شقيق للشاعرة نازك الملائكة يقول إنها كانت تستحضر الأرواح

البراق نجل الأديبة العراقية المعتلة بالباركنسون يحدّث «الشرق الأوسط» عن زياراتها لكاشفة بخت شهيرة في لبنان

TT

يقول شقيق للشاعرة العراقية، نازك الملائكة، المقيمة منذ 11 سنة في القاهرة، إنها كانت تعقد جلسات تحضير للأرواح في بغداد لاعتقادها بالتقمص والروحانيات، وهو شيء لم يكن معروفا عن الأديبة الموصوفة برائدة القصيدة الحرة من قيود النظم والبحور، ولم يتطرق اليه أحد ممن كتبوا عنها طوال 50 سنة، لذلك رغبت «الشرق الأوسط» بأن تتحرى الأمر منها شخصيا. لكن الاتصال بنازك الملائكة صعب حقيقة، فهي تعيش في عزلة تامة عن الدنيا والناس في ضاحية مصر الجديدة بالقاهرة، الى درجة أن المقرّبين منها بالذات باتوا لا يعلمون عنها شيئا بالمرة، لأنها أسيرة علل طوتها طوال 3 سنوات مضت بشكل خاص في البيت، ومعظمها من مضاعفات مرض الباركنسون، المعروف بالشلل الرّعاش، الملازم لحالة اكتئاب تنتابها أحيانا فترفض معها حتى الرد على الهاتف أو استقبال أحد.

وسألت «الشرق الأوسط» من يصفونها بمقرّبة منها في القاهرة، أي الدكتورة العراقية فريال عزول، المقيمة منذ 20 عاما هناك، حيث تعمل أستاذة بالجامعة الأميركية في مجال تخصصها، وهو الأدبان الانجليزي والمقارن، فقالت من هاتف بيتها إنها لا تعلم عنها شيئا «بل أنا لم التق بها اطلاقا، برغم أني كتبت عنها الشيء الكثير. كما لا أعرف في أي حي تقيم. أسمع أنها مكتئبة ومريضة ولا تقابل أحدا، فلا تتعب نفسك. لكن حاول مع ابنها البرّاق، فهو يقيم معها. أما عن استحضار الأرواح فلم أسمع بهذا الخبر قبلها، وكله جائز».

ومن هاتف البيت ذكر الدكتور البرّاق أن ما قيل عن دخول والدته بغيبوبات متكررة في المستشفيات «مبالغ فيه وغير صحيح». وشرح أنه في احدى المرات دخلت سيدة تحمل اسم والدته نفسه في حالة غيبوبة بأحد المستشفيات «فظنوها هي، وبعد ذلك انطلقت الشائعات، من دون أن يتحقق أحد.. نعم عندها ارتعاشات باليدين أحيانا، لكن صحتها مناسبة لمن في عمرها. أما الاعتزال عن الناس فقرار اتخذته هي منذ سنوات» كما قال.

وذكر البرّاق، وهو مدرس الانجليزية بالجامعة الأميركية في القاهرة وما زال عازبا وعمره 40 سنة، أنه يعيش مع والدته في شقة من 3 غرف نوم ليرعاها ويهتم بها «ويبدو أنها مهمتي في الحياة، وأنا راض بها وأراها أمانة تركها الوالد» مؤكدا أن والدته لا تعاني من ضائقة مالية «لأنهم جمعوا منذ عام دواوينها وكل ما كتبت في مؤلف واحد من 4 أجزاء» وتعيش على عائداته كما يبدو، اضافة لما بقي معها من 40 ألف دولار قبضتها لفوزها بجائزة «بابطين الشعرية» قبل 8 سنوات.

ولم ينف البرّاق أو يؤكد استحضار والدته للأرواح في جلسات كانت تعقدها في بغداد. كما لم يستغرب الخبر، وقال: «من الجائز، لا أدري، فقد يكون ذلك حدث قبل أن أبصر النور، أو لأني كنت صغيرا، أو ربما حين كنت مقيما بالولايات المتحدة حيث درست في الجامعة، لكنها أول مرة أسمع فيها بهذا الخبر. وعلى أي حال فهي من النوع الصوفي وتميل للفلسفة والروحانيات عموما، يعني كأي شاعر أو كاتب أو مفكر». ثم استدرك وقال: «الآن تذكرت.. كانت والدتي، حين كنا نعيش في بيروت، تعرف كاشفة للبخت شهيرة هناك (يقصد الراحلة «فاطمة الفلسطينية» الذائعة الصيت قديما) وزارتها مرتين وربما 3 مرات بحسب علمي» على حد ما يتذكر.

