أميركا: صناعة الحدث.. أم ركوب موجته؟

زين العابدين الركابي

TT

الجمهوري جون ماكين زار بنغازي وطالب علنا بتسليح الثوار الليبيين.. لحظ الديمقراطيون أن كلام ماكين التصعيدي يدخل في الدعاية الانتخابية الرئاسية التي بدأت تقريبا، لحظوا ذلك فسارعوا إلى إرسال طائرات من دون طيار إلى ليبيا، في ذات لحظة وجود ماكين هناك، ليثبتوا أنهم ليسوا أقل بسالة عسكرية من الجمهوريين.. ومن أزمات أميركا - كما يقول بريجنسكي - أن ساستها يحقنون القضايا العالمية بـ«أهوائهم الداخلية».

في ظل هذا الهوى الغلاب، من المحتمل أن يدخل التغيير الراهن في الوطن العربي في سياق الدعايات الانتخابية الرئاسية بحسبان أن هذا التغيير «منجز أميركي» للحزب الحاكم الآن!.. وفي جو المنافسة الحزبية (المعدومة الإنجاز على المستوى المحلي الوطني) قد يردّ الحزب الجمهوري المنافس ويقول: بل إن ما يجري من تغيير في الوطن العربي هو ثمرة: غرسنا شجرتها نحن الجمهوريين منذ عام 2004، أي منذ صياغة مشروع الشرق الأوسط الكبير (الوطن العربي زائد باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا وإسرائيل) والذي كان من أولوياته «نشر الديمقراطية» في هذه البلدان من خلال آليات معينة منها: تقديم مساعدات تقنية عبر تبادل الزيارات أو الندوات وتعزيز لجان انتخابية مستقلة لمراقبة الانتخابات.. وتقديم مساعدات تقنية لتسجيل الناخبين.. وتشجيع نشوء نبضات ديمقراطية في أرجاء المنطقة تتيح لمجموعة الثماني - بما في ذلك الولايات المتحدة - فرصة تاريخية لكي تصوغ شراكة بعيدة المدى مع قادة الإصلاح والتغيير في الشرق الأوسط.. قد يرد الجمهوريون بهذا الرد مجرِّدين الديمقراطيين من مكسب صناعة التغيير في المنطقة العربية!.. المهم - في هذه النقطة - أنه من المحتمل أن تدخل وقائع التغيير في بلدان عربية في المعركة الانتخابية الرئاسية الأميركية المقبلة: تدخل كرفع لأسهم الزعامات محليا، وكآلية من آليات «تجميل» صورة أميركا في المحيط الخارجي.. ولسنا ندري: هل يصدق الرأي العام الأميركي زعماء الحزبين في الادعاء بأنهم أبطال التغيير في بلدان عربية؟.. ولكنا موقنون بأن استغلال ذلك في تحسين صورة أميركا لدى الرأي العام العربي الإسلامي هو فشل جديد يضاف إلى الخيبات السابقة في هذا المجال.

لماذا؟

أولا: لأن أميركا تشوه صورتها بيدها، وعلى نحو يشبه الجنون.. ولندع واحدا من أجرأ مفكري أميركا في نقد السياسة الخارجية الأميركية وهو زبيجنيو بريجنسكي يتحدث عن هذا التخبط في كتابه المهم «الفرصة الثانية».. يقول: «قد تكون أميركا في سنة 2006 أعظم مما كانت عليه في سنة 1991 من حيث القوة، ولكن قدرة هذا البلد على التعبئة، والإلهام، والإشارة إلى اتجاه مشترك وموثوق، وبالتالي صياغة الحقائق العالمية بعبقرية وأمانة، ذلك كله شهد تراجعا كبيرا. فبعد مرور خمس عشرة سنة على تتويج أميركا قائدة للعالم، أصبحت الولايات المتحدة: ديمقراطية خائفة ووحيدة في عالم معاد لها سياسيا».. ثم رسم بريجنسكي خطوطا بيانية أو جدولا يبين الاتجاهات الجيوسياسة الرئيسية المعاكسة للولايات المتحدة، ومن هذه الاتجاهات: اشتداد العداء للغرب في أنحاء العالم الإسلامي.. تفجر الوضع في الشرق الأوسط.. سيطرة إيران في الخليج.. تقلب الأوضاع في باكستان التي تملك أسلحة نووية.. السخط الأوروبي.. الاستياء الروسي.. الموجة الشعبية المعادية للولايات المتحدة في أميركا اللاتينية.. انهيار نظام عدم انتشار السلاح النووي.. الانحراف النظري والتطبيقي بالحرب على الإرهاب.

هذه كلها سلوكات أميركية، لم يرغمها عليها أحد في هذا العالم، وإنما هي التي مارستها بمحض اختيارها، وهي سلوكات كونت الصورة السيئة عن أميركا في عالمنا هذا.

