كباري القاهرة: سماء فوقها سماء

تحفظ قصص الحب والانتحار وتصل بين الأغنياء والفقراء

TT

سوف تعرف أنك في القاهرة عندما تشاهد نهر النيل أو ترى الزحام الشديد في الشوارع أو ترى هذا الكم الكبير من الكباري (الجسور) التي تغطي سماء المدينة، الكباري هي أحد معالم القاهرة، أحد وجوهها المتعددة، إحدى تجلياتها، وطريقة للتخلص من زحام مهيمن. القاهرة ليست هي القاهرة بدون الكباري، تلك التي تنتشر بطول القاهرة وعرضها تصل شمالها بجنوبها وشرقها بغربها، وتحاول أن تخفف قليلاً من وطأة الزحام بلا جدوى مع هذا الكم الكبير من العربات والبشر الذين يأتون من كل صوب، ليحملوا زحام الأرض معهم فوق الكباري، فينتقل الزحام الأرضي إلى الكوبري الذي يفشل في أحيان كثيرة في حل مشكلة المرور.

ملوك الكباري هم سائقو التاكسيات، الذين يملكون أسرارها، ومفاتيح حكاياتها، هم أكثر من يرتادها ويتخذها مأوى آمنا هربا من زحام القاهرة، أحدهم قال لي ونحن نصعد كوبري 15 مايو، لولا الكباري لاختنقت القاهرة واختنقنا معها، وربما يكون أكثر من يحب الكباري هم السائقون، وإن كان الأمر بالنسبة لهم يتحول في بعض الأحيان إلى معاناة أخرى عند مرور شخصيات بارزة في الدولة.

مها التي تسكن في مدينة نصر وتعمل في وسط القاهرة لا تكف عن الشكوى من تعطل المرور فوق الكوبري الواصل بين المنطقتين، وتقول: رغم أن المسافة بين مدينة نصر ووسط البلد لا تستغرق أكثر من ثلث ساعة إلا أنني أقطعها في بعض الأحيان في ساعة ونصف، خاصة في وقت الذروة أو عند مرور إحدى الشخصيات الهامة فيقررون إغلاق الكباري حتى تمر، وتضيف في هذه الحالة يصبح المشي أفضل لكن كيف وأنت معلق بين السماء والأرض، وكذلك يصبح عدم صعود الكوبري رحمة لأن الذين في الأسفل يستطيعون أن يهبطوا ليشتروا شيئا أو يشربوا ماء أما فوق الكوبري فليس لك من مجير إلا الله.

أكثر ما يكرهه ممتطو صهوة الكباري في القاهرة هي الاختناقات المرورية، وزيارات الشخصيات المهمة وبحسب مها " تتحول حياتي إلى جحيم، أكون في حاجة إلى العودة إلى بيتي وأولادي، ولكن يصبح ذلك مستحيلا مع مرور التشريفة، وبرغم غضب مها من هذا إلا أنها ترى أن الكباري مع ذلك أفضل، يكفي أنه لا توجد محطات أتوبيس، ولا باعة جائلين، ولا مرور ،، ولا مشاة فوق الكوبري .

الكثيرون يعتبرون الكباري من الإنجازات المهمة التي يجب أن تدخل التاريخ، أحد سائقي التاكسي قال لي : البلد أصبحت إما كباري أو أنفاق، صمت لحظة وهو يعدل مرآته اليمنى بأطراف أصابعه ويتابع : زمان كانوا يعتبرون السد العالي إنجازاً أما الآن فإن الكباري أيضا أصبحت كذلك.

عدد كباري القاهرة حسب آخر إحصاء 67 كوبري، يربط أغلبها بين ضفتي النيل ( القاهرة والجيزة ) لتكونا القاهرة الكبرى معا على امتداد حوالي 50 كم. وتربط الضفتين إحداهما بالأخرى عدة كباري منها:كوبري التحرير (قصر النيل سابقا 1875) و كوبري الزمالك (1907) وكوبري الجيزة (1908).و كوبري 26 يوليو (كوبري أبو العلا سابقاً 1909) وكوبري الجلاء (الإنجليز - الأعمى 1911) وكوبري الجامعة (1957).

