خبيرة الآثار العراقية لمياء كيلاني: 15 ألف قطعة أثرية نهبت من المتحف العراقي بينها 35 قطعة ليس لها معادل في العالم

قالت لـ الشرق الاوسط إن عهد صدام مسؤول عن خراب بابل.. وإن النهب بعد سقوطه أضاع قطعا أثرية نادرة

TT

كان قسم الآثار، المفتتح حديثاً في الخمسينيات من القرن المنصرم من أقسام كلية الآداب ببغداد. ويُعد من الأقسام الثانوية، قياساً بالأقسام الأخرى؛ فهو يرتبط بالبحث عن أدوات ورمم الأولين، وليس فيه طموح السياسة والجاه والثروة. وهذا ما كانت تفكر فيه خبيرة الآثار لمياء كيلاني، سليلة سدنة الحضرة الكيلانية ببغداد، قبل دخولها هذا القسم عن طريق المصادفة. كانت تحلم، وهي طالبة ثانوية، أن تكون يوماً ما رئيسة وزراء مثلا، أو سياسية يُشار إليها بالبنان. لذا حاولت دراسة الحقوق والسياسة، فهي الخطوة الأولى نحو تحقيق ذلك الحلم، كما جرت العادة في الدول ذات التقاليد الديمقراطية.

إلا أن وجود شقيقها في تلك الكلية حال دون ذلك، وكان يرى وجودها تقييداً له في حياته الجامعية أن يجتمع وشقيقته في كلية واحدة. ثم أخذت بالبحث عن أي فرع جامعي يؤدي بها إلى مناصب السياسة، وبالتالي أفلست من الجميع وحطت عصا ترحالها في قسم الآثار. دخلت هذا الفرع، المفتتح قبل ثلاث سنوات، وسط استخفاف الأهل والأقرباء، فماذا يتوقع لدارس آثار الطين والحجارة من مستقبل، سوى وظيفة متواضعة في المتحف العراقي! إلا أن الفرصة المؤاتية قد أتتها، عندما وصل أحد أساتذة جامعة «كامبردج» البريطانية العريقة إلى بغداد، وطلب مقابلتها، بعد أن علم أن فتاة عراقية تدرس علم الآثار ببغداد، ووعدها بالحصول على منحة دراسية في جامعته، وقد تم ذلك بعد عام دراسي واحد.

أكملت دراسة الآثار بلندن، وبعد التخرج عادت إلى بغداد للعمل في دائرة الآثار عام 1961، وبقيت في الوظيفة حتى عام 1968. ففي هذا السنة تغيرت أشياء كثيرة، وبدأ التقييم على أساس التعاون مع حزب البعث. وعملت في تلك الفترة تحت إدارة الآثاري المعروف طه باقر، وحصل لأول مرة في تاريخ الآثار العراقية أن تعمل فتاة في المواقع الأثرية. وترى الكيلاني أنه لو كان شخص آخر غير باقر لما وافق على عملها كمُنقبة، وذلك لموانع اجتماعية.

ومنذ البداية، انصب اهتمامها على الأختام الأسطوانية، وما اختارته وعرضته آنذاك، في المتحف، ظل معروضاً حتى التسعينيات من القرن المنصرم. كذلك تبنت فرعاً جديداً في المتحف، وهو الفرع التعليمي، لطلبة المدارس والهواة، والغرض منه تحبيذ العمل في الآثار. أُبعدت بعدها عن الآثار إلى التربية، ثم جاءت الفرصة للدراسة العليا ببريطانيا أيضاً، ونالت بأطروحتها «الأواني الحجرية السومرية» الماجستير، من جامعة «أدنبرة»، وبأطروحتها «الأختام الأسطوانية البابلية (فترة حامورابي)» شهادة الدكتوراه من الجامعة نفسها. وفيما يلي حوار أجرته معها «الشرق الاوسط» حول مسيرتها في عالم الآثار وحول تاريخ الآثار العراقية، وما شهدته من تقلبات في القرن الماضي.

