مالك المطلبي: لا توجد في العراق ثقافة إلا ثقافة الخارج

الواقع الثقافي العراقي الآن وسابقاً ومسؤولية تجاه حريته في حوار مع شاعر عراقي

TT

كان المطلبي، الذي التقيته في غاليري حوار في وزيرية بغداد بصحبة الفنان علي المندلاوي، يتأبط مجموعة من الرسائل الجامعية التي يشرف عليها باعتباره أستاذاً في كلية الفنون الجميلة. لقد اتسعت ابتسامته، وبدا سعيداً، وهو «يعيش حريته الكاملة»، بعد سنوات القمع والقهر، وهيمنة الحزب الواحد على كل مناحي الحياة الأدبية والأكاديمية.

جاء الشاعر والأستاذ الأكاديمي مالك المطلبي، من حافات اهوار مدينة العمارة، من قرية ربما غير مسجلة في الخرائط الجغرافية اسمها الحلفاية. من هناك ايضا جاء الكاتب الراحل محمد شمسي والروائي عبد الرزاق المطلبي.

عندما سألته في هذا اللقاء الذي جمعنا بعد سنوات عن وضعه الحياتي حاليا، قال: «سأكون اكثر سعادة لو كان موسى كريدي «قاص عراقي» ومحمد شمسي ما زالا على قيد الحياة لنعيش حريتنا كاملة». في هذا الحوار، يتحدث المطلبي عن الواقع الثقافي العراقي الآن، ومسؤولية المثقف تجاه حريته في العراق الجديد لإعادة التوازن إلى الساحة الثقافية العراقية، وقضايا أخرى:

في العهد الديكتاتوري الشمولي كنا كلنا نعمل في جهاز الأمن دون وعي، بحيث يراقب أحدنا الآخر حتى في البيت. ونراقب الأطفال عندما يذهبون الى المدرسة، وندربهم على أشياء معينة لدرء الموت.

أهم ما حققناه نحن الذين لم نستطع الهجرة لاسباب عديدة هو النفي الى الداخل وبوابة المنفى الداخلي هي الصمت. اشجع الشجعان كان هو الصامت. أعتقد انه لا توجد في العراق ثقافة الا ثقافة الخارج لانها ثقافة الحرية.

> على ماذا تقوم حاليا بنية الثقافة العراقية؟

ـ اعتقد ان بنية الثقافة العراقية الآن قائمة على اساس انها ثقافة معادة، بمعنى اننا ننتج ثقافتنا القديمة من غير ان نعي التحولات الجديدة وما جرى في المؤسسات الثقافية هو اعادة انتاج النسق القديم من غير ان نشعر، ومن ثمة فالبنية الثقافية العراقية تقوم على اساس رد الفعل وليس الفعل منتظرين التحولات الشاملة في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسة لأن البنية الثقافية هي ذراع من بنية المجتمع.

> ألا تعتقد ان المثقف يسبق الآخرين، وبالتالي فهو يمتلك وجهة نظر مستقبلية ازاء ما يجري؟

ـ ينبغي ان نعيد النظر في هذا المفهوم. من الناحية الواقعية، وكما قلت، فإن المثقف يعيد انتاج ذاته القديمة بجميع المسارات. هو خائف ويقوم على رد الفعل. إنه لا يستعمل الحرية وبرنامجها التنفيذي، الديمقراطية، على اساس انهما حق ذاتي له وانما يستعملهما كحق هجومي على الآخر، يعني حق سلب الآخر وليس للحوار مع الاخر. ومع هذا، فإن التحولات العامة التي تجري ممكن ان تؤدي الى انتاج ثقافة جديدة في العراق، واعني ثقافة الفعل.

> كيف يمكن ان تستعيد الثقافة العراقية توازنها؟

ـ صيرورة الشعوب بعض الاحيان تبدو غامضة وملتبسة، خاصة نحن الذين نحمل ارثا شرقيا قائما على ثقافة الطقس، أي ثقافة الايمان، أي ثقافة غياب العقل. الحرية هي ارادة العقل، ونحن نحتاج الى بناء تحولات اقتصادية هائلة وسياسية وتعليمية واجتماعية، ومن ثم تحولات ثقافية. والثقافة اكثر تحررا لأنها محررة من الموازنة والاقتصاد وعبء حساب الزمن. الثقافة قائمة على شبكة زئبقية ولا تخضع الى القوانين اطلاقا.

