محمد مصطفى حلمي وجهوده العلمية

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

يحتل الدكتور محمد مصطفى حلمي مكانة متميزة بين الرعيل الثاني من أساتذة الفلسفة بالجامعة المصرية. ففضلا عن تتلمذه على يد كل من الإمام الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق، شيخ الجامع الأزهر، والدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، استطاع الدكتور محمد مصطفى حلمي أن يترك بصمة مميزة في مسار الدرس الفلسفي المصري بصفة عامة، وفي سياق التأريخ للحياة الروحية الإسلامية بوجه خاص.

ولد الدكتور محمد مصطفى حلمي في حي شبرا بالقاهرة يوم (5 شعبان 1322هـ/ 14 أكتوبر /تشرين الأول/ 1904م)، ودرس في كتّاب أحد أحيائها الشعبية، فحفظ بعضا من القرآن الكريم، ثم واصل دراسته بحماس ورغبة شديدة. وفي ربيع الآخر 1342هـ/ ديسمبر (كانون الأول) 1923م، وبعد حصوله على شهادة الثانوية، فقد بصره لتضخم في غدته الدرقية، ولم يفده أي علاج فاضطر للانقطاع عن الدراسة لمدة عامين، وكان خلال مرحلته الثانوية نشطا ومثابرا حيث نشر بعضا من نتاجه الأدبي في الصحف والمجلات الأسبوعية كـ«النيل المصري»، و«العفاف»، و«مجمع الدرر» وغيرها.

وفي عام (1343هـ/ 1925م) التحق الدكتور حلمي بقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية في كلية الآداب بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة حاليا)، وذلك بتشجيع ودعم من أستاذه الدكتور طه حسين، ثم تخرج في القسم المذكور عام (1348هـ/ 1929م) وكانت دفعته أول دفعة تتخرج في هذا القسم.

بعد تخرجه واصل الدكتور حلمي همته في الدراسة فتقدم لنيل درجة الماجستير بالقسم المذكور وبالفعل نالها في ذي الحجة 1350هـ/ مايو (أيار) 1932م عن أطروحة أعدها في تاريخ الفلسفة الأوروبية الحديثة تحت عنوان: «نظرية الجوهر عند ديكارت واسبينوزا» وكانت باللغة الفرنسية، حيث تمت تحت إشراف الأستاذين لالاند وبرييه ونوقشت باللغة نفسها في رحاب الجامعة.

وكان الدكتور حلمي قد عين معيدا بكلية الآداب في شعبان 1356هـ/ نوفمبر(تشرين الثاني) 1937م، ثم مدرسا بها ابتداء من عام (1360هـ/ 1941م)، وظل يتقلب في المناصب العلمية المختلفة حتى أحيل إلى المعاش في جمادى الأولى 1384هـ/ أكتوبر 1964، ثم عمل مدرسا بالانتداب، إلى أن تم قبوله أستاذا بقسم الفلسفة والاجتماع في كلية الآداب في الجامعة الليبية ببنغازي بدءا من العام الجامعي 1384هـ/ 1964م إلى العام الجامعي 1388هـ/ 1968م. وكانت حياته العلمية واجتهاده البحثيّ، على الرغم من كف بصره، مثار إعجاب الكثيرين من أساتذته وتلامذته على السواء، كما وجد في سيرة المتصوفة الكبار مثالا يلائم قدراته وإمكاناته الهائلة.

وقد تنوع الإنتاج العلمي للدكتور حلمي بتنوع موضوعاته في الفلسفة تاريخا ونصوصا فنشر مجموعة من البحوث والمقالات، مثلما أصدر العديد من الكتب والمؤلفات في ميادين تخصصه الرئيس (التصوف والفلسفة)، منها على سبيل المثال: «بين الفلسفة والعلم»، «في تاريخ الفلسفة الشرقية»، «الحياة الروحية في الإسلام». كما شارك في مراجعة مجموعة من الكتب المترجمة، فضلا عن العديد من المحاضرات والندوات العامّة التي شارك فيها بمختلف الهيئات الدينية والعلمية.