> هل نشرتِ أطروحتك الدراسية بالعربية، بعد الإنجليزية؟

ـ لا، لم أنشرها. والسبب لأني أراها لا تهم القارئ العربي العادي، فهي موجهة للأكاديميين والاختصاصيين. وما أقترحه أن يُصار إلى تأليف كتب خاصة بالآثار، من غير الكتب الأكاديمية. وقد بدأت في الثمانينات، من القرن الماضي، بنشر كتب آثارية في أوروبا، خاصة بالآثار العراقية، وركزت على الأطروحات الدراسية المقدمة إلى جامعة بغداد، وذات المواضيع النادرة، غير المطروقة من قبل. ولايهم أن تكون الأطروحة متينة أو ضعيفة علمياً، بل الغرض هو مادتها.

> ما هي العناوين التي اخترتيها؟

ـ اخترت الرسائل الخاصة بالتنقيبات، لا الرسائل التي بات موضوعها مطروقاً، والخاصة بالفلسفة البابلية، أو أسطورة الخلق، أو الأعياد مثلا. وقد نشرت، بعد الاتفاق مع صاحب الرسالة، وترجمتها إلى الإنجليزية: «الأختام الأسطوانية في تلال حمرين». ونشرت أطروحة حول الفخار في حمرين، وأخرى حول الرقم الطينية في المنطقة نفسها، والرقم الطينية في منطقة ديالى. ونشرت كتاب الآثاري فرج بصمجي، وهو عبارة عن أرشيف أو كاتلوك للأختام الأسطوانية، وكان الأخير مديراً للمتحف العراقي لمدة عشرين عاماً.

> تبدو آثار العراق ثروة موازية للثروة المائية والنفطية، ولا بد أنها حظيت باهتمام كبير من قبل الدولة، فماذا عن تاريخ الاهتمام بهذه الثروة؟

ـ بدأ الاهتمام بالأثر العراقي اهتماماً فرنسياً وألمانياً، في غضون القرن التاسع عشر وأقدم من ذلك، وحينها حدثت تنقيبات كبرى في آثار نينوى، ومن اكتشافاتها زودت المتاحف الأوروبية بالآثار العراقية. ولا أعد تلك الآثار سرقات، مثلما يُشاع، بل نُقبت ورُحلت بدراية وأوامر (فرمانات) من الدولة العثمانية. ومع ذلك هناك سرقات، وهناك تجارة آثار خارج عين الدولة. وهذا ما حصل في مدينة سبار، شمال مدينة بابل الأثرية، فقد حفرت بشراهة، وبيعت آثارها خارج النطاق الرسمي، بل هناك الآلاف من الرُقم الطينية، التي بيعت من قبل الناس على المهتمين بالآثار.

أما في القرن العشرين، فقد نقب الألمان في خرائب بابل، وفي مدينة الوركاء، جنوب العراق، وأخذوا الآثار، التي يحتفظون بها في متحف برلين بموافقة الدولة العثمانية أيضاً. وقد وصلت تلك الآثار قبل الحرب العالمية الأولى بسنوات. وبعد تلك الحرب وصلت البعثات التنقيبية البريطانية، ونقلت ما نقلته إلى المتحف البريطاني. وكانت غرترود بيل، السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني، ذات اهتمام ودراسة آثارية. لذا أقدمت منذ البداية على تأسيس دائرة الآثار، وكانت تُعرف بالدائرة الأركيولوجية، وأقدمت على تأسيس متحف صغير، شغل غرفة من بناية القشلة العثمانية وسط بغداد، حيث دار الوالي سابقاً. وبدأت تعترض على ترحيل الآثار كافة إلى المتاحف الأوروبية. وسرعان ما أخذت تطالب بتوسيع المتحف، وكان لها هذا، حيث شغل المتحف بناية مستقلة، حتى الانتقال إلى البناية الجديدة. وكم تبدو تلك الغرفة الصغيرة مهمة في تاريخ الاهتمام في الأثر العراقي. وقد حصل أن استقدم ساطع الحصري، مدير الآثار في الثلاثينيات، المعماري الألماني الشهير مارخ، الذي كان قريباً من ادولف هتلر، وهو الذي صمم بناية نورنبيرك، وبعد الحرب العالمية الثانية عاد هذا المهندس إلى بغداد، لاستكمال العمل في بناية المتحف العراقي الجديد. وأعد عمارة المتحف الحالي من العمائر النموذجية ببغداد، فكم تبدو صغيرة ومتواضعة من الخارج، إلا أنها متسعة ومعقدة من الداخل. وبعدها تبرع صاحب الخمسة في المائة من نفط العراق البرتغالي كولبنيكيان بإنشاء متاحف المحافظات، ومنها كان متحف الموصل، الذي صممه المعماري العراقي محمد مكية، ومتحف أور بالناصرية صممه المعماري العراقي سعيد علي مظلوم.

