الشاعر العراقي خالد المعالي: عشنا في عزلة حقيقية فلا أحد من العرب مدّ لنا يد المساعدة في قضايا النشر والثقافة

صاحب دار «الجمل» لـ«الشرق الأوسط»: كوابيس وتشرد العراقيين في الخارج تحولت بقدرة قادر إلى نوع من التهمة أو السبة

TT

زار الشاعر والناشر خالد المعالي وطنه العراق بعد ربع قرن في العيش في مناف متعددة. وفي هذا الحوار معه، يتحدث عن إنطباعاته عن الوضع الثقافي العراقي، و«القطيعة» بين كتاب الداخل والخارج، وإمكانية استعادة الثقافة العراقية لقيمها الإيجابية بعد سنوات طويلة من التشويه والتغييب، إضافة إلى قضايا النشر

* في البداية نريد ان نعرف انطباعاتك عن العراق بعد 25 سنة من المنفى

ـ وجدت العراق وكأنه خارج تواً من الطوفان! الأنهار شبه ميتة، البساتين عارية وكأنها تتنفس لحظات موتها. الأعشاب الطبيعية شبه مختفية. مشهد قاسٍ جداً لشخص ظلّ يحلم ببلاده ربع قرن ليعود ويجد البلاد كما هي، لكنها عتقت كثيراً وتهدمت وتلاشت أجمل المشاهد عنها. شاب الناس أو ذهبوا الى المكان الذي لا رجعة منه. حاولت عبثاً المواءمة بين المشهد الماضي والمشهد الحاضر. هناك أريفة غالبة اليوم في الكثير من المدن العراقية. لكني كنت أحاول أن أصدّق نفسي بأني فعلاً عدت وبأني فعلاً أسير في المدن وفي الأرياف وأدخل المقاهي وأتحدث مع الناس. شيء لا يصدق. شيء بين الواقع والخيال، كم كان علينا ان ندفع الثمن بسبب ساسة جهلة لعبوا بمصائرنا ودمروا بلادنا وناسنا... لقد انتهى الكابوس وانا اعود وأسافر كما اريد. العراق للعراقيين جميعاً. أتمنى أن نفهم هذا الأمر جيداً.

* لابد انك قد عشت الجدل الدائر هذه الايام عن ادب الداخل وادب الخارج. هل تعتقد ان هذا الجدل يخدم الثقافة العراقية في المرحلة الراهنة؟ ام انه محاولة لاثارة فتنة وشق وحدة الثقافة الوطنية؟

ـ كل جدل اليوم جيد، اذا كان بالطبع ينطلق من أسئلة حقيقية. أعتقد بأننا نحتاج أن نتجادل كثيرا ونتعلم كيف نتجادل، الثقافة العراقية عليها ان تعكس جميع أطياف المجتمع العراقي، ان تحافظ على روح الاختلاف، فهذه الروح اساسية. وعلينا أن لا نغمض أعيننا عما حدث، يجب دراسته واستخلاص العبر منه. وما حدث شيء خطير واذا لم نعاينه بروح نقدية اليوم فسنبقى أسرى المشهد السابق. وهذا بالطبع مطلوب من جميع الاطراف. ونحن في «منشورات الجمل» نشرنا كتاب «ثقافة العنف في العراق» للروائي العراقي سلام عبود، الذي حاول بمنهجية جيدة دراسة ما نُشر في العراق من «أدب» حربي! اما بخصوص بعض التعليقات الصحافية عما يدعى بـ«أدب الداخل أو ادب الخارج»، فهذه كما أعتقد ليست مهمة وتتناول أشياء سطحية، فالأدب واحد، وما يحسب اليوم ليس الانتماء الحزبي، انما القيمة الأدبية للنص.

* انت تدير مجلة عيون ومنشورات الجمل وقد قمت بنشر الكثير من الكتب والنصوص لكتاب وشعراء من داخل العراق. كيف ينظر المثقفون العراقيون الى هذه الجهود؟

ـ حقاً لا أدري كيف كانوا ينظرون اليها، فنحن في دار النشر ناس احرار ولا ننشر لاسباب سياسية، انما لاسباب ادبية محضة، ويهمنا بالطبع الجانب الأخلاقي للأديب. اذا لا نستطيع مثلا نشر أعمال لأديب عراقي مفترض طبّل لصدّام حسين حتى تمزق طبله، أو لأديبة عراقية مفترضة كل انجازها «قصائد» بمناسبة ميلاد صدام.

* ما دمنا نتحدث عن منشورات الجمل.. هل ستنتقل الادارة الى بغداد؟ وهل لديك خطة عمل للمرحلة المقبلة؟

ـ للدار الآن مكتب في شارع المتنبي، وجميع اصداراتنا ستكون الان خلال هذه الايام في متناول القراء في العراق، وهي معروضة باسعار خاصة. علنا نستطيع بهذا الشيء البسيط أن نساهم في تنشيط الحركة الثقافية في العراق. وانا سأعود خلال اسابيع الى العراق من اجل دراسة الخيارات الأخرى التي أفضل ألا اتحدث عنها الآن.

