بعض سكان الرياض يلجأون إلى الأحياء القديمة لاجترار ذكريات الماضي

في سوق المقيبرة الشهير كانت تباع «أصابع الديناميت».. والنساء كن يرضعن أطفالهن في استراحة السوق

TT

لم يجد محمد الناصر ، 56 عاما، عندما بادرناه بالسؤال وهو يتجول في حي الدوبيه الشعبي بالرياض متأملا المنازل الطينية الآيلة للسقوط سوى القول إنه الحنين إلى الماضي. وعندما أكمل عبارته أخذ بيد مندوب «الشرق الأوسط» في جولة على شارع سلام أحد اشهر شوارع العاصمة السعودية قبل أكثر من نصف قرن عندما كانت المدينة لا تزال صغيرة المساحة وذات شوارع محدودة وأغلب سكانها يستخدمون المباني الطينية.

ويضيف الناصر «جئت إلى هنا لاسترجع ذكريات عمرها أكثر من نصف قرن، لقد استيقظت هذا الصباح على حنين جارف للماضي القريب، حالياً اسكن في قصر شمال الرياض ولكنني وجدت نفسي هنا في شارع سلام الذي احتضنت حاراته مراتع طفولتي وجزءاً من شبابي، لقد تغير الشارع والحي في كل شيء الا من بقايا منازل طينية لا زلت أتذكر ساكنيها قبل عقود ومنها منزلنا الذي سقط جزء منه والباقي آيل للسقوط».

ويتابع الناصر «الشيء الذي لم يتغير هو تلك الدكاكين التي كانت قبل عقود مغلقة، وتنبعث منها رائحة المبيدات الحشرية والأسمدة. لقد ارتبطت هذه الرائحة ارتباطاً شرطياً بالشارع الذي كنت أجوبه صباحاً وظهراً متوجهاً إلى مدرستي الابتدائية أو عائداً منها، هذه الدكاكين التي كانت مغلقة أصبحت الآن مفتوحة وتمارس تجارة كل ما يتعلق بالزراعة والادوات البيطرية وأجهزة الري المحوري».

ويمضي الناصر قائلا: «على ناصية الشارع هناك طاحونة الحبوب التي كنت أزورها كل أسبوع حاملاً كيس الحبوب على دراجتي الهوائية لأطحنه ثم أعود به مسرعاً الى المنزل حيث والدتي رحمها الله تنتظرني لإعداد وجبة الغداء التي كانت عبارة عن طبق «المرقوق» رغم أنني كنت أفضل وجبة الكبسة بلحمة الجمل لكنني لا استطيع البوح بذلك أمام والدتي التي كانت ترى أن الاستمرار على وجبة واحدة طوال الاسبوع سيصيب الاسرة بالملل ناهيك عن أن الاسراف في تناول الأرز كل يوم سيؤثر على ميزانية الاسرة حيث أن دخلها الشهري لا يتجاوز 450 ريالاً هو مرتب والدي في وزارة المالية آنذاك».

ويشير الناصر إلى انه زار المدرسة المحمدية التي كانت معلماً من معالم شارع سلام وخرجت العديد ممن تولوا مناصب ومراكز في الدولة ويقول: «لقد وجدت المدرسة التي انهيت فيها دراستي في المرحلة الابتدائية قبل أربعة عقود كما هي بفصولها الكبيرة وبساحتها الواسعة، لقد استأذنت من حارس المدرسة لأخذ جولة على فصولها وممراتها، هنا الصف الاول (ج) وهنا سبورة الفصل التي كان يقف بجوارها المعلم الراحل عبد الله الغرشي وهو يعلمنا مبادئ القراءة والكتابة. وعلى بعد أمتار من فصلنا توجد دورات المياه التي كنا لا نعرف لها مثيلاً في منازلنا حيث كانت اغلب المنازل تستخدم دورات مياه بدائية والمسماة البروج بديلاً لدورات المياه وهي بدون ماء أو كهرباء. وفي ساحة المدرسة هناك ملاعب كرة القدم والسلة والطائرة معاً، وما زلت أتذكر الطابور الصباحي الذي يبدأ بتحية المليك والوطن: تحيا المملكة العربية السعودية يعيش جلالة الملك المعظم.. تعقبه انشودة يؤديها طلاب الصف الذين سيقدمون اذاعة اليوم، وعلى بعد أمتار من الساحة يوجد المقصف المدرسي الذي يقدم الفطائر وكوب الحليب بسعر أربعة قروش للطالب».