> كل تلك العناية كانت خاصة بتاريخ العراق القديم، ومعلوم أن الدولة العباسية، وأطرافا إسلامية أخرى، حكمت العراق لقرون، فماذا عن الآثار الإسلامية؟

ـ كانت تلك الآثار، الثابتة منها، مهملة حقاً. أقول هذا لأن أحد أقواس المدرسة المستنصرية، التي شيدت في القرن السابع الهجري، كان مخبزاً! وكان القصر العباسي عبارة عن خرابة. حقيقة ليس لدينا آثار عباسية نقية، وأغلبها كان من آثار مرحلتها المتأخرة المطعمة. وذلك بسبب الحروب والفتن، وأن البناء كان بالقرميد، وعُمران القرميد عادة لا يدوم. أما آثار منطقة الأعظمية والصرافية، وهي الموقع العباسي الأول، فقد كثر التنقيب فيها، ولكن للأسف لم يعثر على شيء، لأن الأرض حُرثت وتحولت إلى بساتين. لذا لم يبق من الأثر العباسي إلا القليل جداً: جامع الخلفاء، الذي أعاد تصميمه المعماري محمد مكية في الستينيات من القرن الماضي، ومنارته منارة سوق الغزل. وهناك منارة صغيرة بالكرخ، وقبة زبيدة المخروطية، وهي ذات طراز سلجوقي. وكانت القبب المخروطية مشهورة بالعراق في ذلك الوقت، وما زالت منصوبة فوق العديد من الأضرحة، لكنها تعود إلى فترة متأخرة. وكانت قبة الشيخ عبد القادر الكيلاني من ذلك الطراز المخروطي، قبل قلعها واستبدالها بالقبة الحالية. ومن المعلوم ان للحروب بين العثمانيين والصفويين دورا في هدم العديد من العمارات الأثرية الخاصة بالأضرحة والمساجد.

> متى بدأ تدهور الاهتمام بالآثار العراقية؟

ـ تشمل عملية الاهتمام بالآثار: التخطيط للتنقيب، وإجراءات وصول الأثر إلى المتحف، وتسجيله إلى حفظه وعرضه، وخطوات صيانته. وكان طه باقر، وفيصل الوائلي، وفرج بصمه جي، وغيرهم من الآثاريين يتبعون أصولا في تنفيذ تلك الخطوات وبدقة. فعلى سبيل المثال كان بصمه جي، وكان مدير المتحف العراقي لعشرين عاماً، يأتي بخطاط خاص يخط رقم الأثر عليه، ووصفه وتدوينه في السجل. وغايته من ذلك خط يتناسب مع مكانة الأثر. غير أن مثل هذا التقليد اختفى تدريجياً، حتى استغنى المتحف عن عملية التسجيل برمتها، وذلك منذ التسعينيات من القرن الماضي، وتُرك تقليد تسجيل الأثر في وزارة المالية، كما جرت العادة.

وبفضل هذا التدهور ظل الجميع حائراً، بعد النهب الشامل سنة 2003، اذ ليس هناك سجل يُرجع له، لمعرفة مواصفات الأثر المنهوب. وكنت أراهن قبل وصولي إلى بغداد، عقب 9 أبريل (نيسان) 2003، على وجود السجلات، التي كنت أعرفها، فإذا تلف سجل المتحف تبقى نسخة وزارة المالية محفوظة. وقد دهشت لما علمت بترك تقليد التسجيل من سنوات، وظلت الآثار تُعامل عبر سجلات وهمية، تحت عنوان «سري للغاية». وبطبيعة الحال، مَنْ تجرأ على ترك التسجيل في حفظ الأثر أنه ليس أثرياً، ولا حريصاً على ثروة الآثار.

