بيغوفيتش.. إشكالية الإسلام بين الشرق والغرب

إميل أمين

TT

يمكن الجزم حكما بأن الرئيس البوسني السابق علي عزت بيغوفيتش هو أكثر من عاش أزمة الهوية بين الشرق والغرب، فما جرى في البوسنة يتجاوز اختصام الأديان - إن كانت تختصم أصلا - وكذلك يفوق صراع الحضارات ليصب بنا في مقولة الشاعر والمؤرخ الإنجليزي الشهير روديارد كبلينغ «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا»، وقد جرب في كتابه الأخير الذي يحمل نفس عنوان هذا المقال أن يمضي في طريق فك الاشتباك الذي طال منذ زمان وزمانين بين الشرق والغرب.

وعند المفكر المصري الكبير الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري في مقدمته للكتاب أن بيغوفيتش قائد سياسي وزعيم فكري وروحي، وكذلك صاحب اجتهادات مهمة في تفسير ظاهرة الإنسان في كل تركيبتها، وهذه التركيبة المرتبطة تمام الارتباط بثنائية الإنسان والطبيعة هي نقطة انطلاقه، والركيزة الأساسية لنظامه الفلسفي.

وحجر الزاوية عند بيغوفيتش أن العالم الحديث يتميز بصدام آيديولوجي، ويرى الرجل أننا جميعا متورطون فيه سواء كمساهمين أم ضحايا، ويتساءل: ما موقف الإسلام من هذا الصدام الهائل؟ وهل للإسلام دور في تشكيل هذا العالم الحاضر؟

يحاول الرئيس البوسني السابق في مؤلفه الرصين أن يجيب على هذا السؤال، ويرى أن هناك فقط ثلاث وجهات نظر متكاملة عن العالم هي: النظرة الدينية، والنظرة الإسلامية، والنظرة المادية، ويتوجب على القارئ أن يدرك أن مصطلح «دين» في هذا الكتاب يشير إلى معنى محدد، هو المعنى الذي تنسبه أوروبا إلى الدين، وتفهمه على هذا النحو، وهو أن الدين تجربة فردية خاصة لا تذهب أبعد من العلاقة الشخصية بالله، وهي علاقة تعبر عن نفسها فقط في عقائد وشعائر يؤديها الفرد.

هذه الوجهات الثلاث من النظر تعكس إمكانات مبدئية هي: «الضمير، والطبيعة، والإنسان»، تتمثل كل منها على التالي في المسيحية المادية والإسلام، وسنجد أن جميع الآيديولوجيات والفلسفات والتعاليم العقائدية من أقدم العصور إلى اليوم في التحليل النهائي يمكن إرجاعها إلى واحدة من هذه النظرات الثلاث العالمية الأساسية.

تأخذ الأولى نقطة بدايتها من وجود الروح، والثانية وجود المادة، والثالثة الوجود المتزامن للروح والمادة معا، فلو كانت المادة وحدها هي الموجودة فإن الفلسفة التي تترتب على ذلك هي الفلسفة المادية، وعلى عكس ذلك إذا وجدت الروح فالإنسان بالتالي يكون موجودا أيضا وحياة الإنسان تصبح بلا معنى بغير نوع من الدين والأخلاق، والإسلام هو الاسم الذي يطلق على الوحدة بين الروح والمادة، وهو الطبيعة السامية للإنسان نفسه.

ويؤكد بيغوفيتش أن الحياة الإنسانية تكتمل فقط عندما تشتمل على كل من الرغبات الحسية والأشواق الروحية للكائن البشري، وترجع كل الإخفاقات الإنسانية لإنكار الدين الاحتياجات البيولوجية للإنسان أو لإنكار المذهب المادي لتطلعات الإنسان الروحية.

وكتاب «الإسلام بين الشرق والغرب» في واقع الأمر ليس كتاب لاهوت، وإنما هو كتاب عقائد الإسلام ومؤسساته وتعاليمه، بقصد اكتشاف موقع الإسلام في إطار الفكر العالمي أنه ليس نظرة للإسلام من الداخل، وإنما على الأرجح نظرة من الخارج بهذا المعنى، فإن موضوع الكتاب ليس في أساسه عن الإسلام كمعلم بل عن الإسلام كنظرة على العالم.