* نشرت الكثير من الدواوين الشعرية وترجمت عشرات الكتب الى العربية والالمانية.. هل تعتقد انك وصلت الى القارئ العراقي خلال السنوات الماضية؟

ـ هذا سؤال ربما تجيب عنه الأوقات المقبلة. فانا لا أعرف حقاً ان كنت قد وصلت الى القارئ أم لا، وهذا أيضاً شيء لا يهمني، المهم والأساسي بالنسبة هو: هل ما اكتبه جيد ويستحق القراءة فعلاً؟ وهذا ما لا أستطيع الإجابة عليه! فالجواب عليه متروك للآخرين.

* الكثير من الناس ومنهم الكثير من المثقفين يفسرون كلمة (منفى) على انها خلاصة للاسترخاء والحرية والثروة. ماذا اعطاك المنفى؟ وماذا اخذ منك؟

ـ من غرائب المنفى العراقي أن كوابيس وتشرد العراقيين في الخارج قد تحولت بقدرة قادر الى نوع من التهمة أو المسبة. لكنه أيضاً الزمن الذي تحوّل فيه «عراقيو الداخل» الى منفيين داخل بلادهم. ربما الى هذه الفكرة الاخيرة يعود سوء الفهم هذا. لقد تركت العراق عام 1978، وتجربتي الحياتية والادبية كانت في بدايتها، تعلّمت الكثير هنا، فقد عشت مشردا وجائعاً لعامين في فرنسا، نمت في الشوارع وأكلت من المزابل... عرفت التشرد الفعلي لا ذاك التشرّد الذي كنا نفتعله ببغداد ايام شبابنا. عشت في الملجأ وتحت اسوأ الظروف لمدة ثلاثة اعوام، حاولت القراءة والكتابة حينما تهدأ دورات الجوع وتخفت. تهت مع عشرات العراقيين في ألمانيا بحثاُ عن عمل، لم نترك شيئاً الا وبحثنا عنه، العمل، الموسيقى، السينما، المسرح، الأمسيات الشعرية والندوات الثقافية.. عشنا في عزلة حقيقية فلا احد من العرب مدّ لنا يد المساعدة في قضايا النشر والثقافة، فهذه ساحات مغلقة في وجوهنا بفضل سطوة صدام حسين وشرائه لذمم الصحافة العربية ومثقفيها. كان علينا أن ننتظر كثيرا حتى استطعنا ان نفرض أنفسنا شيئاً فشيئا بعدما انخفضت امكانيات النظام على الدفع.

لقد عشنا في مجتمع آخر واعتقد باننا تعلمنا منه الكثير، لقد اعطينا الكثير وكسبنا اكثر. فكل حياة اخرى تمنحنا اتساعاً.

* كيف تنظر الى مستقبل العراق الان ومستقبل الثقافة العراقية بالتحديد؟

ـ اعتقد وآمل أيضاً، بأننا في العراق أمام مفترق طرق اساسي في الثقافة العربية. الموزائيك العراقي سيمنحنا امكانية تطوير ثقافية هائلة! وهذا بالطبع متروك لنا! على المثقفين العراقيين الآن بجميع أطيافهم الاستفادة من الامكانية الحالية لكي تكون لنا هوية ثقافية، ستكون أساسية وجوهرية للمجتمع المدني المقبل.

* سيرة ذاتية

* ولد خالد المعالي عام 1956 قرب مدينة السماوة، ونشر محاولته الشعرية الاولى عام 1978 بعنوان: لمن أعلن دفتري؟ ترك العراق بشكل نهائي لأسباب سياسية عام 1979 الى بيروت، ثم فرنسا، لكي يقيم عام 1980 بشكل نهائي في ألمانيا. أسس عام 1983 في مدينة كولونيا حيث يقيم 1983 منشورات الجمل، اصدر عام 1990 بالتعاون مع الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي مجلة فراديس التي توقفت عام 1993. أسس مجلة «عيون» عام 1995 التي ما زالت تصدر حتى الآن. من أهم اعماله: عيون فكّرت بنا، شعر (بيروت 1990)، خيال من قصب، شعر (كولونيا، القاهرة)، الهبوط على اليابسة، شعر (بيروت)، العودة الى الصحراء، شعر (بيروت 1999)، حداء، شعر (بيروت )، أفكار عن الفاتر، نثر (بيروت 2003)، غوتفريد بن: قصائد مختارة، ترجمة (بيروت، القاهرة)، باول تسيلان: سمعتُ من يقول، أعمال شعرية ونثرية، ترجمة (بيروت 1999)، هانس ماغنوس انتسنسبرغر: روبرت الطائر، شعر، ترجمة بالاشتراك مع فاضل العزاوي (بيروت 2003). ترجم الى الألمانية بالاشتراك مع آخرين العديد من المختارات الشعرية العربية الشاملة، الشعر الفلسطيني الجديد، الشعر العراقي الجديد، ولكل من بدر شاكر السيّاب، عبد الوهاب البياتي، محمود درويش، أنسي الحاج، سركون بولص، سعدي يوسف. حاز على جائزة رولف ديتر برنكمان التي تمنحها مدينة كولونيا عام 1988، على الجائزة التشجيعية لمقاطعة نورراين فستيفالن عام 1991، وجائزة معرض الشارقة الدولي للكتاب عام .1996