> ما هي عوائق العمل في مجال الآثار، هل هناك اعتراضات دينية كاعتبارها من صنف الأصنام مثلاً؟

ـ أبداً، ليس هناك أي تأثير ديني، كفتوى أو احتجاج ما، سوى كان في الماضي أو في الحاضر. أما ما يخص آثار العتبات المقدسة فكانت لها خزائن خاصة في داخلها، وتقوم دائرة الآثار، بين الحين والآخر، بتسجيل الجديد منها. كذلك بالنسبة للمساجد والجوامع فلا يجري أي تغيير فيها إلا بموافقة مديرية الآثار، لأنها هي المسؤولة عن حماية التراث بشكل عام.

> هل شمل هذا الإجراء الجوامع الحديثة؟

ـ نعم بالنسبة لتلك التي يصل عمرها إلى سبعين عاماً وأكثر. ولكن، هناك ما يُعيق عمل دائرة الآثار، وهو تدخل السلطة بين الحين والآخر، بطلبات بعيدة عن الحرص على الأثر. ومثال على ذلك، هُدم حائط تُراثي في حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني، ووقفت دائرة الآثار ضد هذا التصرف، لكنها لم تستطع وقف الهدم.

> وماذا حصل للحائط التراثي في حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني؟

ـ زار (الرئيس العراقي السابق) صدام حسين الحضرة القادرية، ولم يتمكن يومها من الدخول بسبب الازدحام، فرجع وقرر توسيعها بهدم الحائط، وتوسيع البناء. وقد شمل الهدم الحائط وجانبا من المكتبة والفسحة العثمانية، وهي الوحيدة ببغداد من ناحية الحجم والطراز المعماري.

واستناداً لما لعائلتي من صلة بسدانة الضريح، قمت بتوجيه رسالة إلى رئيس الجمهورية، من دون أن أُسميه أو أتبع اسمه بعبارة حفظه الله، مثلما جرت العادة، وقد تعمدت ذلك. وبعثتها عبر البريد عام 1993، ونسخت أخرى سلمتها إلى السفارة العراقية، وقد شرحت فيها خطورة قرار هدم الحائط، وتشويه عمارة الحضرة التاريخية. وبعدها علمت أنه ذيل الرسالة بعبارة «تُناقش»، وفهمت أنها أجلت الهدم مدة ست سنوات. ويا ليت سقط النظام قبل هدم الحائط، حيث هُدم سنة 2001. فلو حصل هذا، لكان بالإمكان انقاذ الفسحة التراثية، وما هُدم معها من عمارة قائمة منذ القرن السابع عشر الميلادي. وحصل أن التقيت بنائب الرئيس عزة الدوري، وكان مسؤولا عن العتبات المقدسة، وعرضت عليه صور وخرائط للمكان، إلا أني وجدته متلكئا لا يعرف شيئاً.

> ما عدا هدم الحضرة هل امتدت يد التخريب باسم التجديد إلى آثار أخرى ببغداد؟

ـ سمعت أن جامع سيد سلطان علي، ويقع على حافة دجلة الشرقية وسط بغداد، تعرض للعبث أيضاً، وهو من العمائر التراثية. وكذلك تعرضت مساجد أخرى للعبث باسم التجديد. أما بابل فقد حدثت عليها اعتداءات بليغة، من أجل خدمة السياحة بداية من الخمسينيات في القرن الماضي، فحينها لم يكن هناك اهتمام كاف بالآثار. بل ليست هناك تعليمات واضحة بخصوصها. ولكن، بعد السبعينيات، وبعد الفورة في انتاج النفط، صُرفت أموال طائلة لإعمار بابل، وقد أراد صدام حسين جعل اسمه قريناً لنبوخذنصر، الملك البابلي الشهير، أو لنتحدث بحسن نية ونقول، ربما كان جزء من اهتمامه من أجل إبراز التاريخ البابلي. غير أن ذلك الاهتمام جاء على خراب بابل، وهي أهم مدينة في تاريخ العالم قاطبة، فكل الحضارات كان مصدرها بابل، وليس هناك مَنْ لا يعرف بابل أو بابلون. لقد تغيرت ملامح المكان، وأن حجمه لا يسمح بمثل هذا العمران. وكانت الحملة تحت شعار «من نبوخذنصر إلى صدام حسين بابل تنهض من جديد».