وقال البرّاق، الذي أطلقت عليه الشاعرة هذا الاسم لتأثرها بعبارة «ليت للبرّاق عينا» في أغنية للمطربة الراحلة، اسمهان، إن والدته تمضي أيامها في البيت «وآخر مرة خرجت منه كانت حين خضعت لفحوصات عند طبيب أمراض باطنية بمستشفى القصر العيني قبل 4 أشهر». وقال إنها تتناول 4 أو 5 أدوية يوميا، وتساعدها في البيت خادمتها المصرية «أم أشرف» حوالي 3 مرات أسبوعيا. أما الطعام فيعده البرّاق عموما «لكن والدتي تطبخ أحيانا، وهي تعشق المحاشي، يعني كوسى وباذنجان وفليفلة محشوة باللحم الناعم مع الأرز والتوابع. أما ما يجذبها حقيقة فهو الحلويات، خصوصا من السما (المن والسلوى) وأقاربنا يبعثون بالكثير منه اليها من بغداد». وقال إنها أقامت في القاهرة لأن أدوية مرض السكري لم تكن متوفرة في بغداد بسبب الحظر الدولي سابقا «لكنها تحلم بالعودة، فهناك أقاربنا وأهلنا وبيوتنا، ولا ننتظر الا الظروف المناسبة للعودة»، وفق تعبيره.

ويروي البرّاق، الذي لا يعرف اذا كانت والدته قد كتبت وصيتها بعد، أنها تمضي الوقت في البيت تطالع القرآن «أو تستمع لأغاني فيروز القديمة وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، وكثيرا ما نجلس معا فأقرأ لها بعض القصائد». وذكر أنها كتبت قصائد في السنوات الأخيرة «لكنها لم تنشرها، لأنها لم تجدها في مستوى ترضاه».

وقبل أن تتحدث «الشرق الأوسط» الى الدكتورة عزول والدكتور البرّاق، كانت تحدثت الى الدكتور نزار، شقيق نازك الملائكة، وهو شاعر مثلها ويقيم منذ 20 سنة في لندن، فذكر أنه لا يعرف عنها شيئا بدوره منذ سنوات «الا ما له علاقة بالماضي البعيد بعض الشيء» ومن ضمنه عقدها قبل أن تتزوج جلسات استحضار للأرواح متكررة في بغداد. وقال الدكتور إن شقيقته، التي كانت تقيم في الكويت وغادرتها بعد التقاعد في 1987 الى بغداد، راحت تعيش بدءا من 1992 بالقاهرة مع نجلها الوحيد، البرّاق، وهو من زوجها عبد الهادي محبوبة، العالم اللغوي والأستاذ سابقا بجامعة الكويت، أو الرجل الذي رحل عن الدنيا منذ عامين من دون أن تعلم بوفاته المفاجئة، لأن أحدا لم يشأ نقل نعي اليها يضر بصحتها المعتلة أيضا من السكري وتوابع شيخوخة ما زالت قاسية عليها الى حد كبير، لذلك أخبروها بعد وفاته بأنه سافر في رحلة الى بغداد، حيث يعيش 5 أشقاء لها هناك، وهم عصام وسعاد واحسان ولبنى وسهى، اضافة الى الدكتور نزار، المقيم في لندن، فبقيت لا تعلم بأن الوحيد الذي اقترنت به في حياتها أصبح خارج هذا العالم «الا عندما أخبرناها بعد أسابيع من وفاته بدفنه في القاهرة» بحسب ما قاله البرّاق، وعلى أثرها رثته في قصيدة عنوانها «أنا وحدي» ويبدو أنها آخر ما تم نشره من قصائدها.

ويقول الشاعر نزار عن شقيقته إنها نشأت وسط عائلة مطبوعة على الميل للأدب الموروث أبا عن جد، فقد كان والدها، صادق الملائكة، شاعرا معروفا وكاتبا، استطاع أن يؤلف وحده «دائرة معارف الناس» عن سير المشاهير الراحلين، ومعظمهم من العرب «وكانت ضخمة من 36 مجلدا بالفعل، وأعتقد أنها ما زالت محفوظة لدى هيئة حكومية في بغداد، ولم تطبع للأسف» وفق ما قال بالهاتف مع «الشرق الأوسط» من بيته في لندن.

كذلك يذكر أن والدته كانت شاعرة معروفة أيضا، وأصدرت في الثلاثينات ديوان «أنشودة المجد» ووقعته باسم «أم نزار الملائكة» بدل اسمها الحقيقي، وهو سلمى عبد الرزاق الملائكة. كما كان اثنان من أشقائها شاعرين معروفين هناك أيضا، وهما الراحل عبد الصاحب، وأخوه غير الشقيق المقيم الآن في العراق، جميل عيسى، العميد سابقا بكلية الهندسة في جامعة بغداد ووزير الصناعة في الستينات زمن الرئيس العراقي الراحل عبد السلام عارف.