> هل هذا ينسحب على الحياة الثقافية، على ممارسة الثقافة؟

ـ بالتأكيد، بدون نظرية لا تكون هناك ممارسة، ودون وعي لا يكون هناك وجود. البقرة موجودة، ولكنها لا تتمتع بالوعي بمعنى وجود غريزي. النظرية هي سلسلة من المفاهيم، وإذا لم يكن لي جهاز من المفاهيم، فأنا ابقى موجودا فقط، كائنا مستلب الوعي. مشكلة الثقافة انها تعمل في الوعي ولا تعمل في الوجود، وحسابات الوعي غامضة وملتبسة. الوعي هو من حصة الفلاسفة، والآن، في عصر العلم اختفى الفلاسفة. مفهوم الاسرع هو السائد وليس الاقوى. في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان مفهوم الاقوى هو السائد.

> لكن أين اختفت تقاليد الثقافة العراقية التي كانت تميزها؟

ـ التقاليد توجد عندما تكون هناك مؤسسات، ليس بمعنى السلطة، بل بمعنى مؤسسات المعرفة. لا توجد لدينا مؤسسات في العراق، يعني نحن نعمل بصورة فردية. عندما نسمع عن المناهج الغربية فهي قائمة على مؤسسات معرفية. لا يوجد شتراوس بنيوي واحد، بل توجد مؤسسات بنيوية، وتوجد مؤسسات المنهج النفسي الذي لا يزال مطروحاً في الحوار بين التقليديين والبنيويين، لا يسخر احدهم من الاخر، بل يتحاورون ويجمعون نتائج حواراتهم لانتاج المعرفة السائدة. نحن لا نملك شيئا من هذا. المؤسسة الوحيدة التي كانت عندنا هي اتحاد الادباء، وهي مؤسسة مخابرات وامن، وكنا نخاف الذهاب اليها لانه قد يخطأ احدنا في الكلام فتحل نهايته، فكيف تؤسس وتبني تقاليد وانت خائف؟

لأضرب مثلا. نحن لكي نحتفي بموت الفنان مؤيد نعمة يجب ان نستعيد مؤيد نعمة للاجيال القادمة بمعنى ان نؤسس مركزا لمؤيد نعمة، ولاننا لا نمتلك هذا التقليد نكتفي في قاعة الاحتفاء بالبكاء والبلاغة وندفن مؤيد نعمة من جديد في تابوت البلاغة. وفعلناها مرة اخرى مع رحيل الدكتور عوني كرومي. انا طالبت باستعادة 50 مسرحية من اعماله لاقامة مركز باسمه لتستفيد منها الاجيال، لكن الاحتفاء هنا هو عبارة عن خطب وقصائد وبكاء. نحن بلا تقاليد لأننا نفتقد اسس بناء التقاليد واعتقد ان مراحل التحول ستشهد بناء المؤسسة الثقافية لأن الخوف انتهى وهذا هو شرط الحرية.

> هل هو الخوف من السلطة فقط؟

ـ هو الخوف من السلطة القاهرة التي تفرض قوتها أياً كانت. هذه السلطة تنتج خوفاً فقط. هذا الخوف يتطور ليكون خوفا فنيا معقدا، ما نسميه بالخوف الداخلي. في العهد الديكتاتوري الشمولي نعمل كلنا في الامن دون وعي، بحيث يراقب أحدنا الآخر حتى في البيت. احدنا في البيت يراقب الاخر، نراقب الاطفال عندما يذهبون الى المدرسة، وندربهم على شيء معين لدرء الموت. لو يدرس تطور الخوف في العراق لكان كتابا ممتازا. انا اسمي ذلك خوفاً فنياً له نظمه الشكلية وآلياته وتكوينه. الخوف هو شرط السلطة وعندما يسود ينتهي كل شيء. الآن لا يوجد خوف، لا يوجد قانون للخوف، وانما يوجد خوف فردي. القتل كان قانونيا ومنظما جدا وله مواد. الآن هناك من يتكلم ويضحك، وهناك تنفجر سيارة مفخخة لتقتله. هو يموت حرا. الآن يوجد موت ذاتي، لكن في السابق كان الموت مقررا، مثلا كان ممنوعا علينا ان نعقد مثل هذه الجلسة وهذا الحديث، حيث كانت تسود الريبة، نحن كنا نراقب انفسنا الى جانب من كان يراقبنا ويشك فينا.