على أنّ الدكتور حلمي قد أحب في حياته العلمية والخاصة الاقتراب من أعلام المتصوفة المسلمين تدريسا وتأليفا بصفة خاصة، حيث اهتم بحياتهم وسيرتهم ومواقفهم وأشعارهم ومن ثم تأثر كثيرا بهم. كما تابع موضوعاتهم في العشق الإلهي فكان من نتيجة ذلك أن كتب بتواصل مجموعة من أهم المقالات العلمية عن: الأذواق الصوفية، وحكيم الإشراق وحياته الروحية، والعشق عند ابن سينا، وآثار السهروردي المقتول، والصلة بين الشيخ والمريد، وذو النون المصري، والحب الإلهي والحكمة.. إلخ.

أما في بنغازي؛ فقد ظل الدكتور حلمي خلال الأعوام الأربعة التي قضاها أستاذا بجامعتها وثيق الصلة بطلبته وبنشاطهم العلمي منذ انطلاقة مجلة «قورينا» عن قسم الفلسفة عام 1386هـ/ 1966م في عددها الأول الذي طبع على الآلة الكاتبة، كما ألقى وقتها عدة محاضرات عامة أشهرها على الإطلاق: «رحلة روحية إلى المثل الأعلى».

وكان الدكتور حلمي قد أشرف على العديد من الأطروحات العلمية من بينها أطروحتا الماجستير والدكتوراه اللتان تقدم بهما تلميذه أبو الوفا الغنيمي التفتازاني، وكلتاهما في التصوف حيث عالجت الأولى موضوع: «ابن عطاء الله السكندريّ، وتصوفه النظري والعملي» عام 1374هـ/ 1955م، فيما عالجت الثانية موضوع: «ابن سبعين وفلسفته» عام 1381هـ/ 1961م. كما أثر الدكتور حلمي في العديد من تلامذته المباشرين وغير المباشرين، خاصة في جامعتي الأزهر والإسكندرية بالإضافة إلى غيرهما من الجامعات المصرية.

وفي يوم 21 ذي القعدة 1388هـ/ 8 فبراير (شباط) 1969م توفي الدكتور محمد مصطفى حلمي ودفن بالقاهرة بعد أن قضى حياته كلها باحثا، ومتصوفا، ومحبا للفلسفة مقتفيا بذلك آثار شيوخه وأساتذته الكبار، خاصة طه حسين ومصطفى عبد الرازق، تاركا في الحياة العلمية العربية فراغا كبيرا حاول تلامذته، كأبي الوفا الغنيمي التفتازاني وأحمد محمود صبحي وفوقية حسين، أن يملأوه لاحقا بأبحاثهم القيمة مستلهمين في ذلك نهج وأسلوب أستاذهم.

هذا وتتوزع إسهامات الدكتور حلمي العلمية على حقول ثلاثة هي: التأليف، والتحقيق، والترجمة، بالإضافة إلى المقالات الصحافية. أما إسهاماته في حقل التأليف فمن بينها: «الفلسفة والعلم» (1936)، و«التمهيد لدراسة الفلسفة الشرقية» (طبع بين عامي 1937م - 1938م) وكلا الكتابين عبارة عن نصوص محاضرات. و«ابن الفارض والحب الإلهي» (1364 هـ - 1945م)، وهو في الأصل عبارة عن أطروحة دكتوراه، وفي تقديمه لهذا الكتاب أعرب الشيخ مصطفى عبد الرازق عن اغتباطه العظيم بإقدام مؤلفه على نشر كتابه الذي يعد الأول من نوعه في العربية، وإعجابه بالمؤلف الذي كان للشيخ حظ الاشتراك في نظر ومناقشة أطروحته.

وهناك أيضا كتابه المهم والمميز جدا «الحياة الروحية في الإسلام» الذي صدر ضمن مؤلفات الجمعية الفلسفية المصرية («دار إحياء الكتب العربية»، الطبعة الأولى، 1364هـ - 1945م)، وأخيرا وليس آخرا كتابه «الحب الإلهي في التصوف الإسلامي» (المكتبة الثقافية، 1380هـ/ 1960م).