أما عن نازك، الحاملة ليسانس بالتربية منذ 1944 من جامعة بغداد قبل مغادرتها الى الولايات المتحدة ،حيث نالت في 1950 ماجستير بالأدب المقارن من جامعة مادسن وسكنسن، فيقول الدكتور نزار إنها عملت بعدها أستاذة مساعدة بكلية التربية في جامعة البصرة، ثم بجامعة الكويت، وإنها أصدرت دواوين عدة، أولها في 1947 بعنوان «عاشقة الليل» الذي تبعه «شظايا ورماد» بعد عامين، ثم «قرارة الموجة» في 1957 ومن بعده «شجرة القمر» في 1968 ثم ديوان «مأساة الحياة وأغنية الانسان» بعد عامين. كما لها في النقد 3 كتب، صدر أولها في 1962 عن «قضايا الشعر المعاصر» والثاني في 1979 بعنوان «سيكولوجية الشعر ومقالات أخرى» والأخير كتبته عن «علي محمود طه» المعروف بشاعر الرومانسيات المصري، الراحل في 1949 بعمر 47 سنة، ومؤلف قصيدة «فلسطين» الشهيرة بمطلع جميل، لحنه المطرب الراحل محمد عبد الوهاب لاحدى أروع أغانيه

أخــي، جاوز الظالمـون المــدى

فحـق الجهـاد، وحـق الفــدا

أنتـركهم يغصبـون العروبـــة

مجـــد الأبـــوّة والسؤددا؟

وليسوا بغير صليل السيوف

يجيبون صوتا لنا أو صدى

فجـرّد حسامـك مـــن غمـــــده

فليس لـه، بعــد، أن يغمــدا

وكانت الملائكة، التي جمعت أشعارها في 1971 ضمن مجلدين صدرا بعنوان «ديوان نازك الملائكة» في بيروت «تتقن الانجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية» كما يقولون ويكتبون. لكن نزار، الحريص على دقة السرد، يؤكد أن ذلك شائعات «وأنا لا أدري من أين يأتي الناس بهذه الأخبار، فنازك لم تكن تعرف الا الانجليزية» على حد ما قال عن شقيقته التي لا يعلم أين تقيم في القاهرة، بل لا يعرف شيئا أيضا عن ابنها الذي بالكاد رآه مرة أو مرتين، ولا حتى ماذا يعمل في مصر، لذلك تحدث فقط عما كان في الماضي، كزواج شقيقته مثلا، من أنه تم وهي بعمر متأخر بعض الشيء، حين كانت في الأربعين عام اقترن بها الدكتور محبوبة، أو عن حياتها عموما، من أنها كانت على شيء من البحبوحة المالية بالعراق، وأكثر منها بعد ذلك في الكويت، الى أن أصابها السكري «لكثرة ما كانت تبالغ في تناول السكر مذابا مع الشاي، وبنهم كبير» وفق تعبيره.

من بعدها، بدأت الصحة تعتل أكثر، فظهرت عليها بوادر الباركنسون، وبدأت اليدان تهتزان وترتعشان وهي في السنوات الأخيرة من حياتها بالكويت، فيممت الرحال الى بغداد، ومنها الى مدينة تحبها منذ مراهقة أمضتها في عاصمة العراق بالدراسة وكتابة الشعر الحر أو على دراجة هوائية تقودها قرب البيت أوقات الفراغ، وهي القاهرة التي اشترت فيها بيتا، انطوت فيه على الذات وانعزلت عن الدنيا والناس، لا تكتب رسائل ولا تتصل ولو بالهاتف بقريب أو بعيد، ولا تسعى وراء أي نشاط «برغم محاولات قامت بها دوائر أدبية اتصلت بها لتعيدها للحياة الطبيعية والعطاء مجددا، ولكن بلا جدوى دائما» بحسب ما قال الشاعر عن شقيقته التي رآها في 1984 لآخر مرة «وكان ذلك صدفة في حي سوهو بلندن. يومها دخلت مطعما وجدتها فيه فاجتمعنا وتحدثنا عند مائدة مليئة بما نشتهيه معا، وهو المأكولات الهندية» وفقا لما قاله شقيقها، الحامل دكتوراه باللغات السامية من جامعة بون بالمانيا، حيث تقيم زوجته الألمانية وابناه منها، مريم وحيدر.