> ألا يساعد النص، او الانجاز الابداعي على تأسيس تقاليد في الحياة الثقافية؟

ـ النص اذا كان معزولا عن البنية العامة فلا يساوي شيئا. نحن ندرس النص لذاته. نحن نشيد بالمتنبي والسياب ونشيد بأشعارهما كاستعادة ذاتية. النص يشتغل عندما يكون جزءاً من فعالية. وعكس ذلك، يصبح اشتغالا تقنيا. ماذا يفعل النص في صحراء شاسعة؟ اذا لم يكن استجابة للبنية العامة ويعمل كجزء مع كل القوى الاخرى، سينعزل ويصبح نصاً تقنياً، كالرسم أو الشعر. الرسامون او الشعراء يعرفون بعضهم بعضا ويعرفون نصوصهم او تطورهم وحركة انجازاتهم وتسجل هذه كمعلومات. لكن كيف نتحدث عن البنية الثقافية وكيف يشتغل النص وهو مقطوع عن البنية العامة؟

> المكان كجزء من النص او الانجاز الابداعي له اهميته. كيف تتعامل انت مع المكان؟

ـ ثيمة المكان المسمى والاشتغال عليها جزء من برنامج الداخل عند الانسحاب من الرحم الاول. المكان كان يشكل الرحم الاول وكان رمزيا لقطع الحركة على اللا مكان الذي وجدنا انفسنا فيه فتشبثنا في المكان الرمزي لابقاء حيوية المكان في داخلنا. لهذا نشط الرمز المكاني عند الكثير من الادباء. جميع قصص محمد خضير هي أزقة واروقة وبيوت في البصرة، والسياب عنده بويب وجيكور وباب سليمان وام البروم والمقبرة كلها مسميات مكانية.

> ماذا انتجت فترة صمت المطلبي، واين انت من كتابة النص الابداعي اليوم؟

ـ اهم ما تستطيع ان تفعله في ظل نظام شمولي وتتقاطع معه هو الهجرة. أي شخص هاجر خارج العراق، حتى لو لم يكن ملاحقاً أمنيا او سياسيا فهو كان متقاطعا مع النظام. كانت هناك هجرتان، الهجرة الى ما يسمى بالمنافي الارادية والمفروضة، والهجرة إلى الداخل. واهم ما حققناه نحن الذين لم نستطع الهجرة لاسباب عديدة هو النفي الى الداخل وبوابة المنفى الداخلي هو الصمت. اشجع الشجعان كان هو الصامت. أعتقد انه لا توجد في العراق ثقافة الا ثقافة الخارج لانها ثقافة الحرية وهي الثقافة الوحيدة التي تكلمت، اما ثقافة الداخل فهي ثقافة صامتة لان الكلمة اذا نطقت سوف يقبض عليها وتحاسب. كيف اكون شاعرا وانا لا اكتب من وجهة نظر السلطة قصيدة في مناسبة مفروضة علينا، وحتى لا اكتب قصيدة في مناسبة ما فأنا لا اكتب الشعر في أي وقت او اكتبه في المنفى. في الحقيقة انا كتبت قصائد كثيرة في منفاي الداخلي واتجهت الى النثر وعندي مجموعة على وشك الطبع، وعندي كتاب نصوص اسميتها «ذاكرة الكتابة». ونشرت في الثمانينات نص «ذاكرة المقهى»، ونشر في مجلة «الاقلام» تحدثت فيه عن ذاكرة مقاهي بغداد. الآن عندي 6 نصوص معدة ككتاب للطبع. وهناك كتاب «تأمل المقدس» عن الدكتور علي الوردي.