>هل المكان المعروف حالياً هو كل بابل أم هو دار الحكم مثلا؟

ـ هذه فقط منطقة القصور الملكية والمعابد، أما بابل المدينة فكانت محاطة بسور كبير، وللأسف أكثر مساحتها الآن بساتين. كذلك هناك شارع الموكب، والقصر الشمالي والقصر الجنوبي، وزقورات المعابد. وصلة بالحديث حول الإساءة لمناطق الآثار؛ فبعد بابل حصل تخريب في منطقة الحضر الأثرية، وخاصة في التسعينيات من القرن الماضي. وحصل أن نقب فيها الآثاريان علي مصطفى وفؤاد سفر في الخمسينيات، ورقموا كل الأحجار، وذلك لإعادة هيكلة الآثار، حسب ما كانت عليه، وقد أعادوا قسماً منها، وتُرك الباقي في الانتظار على الأرض. ولكن، في أواخر التسعينيات، لما زار وكيل وزارة الثقافة المكان، لإقامة مهرجان من المهرجانات، أمر برفعها لا على التعيين، وأخذوا يبنون الحضر بأحجار جلبوها من الموصل، وليس بأحجارها الأصلية.

أما آثار آشور فلم يحدث تخريب كثير فيها، إلا أن متحفها الصغير كان قد سُرق في التسعينيات أيضاً، وتحت أنظار المتنفذين آنذاك. ولا يُفسر عدم منع السرقة إلا بالتواطؤ مع السُراق. ووقتها أيضاً سُرق متحف مدينة واسط، وهو يحتوي على آثار إسلامية، وسرقت متاحف المحافظات الجنوبية وكركوك، ما عدا متحف الناصرية لم يسرق، بعد أحداث 1991.

> لماذا متحف الناصرية بالذات لم يسرق حينها؟

ـ كان ذلك بفضل موظفة في المتحف، اعترضت وصدت جموع الناهبين، وقفت بالباب، وهي من أهل المنطقة. وقد سمعت أن هذه الموظفة جمعت الآثار السومرية الذهبية وحملتها إلى دارها. وبعد استتباب الأوضاع قامت بحملها إلى بغداد، وسلمت الآثار بكل أمانة. إلا أن الانتماء الحزبي كان يلعب دوراً في تقييم الموظفين، ولم تعين تلك الموظفة مديرة للمتحف رغم استحقاقها لهذا المنصب بكل جدارة. وأكثر من هذا، لم يذكرها أحد، ولم تكتب عنها الصحافة.

> وكيف حصلت عملية نهب متحف بغداد عام 2003؟

ـ لقد اكتشفنا أن كل البوابات الخارجية غير عاملة، من ناحية الحصانة الخاصة بها، وربما فتحت بركل الأرجل. وقد ورد في تقرير الخبراء، انتجته لجنة تحقيقية خاصة بالمتحف من قبل خبراء أميركيين وعراقيين، أن البوابات كانت معطلة من قبل. ولكن حسب نظام المتحف، لا يسمح أن تترك هكذا أبداً. وبعد ستة أشهر، من وجودي في بغداد، دخلت إلى غرفة المسماريات، فأقول يا ليتها سُرقت، ولم تترك محطمة بهذه الطريقة. وهي بدون سجل، وأبواب خزاناتها محطمة، فدخل التراب عليها، والملح كان يغطي الألواح الطينية، والعديد منها كان مرمياًُ على الطاولات. إلا أن من المفرحات، أن رأيت الرُقم الطينية، والتي عليها الكتابات المسمارية، قد نجت من النهب، وظل باب خزينتها مقفلا. أما باب الغرف التي تحوي الفخاريات والتماثيل فكان مفتوحاً، ولما أندفع الناهبون، إلى داخل المتحف، كان أيسر لهم التوجه إلى اليسار، حيث الآثار معروضة أمامهم.

ظل المتحف يُنهب لمدة يومين على التوالي، ولم يتوقف إلا بجهود الآثاريين، وفي مقدمتهم: مدير المتحف دوني جورج، ومدير دائرة الآثار جابر التكريتي، وقفا بباب المتحف، وكان همهما حماية المكتبة، بعد نهب المتحف بالكامل. وطلبا النجدة ولم ينجدهما أحد، حتى اتصلا بالمتحف البريطاني، وذهب جورج والتكريتي إلى فندق «فلسطين» وسط بغداد، حيث كانت تقيم القيادة العسكرية الاميركية هناك. ولكن، حتى يوم 14 أبريل(نيسان) 2003 لم يحصلا على جواب. ولم تصل الحماية الأميركية إلا بعد برنامج بث على القناة البريطانية الرابعة، وكان دوني جورج يتحدث من بغداد، ومعه على الشاشة مدير المتحف البريطاني. وبعد الاستفسار من الأميركيين، قالوا: كنا ننتظر التعليمات ونتيجة التداول مع القادة العسكريين. وكان من أعذارهم أنهم لم يسرقوا وينهبوا، وأنهم مشغولون في العمليات العسكرية.