وامام اصرار الناصر اصطحبه مندوب «الشرق الأوسط» له للوقوف على معالم الشارع من جهة الجنوب ليحكي ذكرياته مع الشارع والحي وراح يقول «هنا دوار سلام الشهير وبالقرب منه محطة المفارق ومصنع الثلج الوحيد في المدينة، وفي الجهة المقابلة المخبز الشعبي الذي يقدم ارغفة الخبز العادي والفول ويملكه السعودي حامد فرحان الغامدي الذي كان يتولى بنفسه اعداد طبق الفول للزبائن بسعر أربعة قروش، وأصبح اليوم احد اكبر تجار المواد الغذائية في سوق عتيقه وهو غير بعيد عن الموقع». ويضيف «في تلك العمارة التي كانت تحتضن المخبز وتطل على الدوار، توجد عيادة الدكتور القرشي الذي كان يعالج السكان وتنبعث من عيادته رائحة الأدوية والمطهرات، وأمام هذه المشاهد يتذكر الناصر قصة احضاره الى العيادة قبل عقود جوالاً على كتفي والده وهو يبكي رافضاً العلاج من مرض ألم به وربما يكون انفلونزا حادة وذلك لأن العلاج بالابرة كان هو السائد وهو ما كان يخيف الاطفال عند مراجعتهم للطبيب، وكانت الابر المستخدمة يعاد تعبئتها من جديد بعد طبخها في قدر للتعقيم.

وعندما انتهت الجولة في شارع سلام وحي الدوبيه اكتفى الناصر بترديد بيت من قصيدة قديمة «رب يوم بكيت منه... فلما صرت في غيره بكيت عليه» وتساءل «هل كان الشاعر محقاً في ذلك ؟!».

وفي سوق المقيبره الشهير الذي اختفت معالمه القديمة ليحل بدلاً عنه سوق بطابع معماري فيه لمسة الحاضر وعبق الماضي استوقف مندوب «الشرق الأوسط» رجلاً مسناً وهو يتجول في السوق ويسأله «لماذا انت هنا ؟!»، ليجيب بسرعة: «جئت الى السوق ليس بهدف التسوق ولكن لأسترجع ذكريات جميلة اختزلتها الذاكرة منذ عقود، فالسوق لم يعد هو فلم يبق من معالمه القديمة سوى البائعات المسنات وهن يفترشن الارصفة لبيع المكسرات وشيء من الألعاب النارية وبعض الملابس».

وهنا يتذكر كيف أن الناس كانوا أكثر ولاءً واخلاقاً، وتوقف فجأة ليمسح دمعة سقطت على خده ويقول «ما الذي أصاب الناس؟ ولماذا هذه الاعمال الارهابية التي تقوم بها فئة مريضة من البشر لا تمثل المجتمع السعودي ؟». ويضيف «لقد كانت اصابع الديناميت الجاهزة للاستخدام تباع في هذا السوق قبل 40 عاماً لاستخدامها في حفر الابار، ولم نكن حينها نعرف أعمال الارهاب أو قتل الابرياء والآمنين ولا التفجيرات ولا التطرف». وتابع بحزن «أغلب النساء كن يجلسن هنا (واشار الى محلات في سوق اشيقر) بانتظار انصرافهن من السوق أو انتظار ذويهن أو انتظار سيارة تاكسي لحملهن الى منازلهن لقد كن في هذه الاستراحة يستظللن من أشعة الشمس الحارقة ويرضعن صغارهن أمام الناس.. لقد كان مشهداً عادياً ومألوفاً أن تقوم النساء المرضعات بإرضاع أطفالهن أمام مرأى الجميع من دون أن يحرك ذلك مشاعر الآخرين أو سخطهم». ويتساءل الرجل المسن بحرقة «لماذا هذا التطرف ولماذا تغيرت اخلاقيات الكثيرين ولماذا الهجوم على النساء وتحميلهن وزر فساد الأخلاق». وأضاف «رحم الله الشاعر معروف الرصافي عندما قال: «ولو أن أخلاق الرجال تحسنت... لنزعت حجب عن النساء». نزلت دمعة أخرى من عين المسن وودعني مسرعاً قائلاً «هذا سائقي الخاص قد قدم في الموعد المحدد ليحملني إلى منزلي الكبير شرق الرياض بعد أن استمتعت بمشاهدة شريط حي يصور ماض تليد».