كما ساهم في الكتابة ضمن الكتاب التذكاري عن محيي الدين بن عربي في الذكرى المئوية الثامنة لميلاده (560 - 637هـ/ 1165 - 1240م)، والذي أشرف عليه وقدم له الدكتور إبراهيم بيومي مدكور (1389 هـ/ 1969م) بدراسة بعنوان: «كنوز في رموز».

بالإضافة إلى عشرات المقالات المتعلقة بالتصوف بصفة خاصة والتي كتبها في مجلة «الإسلام والتصوف» التي كانت تصدر عن مشيخة الطرق الصوفية ابتداء من العدد الأول الذي صدر في 13 ذي القعدة 1377 هـ - أول يونيو (حزيران) 1958 حتى العددين الأول والثاني للسنة الخامسة من عمر المجلة عن شهري يونيو ويوليو (تموز) 1962. وقد صدرت معظم هذه المقالات تحت عنوانين رئيسيين هما: «صفحات ونفحات»، و«حديث العقل والقلب».

كما ساهم في المجلدات الثلاثة لموسوعة «تراث الإنسانية» بمراجعته وتعقيبه على كل من الكتب التالية: «الحب والحكمة الإلهيان» لعمانويل سويدنبرج، و«علم الأخلاق» لسبينوزا، و«تدبير المتوحد» لابن باجة الأندلسي.

أما إسهاماته في مجال التحقيق فتشمل كلا من: تقديم وتحقيق وتعليق على كتاب «توفيق التطبيق في إثبات أن الشيخ الرئيس من الإمامية الاثنى عشرية»، لعلي بن فضل الله الجيلاني، (سلسلة ذكرى مصطفى عبد الرازق للدراسات الإسلامية، 1371هـ/ 1954م). وتحقيق مشترك للجزء الرابع من كتاب «المُغني في أبواب التوحيد والعدل»، للقاضي عبد الجبار (1960م - 1965م)، كما حقق بالاشتراك مع الدكتور محمد كامل حسين كتاب «راحة العقل»، للداعي: أحمد بن حميد الدين الكرماني (ت بعد سنة 411 هـ/ 1021م)، (رقم 9 من سلسلة مخطوطات الفاطميين).

أما إسهاماته في مجال الترجمة فتضم كلا من: مراجعته وتقديمه لكتاب رينيه ديكارت: «مقال عن المنهج»، (ترجمة محمود محمد الخضيري، سلسلة روائع الفكر الإنساني، 1968م). ومراجعة ترجمة الدكتور عثمان نوية لكتاب: «العلم والديمقراطية والإسلام ومقالات أخرى»، تأليف: همايون كبير (1960م). كما راجع ترجمة الدكتور تمّام حسان لكتاب: «الفكر العربي ومكانه في التاريخ»، تأليف: ديلاس أوليري، («عالم الكتب»، القاهرة، 1961م).

أيضا راجع بالاشتراك مع أحمد ناجي القيس ترجمة صادق نشأت لكتاب: «تاريخ التصوف في الإسلام»، تأليف: قاسم غني (1970م)، وأخيرا راجع ترجمة عريان يوسف سعد لكتاب يوجي راماشاراكا المعنون: «فلسفة اليوجا»، (وزارة الثقافة والإرشاد القومي بالقاهرة، دون تاريخ).

أما كتاباته الصحافية، فقد تركزت بالدرجة الأولى على دراسة التصوف الإسلامي، وبين أيدينا الآن مجموعة من مقالاته المبكرة التي نشرها بمجلة «الرسالة» وهو بمرحلة الماجستير، وجميعها تحمل عنوانا واحدا، ألا وهو: «مطالعات في التصوف»، ثم عنوانا فرعيا لاسم كتاب من كتب التراث الصوفي («كشف المحجوب»، «عوارف المعارف»، .. إلخ).