ولا نعوش تحتويها

***

بالامس.. كنا للذئاب..

او صاليات النار، او قرش الخليج

قوتا، وقربانا، وفدية

متوحدين على الشهادة!

***

من أين تنبثق الارادة؟

لم يبق غير العنكبوت..

يفتض اسمال البيوت..

يستام ضلا.. في محاريب السعادة

رحل الوفاء

وجف نسغ الكبرياء

وابحرت سفن الفضيلة

وتساقط النخل العصي،

وبات يستجدي فسيلة

حتى الدمى الصماء في ايدي الصغار

تستوحش اللمسات..

في عيد الطفولة

7/2/1995