ينفتح بيغوفيتش بين سطور كتابه المهم على حقائق كثيرة متعددة ومتنوعة، ذلك أن كل ثقافة مؤمنة في جوهرها، وكل حضارة ملحدة، وقياسا على ذلك، فإن العلم بينما لا يؤدي إلى الإنسانية وليس بينه وبين الثقافة من حيث المبدأ شيء مشترك، فإن الدين في حد ذاته لا يؤدي إلى التقدم، وبالتوسع في هذا التحليل وتعميقه، فإن القسم الأول من الكتاب يؤكد هذه الازدواجية الشاملة للعالم الإنساني متمثلة في تلك التناقضات المستعصية، بين الروح والجسم، بين الدين والعلم، بين الثقافة والحضارة، هذه النظرة، على حد تعبير صاحب الكتاب، إلى العالم تعكس ما يدعى بالمستوى المسيحي لوعي الإنسانية.

والاشتراكية تعبير عن المستوى نفسه للوعي، فالمأزق نفسه مطروح، فقط الاختيار هو المختلف، والاشتراكية اللامسيحية هي مقلوب المسيحية، فالقيم الاشتراكية هي قيم مسيحية مصحوبة بعلاقة نفي، في الحقيقة هي بدائل معكوسة، فبدلا من الدين نجد العلم، وبدلا من الفردية نجد المجتمع، وبدلا من الإنسانية نجد التقدم، وبدلا من التنشئة نجد التدريب، وبدلا من الحب نجد العنف، وبدلا من الحرية نجد الضمان الاجتماعي، وبدلا من حقوق الإنسان نجد حقوق المجتمع، وبدلا من مملكة الله نجد مملكة الأرض.

يطرح الكاتب أسئلة جوهرية في كتابه من عينة: هل يستطيع الإنسان التغلب على هذا التناقض: إما هذا وإما ذاك، إما السماء وإما الأرض، أم إن الإنسان محكوم عليه أن يظل مشدودا إلى الأبد بين الاثنين؟ هل هناك وسيلة ما يمكن بواسطتها للعلم أن يخدم الدين والصحة والتقوى والتقدم والإنسانية؟ هل يمكن ليوتوبيا مملكة الأرض أن يسكنها أناس بدلا من أفراد مجهولي الهوية بلا وجوه، وأن تتمتع بملامح مملكة الله على الأرض؟

بحسب بيغوفيتش، «نعم» في الإسلام، فالإسلام ليس مجرد دين أو طريقة حياة فقط، وإنما هو بصفة أساسية مبدأ تنظيم الكون، لقد وجد الإسلام قبل الإنسان، وهو كما قرر القرآن بوضوح، المبدأ الذي خلق الإنسان بمقتضاه، ومن ثم نجد انسجاما فطريا بين الإنسان والإسلام. فكما أن الإنسان هو وحدة الروح والجسد، فإن الإسلام وحدة بين الدين وبين الإنسان الاجتماعي، يمكن بدوره أن يخدم المثل العليا للدين والأخلاق.

لا يخلو هذا العمل الفكري من لمسات فكرية تتقاطع فيها السياسة مع الدين، فالكاتب يقيم النظرة للديمقراطية الغناء من جهة، وللاشتراكية المجحفة من جانب آخر، ويرى أنه ربما يكون هناك طريق ثالث أطلق عليه طريق «الديمقراطية الاشتراكية»، وعنده، المكسيك وفنزويلا نموذجا على هذا المسلك، ويشير إلى أن مصطلح «الطريق الوسط» بات يسمع أكثر وأكثر في المناقشات السياسية بالمكسيك واليابان، والتوتر الداخلي في الدول الاشتراكية ليس معنيا بالاشتراكية كمشكلة اقتصادية، لأن أخطر معارضة فيه معنية بمشكلة حقوق الإنسان، ففي كل مكان يبدو وكأن الشعوب تتطلع إلى نوع من المسيحية ذات برنامج اشتراكي أو إلى اشتراكية من دون إلحاد، والديكتاتورية أي اشتراكية ذات وجه إنساني.

وعنده كذلك، أن أزمة الدول الرأسمالية من نوع آخر قد صحبها مطلب بتدخل أكثر من قبل المجتمع، وينطوي هذا على قدر من الكبح للحرية المفرطة.