> إلى أي درجة تتهمين الأميركيين بالتواطؤ في نهب المتحف؟

ـ هناك كلام كثير دار منذ أول يوم النهب، ومنه أن الأميركيين حموا وزارة النفط ولم يحموا المتحف! ولكن أنا لا أتهم الأميركيين بالسرقة ولا أعذرهم لإهمالهم، وخاصة أن استشاريين نبهوا الأميركيين مباشرة، اثناء الإعداد للحرب، ومنذ يناير (كانون الاول) 2003. وأنا واحدة من هؤلاء، حيث ذهبنا إلى واشنطن، قبيل الحرب، واجتمعنا مع المسؤولين من الخارجية والدفاع، وطلبنا حماية المتحف والمواقع الأثرية. وقلت لهم بالحرف الواحد: «جنوب العراق مملوء بالآثار، التي ما زالت تحت أرض يسهل نبشها، وبالتالي سرقتها». وكان معي الآثاري العراقي الدكتور إسماعيل حجارة، وأساتذة من الآثاريين الأميركيين، وقد وعدونا بالحماية. وفكرة تشكيل الوفد كانت مقترحاً من أحد المتخصصين بجامعة شيكاغو، ونحن لسنا مع الأميركيين ولا مع صدام، بل مع الآثار.

> كيف كانت لحظة اجتياح المتحف، هل بكتلة بشرية عشوائية، أم بجماعة منظمة؟

ـ لا ندري تماماً ما حدث في تلك اللحظة. لكن، آثار السرقة تشير إلى أن الكثير من الفاعلين كان من المنطقة التي حول المتحف، أي من منطقة علاوي الحلة، وهؤلاء اهتموا بنهب خزانة المحاسب، وسرقة رواتب الموظفين، ونهب الكراسي والطاولات، أكثر من اهتمامهم بالآثار. وقد دخلوا إلى مختبر التصوير، ورموا بالصور والأفلام على الأرض، لأنها لا تعنيهم. غير أن هناك قسما آخر من الناهبين توجهوا إلى المتحف عبر كسر احد النوافذ، وهؤلاء قصدوا الآثار. وفسر هذا العمل بالتورية عن السرقة المنظمة، حتى تظهر أنها عشوائية. وما زاد عجبي أنه كيف استطاع السارق حمل الأثر البرونزي النفيس، وكان وزنه يتراوح بين 150-200 كليوغرام، وكيف أنزلوه من الطابق العلوي؟

> ما هي آثار السرقات المنظمة الأخرى؟

ـ كانت سرقة الأختام الأسطوانية سرقة منظمة. لأن طريقة خزنها كانت محكمة، وفي مكان مخفي، وأن هناك عدداً من الرفوف تعيق الحركة، وسط الظلام الدامس، فلا بد أن هناك مَنْ كان يعرف الطريق إليها، وأن السارق كان يعرف مكانها تماماً. وفي المكان نفسه كانت تخزن المسكوكات اليونانية والساسانية والإسلامية. وليس معروفاً حتى هذه اللحظة كيف حصل السُراق على مفاتيح خزاناتها. ومعلوم أن المفاتيح كانت تحفظ في خزانة المتحف، وقد وجدت مفتوحة. ويبدو أن عارضاً أعاق السُراق من سرقة المسكوكات، وهو سقوط المفاتيح الخاصة بها بين الرفوف والأخشاب المرمية على أرض المتحف، وبسبب الظلام لم يستطع العثور عليها. وبعد انتهاء عملية النهب عثر الآثاريون على المفاتيح وسط الركام.

