في أرض مدين

صالح المغامسي

TT

خرج خائفاً يترقب لا علم له بالطريق، ولا يملك إلا حسن ظنه بربه قائلاً متضرعاً مناجياً ((عسى ربي أن يهديني سواء السبيل)) وقد قال أبوه إبراهيم من قبل ((إني ذاهب إلى ربي سيهدين)) وكذلك الخلف الصادق يقتدى بالسلف الصالح فيهتدي.

ورد الكليم عليه السلام أرض مدين ووقف على مائها، فهاله أمر المرأتين ((ووجد من دونهم امرأتين تذودان)) تذودان ماذا ؟ سكت عنه التنزيل، وأول ما ينصرف إليه المعنى تذودان الغنم عن الماء بقرينة فسقى لهما، ولا يمنع أنهما تذودان عن وجوههما نظر الناظر، وأنت ترى اليوم بعض أرباب الثراء منا يشغل بجمع الفتيان والفتيات لتكون أجسادهم كلأً مباحاً يفتن به الناظرون، ويتسابق في مضماره الآثمون، هي من الفحشاء بمقام ومن المعصية بمكان، وكذلك تمت كلمة ربك، تختلف أحوال الناس في الدنيا ليختلف غداً مقامهم في الآخرة، ((إن سعيكم لشتى)).

أقبل الكليم عليه السلام على الفتاتين، لم يشغله ما هو فيه عما يرى، أنها نفس تعد للنبوة والرسالة والتكليم، لا نفساً وضيعة قد أسلمت نفسها للكأس والدينار والحسناء، أقبل عليه السلام يسأل سؤال من يختط لنفسه طريقاً قبل أن يسير ((ما خطبكما)) فأجابتاه ثم قالتا ((وأبونا شيخ كبير)) لا تظننّ بنا السوء ولا تذهب بعيداً إنه العوز والحاجة، وكم من أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا اليوم في مواطن شتى من أرض الله زاحمنا الرجال على كره، ومشينا الدروب على مضض، كم من امرأة أخرجها ما أخرج المرأتان، لكن هل في ديار الإسلام رجال مثل الكليم موسى، هل في الأمة حكام يسد الله بهم عوز المعوزين وحال المنكسرين، هل في الناس أثرياء يعمدون إلى طرائق يحفظون بها للمؤمنات كرامتهن حياة ومماتا فيؤدوا شيئاَ من شكر الله على نعمه.

تلك أمانة عظمى يحمل ثقلها الحكام والأغنياء والعلماء، الأول بسلطانه والثاني بماله والثالث بنصيحته وبيانه.

تبين لكليم الله صدق المرأتين، فسقى لهما سقيا عبد صالح يرجو رحمة مولاه، وسقيا حر كامل المروءة تحفظ بمثله الذمار والديار والأعراض.

إن تنشئة النفوس على مثل هذه القيم العالية والمروءة الكاملة ينبغي أن يكون أعظم مقاصد التعليم في سائر درجاته، وإلا كيف تنتفع الأمة بجسد قوي وعقل سوي في نفس وضيعة تخلد إلى الأرض وتتبع هواها.

فرغ الكليم عليه السلام من السقيا ومضت الفتاتان لأبيهما، فعمد صلوات الله وسلامه عليه إلى ظل الشجرة، يستدر رحمة من لا تنفذ خزائنه ولا يفيض ما في يده قائلاً متضرعاً ((رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير)).