ثانيا: إن تجميل الصورة الحق لا يكون بالكلام الفارغ ولا الوعود اللطيفة، والابتسامات الجذابة.. إنما يكون تجميل الصورة بـ:

1) «الفعل الصحيح» الصادق الناجز.. ونضرب مثلين لهذا الفعل الصادق المطلوب:

أولا: «التواضع الحضاري» من خلال التخلي عن الاستعلاء الحضاري المنفر. فالعرب والمسلمون أهل حضارة وليسوا في حاجة إلى من يعلمهم أصول الحضارة والتمدن والتقدم، ولا سيما في حقل المبادئ والمفاهيم والقيم والمرجعيات العليا.. وحين ينظر الأميركان إلى المسلمين على أنهم أمة من الهمج، فإن هذا فعل قبيح يضيف إلى صورة أميركا أطنانا من الطين.. وهناك أميركان يدركون هذه الحساسية لدى العالم الإسلامي.. يقول الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون في كتابه «نصر بلا حرب»: «علينا أن نتجنب خطر الرضا بما نحن فيه. علينا ألا نحاول فرض نموذجنا على العالم الإسلامي. فعند هذا العالم حضارة عظيمة مملوءة بالمبادئ والقيم العليا وحوافز التقدم والسمو. وطبعا يغيظ هذا العالم الإسلامي أن نحاول فرض نموذجنا عليه أو الاستكبار عليه بهذا النموذج».

ثانيا: اقتران القول بالفعل بإزاء قضايا الإسلام والمسلمين.. وأنه لمما يزيد صورة أميركا قبحا أن تقول قولا جميلا مناقضا لفعلها القبيح.. مثلا في القضية الفلسطينية، فرّق الرأي العام الإسلامي بين «كلام» الرئيس أوباما و«فعله» في هذه القضية.. لقد رحب بكلامه الجميل - في القاهرة - عن ضرورة زوال المستوطنات الصهيونية من الأرض الفلسطينية، ولكن هذا الرأي العام الإسلامي نفسه كره - إلى درجة المقت - الفعل القبيح لأوباما عندما ابتلع كلامه ذاك، وانحاز إلى الكيان الصهيوني في الإبقاء على المستوطنات، بل استعمل «الفيتو» لحماية ذلك الاحتلال الاستيطاني!

2) كما يكون تجميل صورة أميركا بـ«تغيير» أميركا نفسها إلى الأفضل.. وإنه لغريب جدا - عقلا وواقعا أن تطالب أميركا بـ«تغيير» العالم دون أن تتغير هي، على الرغم من تكاثر موجبات التغيير لديها، ومنها:

أ) الانهيار الأخلاقي والاجتماعي المتلاحق في الفرد والأسرة (راجع كتاب بريجنسكي: «عالم خارج السيطرة»).

ب) الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي كان من أسبابها فلسفات وآليات اقتصادية عقيمة متحجرة، وفساد ضخم وواسع النطاق على كل مستوى، من المحاسب إلى مدير البنك إلى تشيني.

ج) تدهور البينة التحتية: على سبيل المثال هناك 7 آلاف جسر معرضة للانهيار وفق إفادة المفتش الاتحادي العام.

د) «التحجر الديمقراطي» والدستوري، وهو تحجر جهر بخطورته وإزالته المفكر الأميركي المستقبلي الكبير الشهير (الفن توفلر). فقد قال في كتابه «بناء حضارة جديدة»: «ليس في حوزتنا مخطط سهل لدستور الغد، ولا ثقة لنا بهؤلاء الذين يزعمون أنهم يملكون الإجابات، بينما نحن نحاول صياغة الأسئلة، بيد أنه قد آن الأوان لأن نقدم تصورا لبدائل مختلفة اختلافا تاما، ونحاول ونخطط، بدءا من الأسس فصاعدا، نخطط الهندسة الديمقراطية الجديدة التي تخرجنا من الجمود السياسي العقائدي الراهن».

ومهما يكن من أمر، فلا يتسلل إلى ذهن أحد: أن الحراك في الوطن العربي هو صناعة أميركية أولا: لأن عوامل التذمر كانت موجودة وهي السبب الرئيسي فيما وقع.. ثانيا: لأن الناس الذين خرجوا في المظاهرات يصعب إقامة الدليل على أنهم «عملاء» للأميركان، ثم إن هؤلاء ليسوا معجبين بأميركا، وإلا منحنا أميركا مكانة فوق قدرها.. لكن الراجح: أن الأميركان قد ركبوا «موجة التغيير» ويحاولون توظيفها لصالحهم، دون نسيان لمصالح إسرائيل أو أهوائها.. فقد استطاعت الصهيونية أن تعجن القرار الأميركي في المنطقة في أجندتها.