في رمضان الماضي عرض التليفزيون المصري مسلسلا للأطفال اسمه بكار من ضمن حكاياته قصة سائق تاكسي وجد الشارع مزدحما، فقرر ركوب الكوبري، وعندما صعد الكوبري وجده مزدحما أيضا، وظل متوقفا على الكوبري لفترة طويلة ينقل بصره بين الزحام في الأسفل، والزحام فوق الكوبري حتى أصيب بالجنون فقفز من فوق الكوبري فوق أسطح السيارات في الأسفل وهو يطلق صيحات ويتخيل أنه يقود طائرة، وبغض النظر عن واقعية القصة إلا أنها تكشف عن واقع يشتكي منه معظم المصريين، وهو ازدحام الكباري المصنوعة أساسا لفض ازدحام لا ينفض.

أحد سائقي التاكسي قال لي: أحيانا أشعر أنه لا فائدة سواء قاموا يعمل كباري جديدة أم لا، فالزحام موجود فوق الكباري وتحتها، المشكلة التي يعاني منها السائق كما قال لي هي سوء الكباري وعدم العناية بها وهو ما يدفعه للقول أن الطرق السفلية في بعض الأحيان تكون أفضل، لكن الخبراء يقولون أن أهم المشكلات التي تواجه الكباري في مصر هي حدوث تآكل للفواصل المعدنية مما يقلل من العمر الافتراضي للكوبري ويضعف من قدرته علي تحمل الأوزان فضلا من ان تآكل الفواصل يؤدي إلى تفتت الأجزاء الخرسانية المجاورة لها ويحدث خللا عاما في تركيبة الكوبري خاصة تلك المطلة علي المسطحات المائية.

الحياة فوق كباري القاهرة تختلف عن الحياة أسفلها، حيث استغل العديدون المساحات الفارغة أسفل الكباري التي تمر في مناطق حيوية لإقامة مشروعات تجارية صغيرة، فأسفل كوبري الأزهر نجد باعة الورود والجرائد والحلوى العسلية، وأسفل كوبري 26 يوليو تقع ساقية عبد المنعم الصاوي والتي تقدم خدمات ثقافية متنوعة، وحفلات موسيقية للعديد من الفنانين، وأسفل كوبري العباسية يوجد عدد كبير من الباعة الجائلين والرسامين المحترفين، وتوجد كذلك أكشاك المرور وسيارات مارقة وجراج لسيارات ومواقف ميكروباصات و أماكن لتجمع بعض أبناء الشوارع. أول كوبري يشيد بمصر على الإطلاق هو كوبري بنها الذي بدأ العمل فيه بالاتفاق مع جورج ستيفنسون مخترع القاطرة البخارية، وافتتح رسميا في عام 1856 في عهد الخديو سعيد باشا ثم أعيد إنشاؤه عام 1894، أما أول كوبري يشيد على نيل القاهرة فهو كوبري قصر النيل هذا الذي يربض عند بدايته ونهايته أسدان وقد صنعت التماثيل من البرونز بناء على أمر من الخديوي إسماعيل، الذي اختار السباع لأنه كان يلقب بأبي السباع، فتم نحتها في إيطاليا خصيصا وبلغ ثمن نحتها وتكاليف شحنها إلى الإسكندرية حوالي 8425 جنيها مصريا. بدئ في إنشائه عام 1868، حين الانتهاء من بناء سراي الجزيرة على النيل من ناحية الجيزة، ولم يعد من اللائق العبور بين ضفـتي النيل على صف من المراكب المربوطة إلى بعضها وممدود عليها ألواح خشبية كانت هي وسيلة المرور فوق النيل من القاهرة إلى الجيزة والعكس، فكان سكان المدينتين يلقون مشقة كبيرة في العبور والتنقل بينهما، لذا اتجه تفكير الخديوي إسماعيل لإنشاء سلسلة من الكباري لتيسير العبور وتسريع حركة العمران وكان أولها كوبري قصر النيل ،وتم بناؤه بطول (406 أمتار) وعرض (10,5 متر) منها (2,5 متر) للرصيفين الجانبيين وطريق بعرض (8 أمتار) . ومن الكباري القديمة أيضا كوبري إمبابة والذي أنشئ عام 1890، وكان قبل إنشائه خط السكة الحديد ينتهي عند إمبابة وكان نقل المسافرين والبضائع الآتية من الوجه البحري يتم بالمراكب الشراعية إلى البر الغربي من إمبابة حيث قطارات الركاب والبضائع في انتظارهم لتقلهم للوجه القبلي والعكس، وقد وصف الكوبري عند إنشائه بأنه أكبر كوبري في القارة الأفريقية ويبلغ طوله 490 مترا بخط مزدوج بست فتحات وفتحة واحدة متحركة ذات ممرين ملاحيين وممرين جانبين للسيارات، أما كوبري الجلاء والذي كان معروفا بكوبري البحر الأعمى فقد أنشئ عام 1872 وهو يقابل كوبري قصر النيل على الفرع الغربي للنيل ويصل الجزيرة بالجيزة، وقد عرف عند إنشائه بكوبري الإنجليز، ثم اشتهر بكوبري بديعة لأنه كان يقع بالقرب من كازينو بديعة مصابني، وبعد ثورة يوليو أطلق عليه كوبري الجلاء. أما كوبري الجامعة فهو أكبر كوبري شيدته ثورة يوليو وافتتح في مايو سنة 1958 على الفرع الغربي للنيل، ويصل ما بين شارعي القصر العيني وشارع نهضة مصر المؤدي إلى جامعة القاهرة، ويبلغ طوله 484 مترا وعرضه 30 مترا، ويعد من أشهر الكباري التي يلتقي فوقها الطلبة الذين يتلمسون فوقها الطريق نحو الجامعة والحب.