> إذن، لماذا لم تنج الأختام الأسطوانية من السرقة؟

ـ كانت الأختام في خزائن حصينة، إلا أنها أُخرجت لترتيبها من جديد عام 2001، وعرضها في مناسبة عيد ميلاد صدام حسين، وظلت في مكانها حتى سُرقت. ولولا الاحتفال بهذا اليوم ما سُرقت تلك الثروة النفيسة. وأظن كان عددها 5515 ختماً، ويعود تاريخ تجميعها بداية من عام 1923 وحتى التسعينيات. وقد نجا عدد قليل منها. وذلك أن إحدى المختصات كانت تعمل عليها، وتحفظها في خزانة أخرى. يضاف إلى ما تقدم من سوء النيات، أن العديد من المسؤولين العراقيين، ومنهم مسؤولو المتحف، لم يتوقعوا أن الحرب ستندلع، وتصل حتى سقوط بغداد، وبالتالي لم يفكر أحد بإجراءات فوق العادة ضد نهب أو سرقة المتحف.

> ما هي أهم الآثار التي أُسترجعت؟

ـ هناك قائمة تضم 15 ألف أثر، والنادر على مستوى العالم، حوالي 35 أثراً. وفي الأيام الأولى عاد بين 2000 إلى 3000 أثر، وكان ذلك بتأثير الدعوات المتواصلة، ومساهمة خطباء المساجد. وقد أعُلن أنه لا يخضع لأي مسؤولية مَنْ يُرجع أثراً، بل من حقه أن لا يُعلن عن اسمه. أما الآثار المشهورة، فمنها إناء الوركاء النذري. وفتاة الوركاء. ورأس لإمبراطور روماني، ويعد في نظري هو الأهم بين الجميع، وقد وجد في الحضر. وقطعة عاجية نفيسة مطعمة بالأحجار الكريمة، عبارة عن أسد يفترس إنسانا، وهي صغيرة الحجم لا يتعدى حجمها كف اليد، لكنها كنـز نفيس. وتمثال لملك سومري، هُرب إلى سورية. والعجيب أن حجم هذا التمثال كان حوالي المترين، ووزنه حوالى نصف طن، وليس معلوماً كيف نُهب من المتحف، وهُرب إلى خارج الحدود.

>كيف عاد الإناء النذري، فقد سمعنا أن هناك قصة ما؟

ـ الإناء النذري لا يقدر بقيمة، وذلك لأهميته الفنية. وهو يحكي قصة دينية، لها علاقة بأعياد الوركاء القديمة. وكان أحد المارة قد دخل المتحف، مع مَنْ دخل من الناهبين، فشاهد، حسب روايته، الإناء النذري مطروحاً على الأرض، ومكسوراً، فأخذه. وبعد أسبوعين عاد إلى إدارة المتحف، وأخبرها أن الإناء في حوزته، وهو لا يسلمه إلا لدوني جورج، لأنه كان الأكثر ظهوراً على شاشات التلفزيون، منادياً بإعادة الآثار. وبعد عودة دوني من السفر أعيد الإناء، وكان ذلك في يونيو (حزيران) 2003.

وقال الشاب انه أخذ الإناء وأخفاه في داره، وأنه لما أبلغ أهله بأن لديه كنزا ثمينا، أقسمت اخته ألا تتحدث معه طوال حياتها إذا لم يعد الإناء إلى المتحف، وفعلا أعاده. وكنت عند بوابة المتحف لما أخبرني دوني جورج، وكان يكاد يطير من الفرح، بأن الإناء في حوزته الآن، وفي صندوق السيارة. وكذلك عادت فتاة الوركاء، وعدد من الأختام الأسطوانية. وتقرر لعودة الفتاة حفل رسمي، وكانت زفة معتبرة شارك فيها وزير الثقافة مفيد الجزائري آنذاك. أما التمثال البرونزي، وكان ثقيل الوزن، فقد أخفاه سارقه في مكان القاذورات، وكما يبدو سرقته مجموعة أشخاص لا شخص واحد، وذلك لثقل وزنه، وظهر أثر الاحتكاك على درجات المتحف، حيث أنزلوه بطريقة مؤذية. وحتى لا يتأثر بالقاذورات، دُهن بالزيت.

>هل هناك من الناس مَنْ تعاون بدون مقابل لعودة الآثار؟

ـ تعاون العديد من العراقيين، وعملوا مع المتحف كمخبرين بدون مقابل، وأخذوا يتتبعون السُراق، ويجمعون الأخبار عن السرقات. وأحدهم عمل عملاً كبيراً، وخطيراً من أجل عودة الآثار لا أكثر. كذلك صادف أن أحد المحققين الأميركيين الشباب كان حريصاً كل الحرص، وبهذه الجهود عاد التمثال البرونزي. وقد التقطت صورة للتمثال في لحظة تسلمه، وهو في حالة يرثى لها.