أما عن اسم العائلة، فيشرح بأنه صفة «أطلقوها علينا لهدوئنا وانطوائنا الايجابي على الذات.. نحن بالأصل من عائلة جلبي (تلفظ شلبي) وهي عشيرة كبيرة، وبعضها تفرّع الى الملائكة بعامل الصفة» مضيفا أن الجلبيين، ممن مدحهم المطرب العراقي الراحل، ناظم الغزالي، بعبارة «يا دقة المحبوب.. دقة جلبية» في احدى أغانيه، انقسموا الى قسمين بزواج جده الأكبر من امرأتين من الهند، وواحدة منهما أنجبت الطرف الشمالي من العائلة «أما الثانية فنحن منها.. كلنا شعراء تقريبا، جدي وجدتي وأمي وأبي وبعض إخوتي. كنا وما زلنا جميعا مولعين بالأدب والشعر منذ كنا نسكن بحي العاقولية، القريب من وزارة الدفاع وسوق السراي، حيث كانت دارنا من بيتين منذ العشرينات، لتكفينا.. هناك اعتاد شاعر عراقي، أعتقد أنه من عائلة الأخرس، على زيارتنا. ولأنه كان يرانا هادئين ولا نسبب ضجيجا للجيران وليس عندنا هرج ومرج، الى درجة كنا نخرج وندخل ولا يلحظنا أحد لشدة ميلنا للسكينة والهدوء، فقد سمانا ملائكة، فانتشر اللقب بالحي، ومن بعدها طغى على الاسم الأول تماما» كما قال.

* جلسات تحضير الأرواح

* ويتحدث الدكتور نزار، المالك لمكتبة في بيته تضم 12 ألف كتاب بلغات متنوعة، أضخمها بالاغريقي القديم مكون من 120 مجلدا، عن ولعه بما جعله يميل أكثر للعزلة بدوره والابتعاد عن الناس، وهو سعيه وراء الأبحاث والدراسات وتعلم اللغات، حتى أنه يتكلم 14 لغة، كالفرنسية والسويدية والانجليزية والعبرية القديمة والروسية والفارسية واليابانية واليونانية القديمة (الإغريقي) والألمانية واللاتينية والاسبانية والايطالية، ويرغب بتعلم المزيد أيضا، الى جانب كونه خبيرا بلغات سامية قديمة، كالسريانية والآرامية بفرعيها السرياني الغربي والشرقي الكلداني الآشوري، لذلك يستهويه الماضي البعيد دائما، بل يحمله على التحدث عن شعور غريب ينتابه، من أنه سبق وعاش على الأرض منذ زمن سحيق، الى درجة أصبح معها لا يعير اهتماما للسنين والأعمار، ولا يفصح عن عمره الذي يبدو من صوته عبر الهاتف بأنه لا يزيد على 67 سنة «وذلك لأني أكبر عمري بكثير، فقد ولدت أول مرة منذ عشرات القرون».

* يعني، متى تماما؟

ـ أشعر أن ذلك كان في أثينا عام 347 قبل الميلاد، وهي السنة التي توفي فيها الفيلسوف الاغريقي، أفلاطون، تلميذ أرسطو.

* ونازك، هل تؤمن بالتقمص أيضا؟

ـ أعتقد ذلك، لأنها تميل للروحانيات.

* كتحضير الأرواح وما شابه؟

ـ تماما، فقد كانت هي نفسها التي تعقد جلسات تحضير الأرواح بالبيت في بغداد.

* مع من؟

ـ مع أصدقاء لها ومعارف.

* فقط في بغداد، أم في الكويت أيضا؟

ـ من الجائز في الكويت. أما في بغداد فكانت تعقدها باستمرار.

* وبشكل يومي؟

ـ لست متأكدا، لكن الجلسات كانت كثيرة، بحسب ما أخبرني الأقارب هناك.

* هل اعترفت لك شخصيا؟

ـ وأكثر من مرة، الى درجة أخبرتني بأنها أحضرت في احدى الجلسات روح أبي.

* مش معقول، وصدقتها؟

ـ ليس تماما، فقد كانت تفقد وعيها خلال الجلسة، لذلك لا أعتقد أن روحه حلت فيها.

* ألم تذكر ما قالت عن «لسانه» من حديث؟

ـ حدثها بأمور، اكتشفت عندما كررتها أمامي بأنه لم يكن هو فعلا.

* ما الذي زعمت بأنه قاله لها؟

ـ حدثها بأمور خاصة، وعن دائرة المعارف التي ألفها، وذكرت عن لسانه أشياء، عرفت منها بأن من «استحضرته» لم يكن هو تماما.