الحب هو أحد المفردات التي يجب ذكرها عند ذكر كباري القاهرة، ففوق عدد لا بأس به منها، لا سيما القديم، يتراص عدد كبير من الرجال والنساء، عشاق، ومخطوبون، ومتزوجون، يكتبون على أسوار الكباري بأقلام الفلوماستر كلمات تخلد وقفتهم، وتحكي قصص حبهم لمن سيأتي بعدهم، تمتلئ أسوار كباري قصر النيل والجامعة والمنيل بكتابات متنوعة عن الحب والفراق والخيانة والفراق والذكريات الجميلة.

كباري القاهرة شاهدة على كثير من قصص الحب الجميلة، و حكايات الصداقة، ومرفأ كبير لذكريات لا تنضب، يلجأ كثير منن المصريين إليها، خاصة تلك الكباري التي تطل على النيل، للهروب من ضجيج القاهرة، يقفون يوجهون نظرهم إلى الماء السائر أمامهم في هدوء يحمل فوق كتفيه مراكب وصيادين، ينظرون غير عابئين بضجيج السيارات خلفهم، ولا الازدحام فوق الكوبري .

يتحول عدد كبير من الكباري التي تطل على النيل إلى متنزهات مفتوحة للمصريين، للبسطاء منهم، ولا سيما في الصيف، بحثا عن نسمة هواء، وهروبا من تعب وإجهاد ساعات العمل الطويلة، وتتحول إلى مكان “أكل عيش” لبعض الباعة الجائلين، باعة الكولا والترمس، والذرة المشوية، والبيض والسميط، الأكلة المصرية الشعبية المشهورة، أرصفة الكباري هي من تحدد عدد من سيقف فوقها وكلما ازداد اتساع الرصيف كلما ازداد عدد الواقفين، لدرجة أن البعض يقوم بركن سيارته فوق الرصيف والوقوف على سور الكوبري لشم الهواء، وتناول المشروبات المثلجة صيفا وحمص الشام الساخن شتاء .يصبح الكوبري في أحيان كثيرة نقطة اتصال بين عالمين، طريق وجسر بين متناقضين، الطريق الوحيد بين الفقراء والأغنياء، البسطاء و الأثرياء هؤلاء الذين قد يفصل بينهم فرع نهر النيل، أو شارع كبير، حدث هذا مع كوبري أبو العلا الذي كان يعتبره كثيرون الطريق الموصل بين عالمين مختلفين، الأغنياء والفقراء، حي الزمالك بثرائه الفاحش وفيلاته وقصوره، وحي بولاق أبوالعلا بفقرائه وعماله البسطاء وبيوته الواطئة الفقيرة، المستكينة.

للانتحار في مصر مواسم، لكن أيا كان ميعاد الموسم فإن الكوبري لا بد أن يكون شاهدا عليها، ففي أيام ظهور نتائج الامتحانات، يقف البعض على سور الكوبري ويقفز، بعض الذين يفشلون في قصص حبهم يفعلون ذلك أيضا، وبعض من يفقدون الأمل في الحياة، وهكذا يتحول الكوبري إلى مكان للموت، تماما مثلما يصبح مكانا للحياة مع ميلاد كل قصة حب جديدة بريئة فوقه.