> هذا ما خص آثار المتحف، لكن ماذا عن الآثار العمرانية؟

ـ لم تحم الآثار العمرانية من إيذاء الحرب، مع أن الاتفاقات الدولية تشير إلى واجب حمايتها أثناء الحروب. فمثلا، بناية القشلة قد نُهبت، وهي دار الحكم في العهد العثماني، وكانت من تركة الوالي مدحت باشا، وقد قلعت نوافذها وأبوابها، ورفع من عليها السقف. ونهبت المواقع الأثرية، وحفرت فيها حفر عشوائية، لأنها ظلت عارية من دون حماية.

>ماذا عن أحوال الآثار وإدارتها حالياً، وخاصة بعد خروج دوني جورج، ووجود أغلب المختصين خارج العراق؟

ـ مَنْ يتصدى للعمل في مجال الآثار من المفروض أن تكون له خبرة آثارية، ومتحفية في الوقت نفسه. يجب أن يكون مدير الآثار ذا سمعة طيبة، وألا تكون عليه علامات استفهام، كالتجارة بالآثار مثلا. وكذلك يتبع وضع أي مجال من مجالات البلاد، ومنها الآثار، ثبات واضطراب الحالة السياسية. فإذا كانت التعيينات تجري حسب المحسوبية فأقرأ على الآثار السلام، مثلما يحصل الآن. وقد سمعنا أن الوزارة تريد تغيير هيكل إدارة الآثار، وبأنها تريد إلغاء أهم دائرة من دوائرها، وهي دائرة الصيانة، وإلغاء دائرة البحوث، التي عن طريقها تُعرف الآثار. أما الخطأ الأكبر فهو إلحاق دائرة الآثار بوزارة السياحة، بينما العناية بالأثر يختلف عن الفندقة أو شؤون السياحة الأخرى. إن مكان دائرة الآثار الطبيعي تكون دائرة مختصة تابعة مباشرة إلى مجلس الوزراء، لها حقوق الوزارة، وإذا لم يحصل هذا فمكانها الأنسب هو إلحاقها بوزارة الثقافة، مثلما كانت عليه.

> ونختتم بسؤالك عن أهم ذكرياتك أثناء عملك في دائرة الآثار؟

ـ هناك ذكريات كثيرة. لكن، أطرفها ما يتعلق برجل بسيط، لا يقرأ ولا يكتب، واكب العمل في دائرة الآثار منذ 1944، وما زال حتى هذه الساعة، وهو الحاج عبد. عبد يُعد حقاً أمين المتحف، لا فراشاً فيه، وهو عنوان وظيفته، فلديه من المعلومات والخبرة ما ليس لدى عدد من الموظفين. فهو يعرف أين مكان هذا الأثر، وما هي قيمة ذاك، بل وما هو تاريخ آخر. ويساعد الباحثين والموظفين بمفهومية فطرية عجيبة، وشعرت ان لديه إخلاصا ما بعده إخلاص للآثار. وقد حصل أن أحيل إلى التقاعد، ولما لم يتمكن من فراق الآثار عاد وطلب العودة بأجور يومية. وقد انتهزت وكيلة مدير المتحف آنذاك الآثارية مهاب البكري الفرصة، ولما سمعته أغلقت الباب، وأمرته أن يكتب طلباً ويوقعه، حتى لا يتراجع، وفعلا عاد، وما زال يعمل. ولم يفارق عبد الآثار طوال القصف خلال الحرب عام 1991، وعندما قلنا له لماذا بقيت في المتحف ليلا؟ قال: «وهل أبقي الآثار لوحدها»؟ لا أحد يسميه الحاج عبد، رغم ذهابه إلى الحج، وكان يتضايق من ذلك. وعندها تشارطت معه مازحةً أن يناديني بالدكتورة لمياء، بعد أن أخذت الدكتوراه، وأناديه بالحاج عبد، عندها نظر لي نظره احتجاج، لأنه لا يريد مناداتي بغير ما تعود عليه منذ 1961: الست لمياء وكفى.