تقصد روح شخص آخر؟

ـ لا روحه، ولا أي روح أخرى.

* من أين جاءها الميل للروحانيات؟

ـ لا أعرف حقيقة، قد يكون من والدتي، فقد كانت الروحانيات تستميلها.

* والدتك كانت تعقد جلسات روحية أيضا؟

ـ لا، انما كان الشأن الروحاني يستميلها فقط.

* هل تعتقد أن جدتكم الهندية هي من بث في العائلة هذا الميل المعروف لدى الهنود؟

ـ جائز، كل شيء ممكن.

* ألم تكن نازك تصلي أو تضع الحجاب مثلا؟

ـ لا صلاة ولا حجاب، مع أنها أدت مناسك الحج في الثمانينات، لم أعد أذكره تماما.

* تقول إنك رأيتها صدفة في لندن، فلماذا لم تعلمك بمجيئها، هل كنتما على خلاف؟

ـ كانت تظن أني ما زلت أعيش بألمانيا، وكان بيننا خلاف بعض الشيء

على الميراث أو ما شابه ذلك؟ لا، لم يكن الخلاف عائليا، بل ثقافي من التراث، فهي تمعن في كتابة الشعر الحر، كما يسمونه، وأسميه أنا بالهذيان الحر لأني تقليدي، والشعر الحر لا يعجبني.

* ألهذا السبب تختلف مع شقيقتك الكبرى؟

ـ هناك أسباب غيرها، وأساسية.

* قل أهمها على الأقل، ما هي؟

ـ لا، إنها خاصة جدا، ولن أذكرها.

* متى ولدت شقيقتك نازك تماما، فتاريخ ميلادها مختلف في كل موضع؟

ـ الجميع يخطئون، حتى في الكتب التي صدرت عنها، وأهمها للدكتورة اللبنانية الراحلة، حياة شرارة (قضت انتحارا مع ابنتها قبل 7 سنوات في بغداد) فنازك ولدت في 23 أغسطس (آب) 1922 عند منتصف الليل، لأن أبي كان دقيقا يسجل كل شيء، وهي مثلي من برج الجوزاء، ومعي شهادة ميلادها، ولم تبصر النور في 1923 أو 1926 كما يكتبون.

* وعن بدايتها في الشعر الحر؟

ـ أذكر، وكنا على الطرمة (الشرفة) أمام حديقة بيتنا في شارع أبو أقلام بضاحية الكرادة الشرقية في بغداد، أن نازك كتبت قصيدة سمتها «الكوليرا» واقتربت من الوالد لتسمعه أبياتها، ولست متأكدا إن كان ذلك في 1947 أو 1950 تماما.

* اسم «الكوليرا» غريب ليكون عنوانا لقصيدة، فلماذا؟

ـ سمتها لتأثرها بأخبار كانت تبثها الاذاعات عن داء الكوليرا الذي حل في مصر. المهم أنها قرأتها عليه، وما انتهت حتى قال: «ابنتي، هذا ليس بشعر، هذا هذيان، هذيان» ومن يومها بدأ ما يسمونه بالشعر الحر، وهو ليس شعرا على الاطلاق.

* «وادي العبيد»

* لكن نتاج نازك الملائكة لم يكن هذيانا في رأي الملايين من محبي شعرها في المنطقة العربية طوال أكثر من 55 سنة على الأقل، سواء كتبته حرا من القيود والنظم المفروضة منذ مئات السنين، أم منظوما كما في قصيدة «وادي العبيد» المشبعة بتشاؤم تخفف من حدته رومانسية جميلة تبدو منذ مطلعها، فانظر كيف أنها ما كانت لتعبر عما يختلج في معتل الصحة مثلها، ويعيش أحيانا كالنبتة بلا وعي كامل، الا بالشعر وحده، من دون الاهتمام بنظمه حرا أو كما تفرض القيود

ضاع عمري في دياجير الحياة

وخبت أحلام قلبي المغرق

ها أنا وحدي على شط الممات

والأعاصير تنادي زورقي

ليس في عينيّ غير العبرات

والظلال السود تحمي مفرقي

ليس في سمعي غير الصرخات

أسفا للعمر، ماذا قد بقي؟

ربما بقي أن نتذكر ان نازك الملائكة كشاعرة وناقدة عراقية، كانت أول من أطلق حركة شعر من نمط جديد وهي بعمر 25 سنة، ومنه بنت مدرسة كانت فيها رائدة لمتتلمذين بالمئات. ويا ليت استحضار الأرواح كان حقيقة وعلما، لكنا تعلمناه ورحنا «نستحضر» الشعراء مثلها كل يوم، فنستمتع بشعر ملائكي نادر وجميل.