منهج الملك عبد العزيز في طباعة الكتب.. العناية في الانتقاء ووقفها للمستفيد

TT

يمكن الحكم على النهضة العلمية والثقافية في أي عصر من العصور السياسية من خلال معرفة ووعي القيادة العليا في ذلك العصر بواجبها الحضاري في ميادين العلم والمعرفة ومدى ما تقدمه من دعم ومؤازرة في هذا المجال، وما تبذله من جهد مادي ومعنوي لإتاحة وسائل المعرفة وتعدد مصادرها لرعاياها. ولذا نجد أنه منذ فجر النهضة الثقافية الإسلامية والأخبار تتواتر عن تشجيع الخلفاء والأمراء للعلماء والسعي في طباعة كتبهم ودعمهم لنسخها يدوياً عن طريق الوراقين الذين ازدهر عملهم، عندما لم تكن هناك مطابع يمكن أن توفر نسخاً متعددة منها.. والهدف من ذلك هو إتاحة تداول الكتب بين الناس ليستفيد منها أكبر قطاع منهم.

في هذا العصر نجد أن الملك عبد العزيز الذي استطاع تأسيس الدولة السعودية المعاصرة ارتفع به وعيه الحضاري إلى هذا الفهم فعمل بكل طاقته لتشجيع طباعة الكتب ووقفها لتكون مصدراً معرفياً يسهل على طلاب العلم والمعرفة النهل منه. من المؤكد بحثياً أن وقف الكتب عرف في تاريخ الدولة السعودية منذ تأسيسها في عصرها الأول بل قبلها أيضاً، وصدرت كتب عديدة توثق لهذا المنهج الثقافي في التاريخ الوطني، بل صدرت كتب متخصصة في الكتب التي وقفتها نساء من هذه البلاد، ولكني هنا أنوه بما اتصف به وعي الملك عبد العزيز في هذا المجال من وجهة نظري الخاصة وهو الحكمة وبعد النظر. كان الملك عبد العزيز حريصاً على إدناء الثمار العلمية لمن يتطلع إليها ولكن وفق ضابطين شكلا منهجه الحضاري الذي أقصده، هذان الضابطان هما : حرصه على انتقاء الكتب التي يطبعها أو يأمر بوقفها من حيث حسن اختياره لموضوعاتها بحسب حاجة الناس إليها، ودقته في التعامل مع مؤلفيها، بل وحرصه على التدقيق فيمن يوكل إليه العناية بطباعتها. والضابط الثاني هو حرصه على أن تصل هذه الكتب المطبوعة أو الموقوفة إلى من يستفيد منها ليتحقق الهدف المنشود منها.

ولتوثيق عناية الملك عبد العزيز بطباعة الكتب ووقفها صدر عن دارة الملك عبد العزيز بالرياض أخيراً كتاب يحمل الرقم 137 من سلسلة مطبوعاتها التاريخية والثقافية وُسِمَ بـ ( طباعة الكتب ووقفها عند الملك عبد العزيز ) وأشير إلى أنه دراسة تحليلية وقائمة ببليوجرافية من إعداد الباحث الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الله الشقير.

هذا الكتاب تميز بميزة قل أن توجد في الكتب المماثلة لموضوعه، وهي عناية المؤلف بدراسة الظروف المحيطة بطباعة الكتب في العصر الذي يوثقه الكتاب، سواء كانت تلك الظروف إيجابية أو سلبية وإلقاء الضوء عليها لتفسير أسبابها ومعطياتها والآثار المترتبة عليها وتوجهاتها أيضاً. وربط ذلك كله بالأثر الحضاري للقيادة السياسية، والأثر الاجتماعي في جانبه المتعلق بالازدهار العلمي والثقافي. بذل المؤلف في هذا الكتاب جهداً جديراً بالإشادة نظير متابعته الدقيقة للإصدارات العديدة في مظانها المختلفة، وتوثيقها وتحليلها وصنع قائمة ببليوجرافية لها وإن ظهرت استفادته بشكل واضح في عملية الجمع من كتاب ( من مكتبة الملك عبد العزيز الخاصة) للدكتور فهد بن عبد الله السماري.

إلا أن ذلك لا يمنعنا من وصف جهد المؤلف بأنه كان مضنياً بالنظر إلى تعدد تلك المصادر وتباعد تلك المظان وصعوبة المواءمة بينها والمسح الميداني لها إضافة إلى ما أنفقه من جهد متميز في التحليل والاستقراء للوصول إلى معلومة يطمئن إليها قلب الباحث ويقتنع بها القارئ. وقد قسم الباحث كتابه إلى ثلاثة أقسام :

أما القسم الأول من الكتاب فقد خصصه المؤلف للدراسة التحليلية مبيناً فيه منهج الملك عبد العزيز في طباعة الكتب وحرصه على استشارة العلماء في الكتب التي يأمر بطبعها على نفقته الخاصة، ومركزاً بشكل أدق على أن منهج النشر عند الملك عبد العزيز اتسم بالشمولية وكان وثيق الصلة بالجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولذا ارتبطت طباعته للكتب بمراحل تكوين الدولة الثلاث: بدايات التكوين ثم اكتمال توحيد الدولة ثم مرحلة النهضة بعد اكتشاف النفط. كما تطرق في هذه الدراسة إلى أسباب ظهور بعض الكتب ومضمونها، واستعرض الكتب المطبوعة في الهند وفي مصر وفي مكة المكرمة وماطبع بعد توحيد المملكة. أما القسم الثاني من الكتب فقد تناول فيه المؤلف الدراسة التطبيقية لنموذج من مطبوعات الملك عبدالعزيز على نفقته وهو كتاب المغني شرح مختصر الخرقي، واستعرض أهميته وظروف طباعته والمراحل التي مرت بها هذه الطباعة وجهود السيد رشيد رضا في ذلك وأثر هذا الكتاب في الساحة الثقافية بالعالم العربي بعامة.

أما القسم الثالث من الكتاب فهو الدراسة الببليوجرافية التي تناولها الباحث في ثلاثة عناصر هي: الكتب المطبوعة على نفقة الملك عبد العزيز الخاصة وقد بلغت مائة وخمسة عشر كتاباً، والكتب التي ساعد الملك عبد العزيز على طباعتها وقد بلغت سبعة وثلاثين كتاباً، والكتب المنسوبة إلى قائمة مطبوعات الملك عبد العزيز. وفي هذا العنصر بالذات تعقب الباحث واحداً وأربعين كتاباً نسبت طباعتها إلى الملك عبد العزيز خطأ أو أن في نسبتها شكا لا يوحي بالاطمئنان إليها. وفي الخاتمة أثبت المؤلف نتائج دراسته. تميز الكتاب بجودة التوثيق عن طريق إثبات صور أغلفة الكتب المأمور بطباعتها أو دعمها وعلى غالبها ما يشير إلى هذا الدعم، كما أن الورق المطبوع عليه الكتاب كان متميزاً بجودته الفائقة ولون خطه المريح للنظر مما أتاح وضوح صور الوثائق وضوحاً جيداً.

* كاتب سعودي [email protected]