لقد وجدنا لأسباب عملية - يقول بيغوفيتش - اتجاه المصانع الأميركية نحو الاشتراكية، بينما المؤسسات الاقتصادية في الاتحاد السوفياتي السابق تتحرك بعيدا عن المركزية. وقد كان البروفسور ويدبنباوم يرى أن المؤسسات الأميركية المعاصرة نصف مؤممة، آخذين في الاعتبار اعتمادها الكبير على الدولة، وجميع هذه الظواهر التي أشار إليها المؤلف ذات دلالة على توجهاتها، ولكنها ليست إسلاما ولا تؤدي إلى الإسلام، لأنها قسرية متكلفة غير متسقة مع نفسها أو قاصرة، أما الإسلام فإنه يتضمن رفضا واعيا للمسلمات الدينية والاشتراكية أحادية الجانب، وينطوي على تسليم إرادي بمبدأ الثنائية.

ومهما يكن الأمر فإن ما رأيناه من تأرجح وانحرافات وتسويات قهرية إنما يمثل انتصارا للحياة والواقع الإنساني على جميع الآيديولوجيات القاصرة على جانب واحد، وهذا في حد ذاته يعد انتصارا للمفهوم الإسلامي.

ومن عمق التحليلات الآيديولوجية والتنظيرات السياسية والاقتصادية يختتم بيغوفيتش حديثه المثير بوصل روحاني فلسفي يتناول فيه فكرة التسليم لله، وعنده أن للطبيعة حتمية تحكمها، وللإنسان قدره، والتسليم بهذا القدر هو الفكرة النهائية العليا للإسلام، ويتساءل: هل القدر موجود.. وأي شكل يتخذ؟ ويمضي في التساؤلات الفلسفية.. دعنا ننظر في حياتنا لنرى ماذا تبقى من خططنا العزيزة على أنفسنا، وما بقي من أحلام شبابنا؟ ألم نأت إلى هذا العالم بلا حول لنا ولا قوة في ذلك، ثم واجهنا تركيبتنا الشخصية، ومنحنا قدرا من الذكاء قل أو كثر.. كم هي محدودة إرادتنا، وكم هو هائل وغير محدود قدرنا؟.

إن الإسلام كما يقول بيغوفيتش يجتهد في تنظيم هذا العالم، عن طريق التنشئة والتعليم والقوانين التي شرعها، وهذا هو مجاله المحدود، أما مجاله الرحب فهو التسليم لله، إن العدالة الفردية لا يمكن أن تكون كافية في إطار هذا الوجود المحدود، إننا قد نتبع جميع القواعد والتعاليم الإسلامية التي من شانها أن تمنحنا السعادة في الدارين (الدنيا والآخرة)، وقد تضيف إلى ذلك اتخاذ جميع الإجراءات الطبية والاجتماعية والأخلاقية بسبب التشابك الرهيب للأقدار والرغبات والحوادث، لكن سنظل نصاب في أجسامنا وفي نفوسنا بكثير من المعاناة.

في التسليم لله يوجد شيء من كل حكمة إنسانية، فيما عدا واحدة تلك هي التفاؤل السطحي، فإن التسليم هو قصة المصير الإنساني، ولذا فإن التشاؤم نافذ إليه، لأن كل مصير هو مصير تراجيدي مأساوي إذا نحن قمنا بتحليله إلى أعمق أعماقه.

ولكي ندرك حقيقة وضعنا في هذا العالم، يعني أن نستسلم لله وأن نتنفس السلام، وألا يحملنا الوهم على أن نبدد جهودنا في الإحاطة بكل شيء والتغلب عليه.. إن الإسلام لم يأخذ اسمه من قوانينه ولا نظامه ولا محرماته، ولا من جهود النفس والبدن التي يطالب الإنسان بها، وإنما من شيء يشمل هذا كله ويسمو عليه من لحظة فارقة تنقدح فيها شرارة وعي باطني.. من قوة النفس في مواجهة محن الزمان.. من التهيؤ لاحتمال كل ما يأتي به الوجود.. من حقيقة أن التسليم لله أنه استسلام لله.. الاسم إسلام، أن التسليم لله هو الطريقة الإنسانية الوحيدة للخروج من دون تمرد ولا قنوط ولا عدمية ولا انتحار، إنه شعور بطولي «لا شعور بطل» بل شعور إنسان عادي قام بأداء واجبه وتقبل قدره.

* كاتب مصري