الصوفية تكتسب شعبية واسعة في الهند.. وانجذاب الهندوس إلى طرقها

لقربها من الفلسفة الهندية في نبذ العنف وميلها للاتجاه الروحي

جماعة من المسلمين الهنود يتضرعون إلى الله تعالى بالدعاء قبل تناول الطعام (رويترز)
TT

يعد الإسلام ثاني الديانات انتشارا في الهند بعد الهندوسية، حيث يعيش بالهند ما يزيد على 160 مليون مسلم، ليصبح عدد المسلمين بالهند هو أكبر عدد للمسلمين في الدول غير الإسلامية.

وصل الإسلام إلى الهند عبر الطرق التجارية، ومن خلال الفاتحين العرب والصوفية، وأصبح من أكبر الديانات انتشارا في شبه القارة الهندية، ولعدة قرون، كان الصوفية يجذبون إليهم غير المسلمين الذين كانوا يصبحون من مريديهم المخلصين.

ومن أشهر رجال الدين المسلمين الموقرين في الهند، خواجة معين الدين الجشتي الأجميري، الذي يتردد على قبره في أجمير بولاية راجاسثان بغرب الهند الملايين من الهندوس والمسلمين والسيخ، حتى إنه أصبح رمزا مؤثرا لآمال وصلوات الكثير من العقائد والمجتمعات المتباينة.

جدير بالذكر أن الصوفية لعبت دورا مهما في انتشار الإسلام بالهند منذ القرن الرابع عشر، وقد تمكنوا من نشر الإسلام هناك نظرا لإيمان بعض الاتجاهات الصوفية بأن لمعتقداتهم وممارساتهم ما يوازيها في الفلسفة الهندية، خاصة فيما يتعلق بنبذ العنف والتوحيد.

بالإضافة إلى أن الصوفية الذين يميلون إلى الاتجاه الروحي وليس السياسي أو التشريعي للإسلام، كانوا أكثر انفتاحا على التقاليد الروحانية الأخرى، كما تقبل الصوفية الذين جاءوا إلى الهند بشكل أساسي من مناطق آسيا الوسطى التقاليد الروحانية الهندية وممارساتهم الثقافية كذلك، بل وفضل الكثير منهم الكتابة باللغات المحلية بدلا من العربية أو الفارسية، وتبنوا التقاليد والممارسات المحلية، مما جعلهم يكتسبون شعبية واسعة بين الناس وساهم في انجذاب الجماهير الهندوسية إليهم.

ومن جهة أخرى، كان الصوفية يفضلون البقاء بصحبة الفقراء والقطاعات المستضعفة من المجتمع بدلا من التودد للحكام والبقاء إلى جانب الطبقات الثرية، ولأنهم لم يتقيدوا بالحدود الدينية، استطاعوا اكتساب شعبية واسعة بين المسلمين والهندوس على حد سواء، ومما لا شك فيه، استطاع الصوفية اكتساب احترام كافة فئات المجتمع، وبالتالي، تحولت أضرحتهم إلى مراكز تجذب الناس من كافة الطوائف خاصة الفقراء والمضطهدين.

وكان ضريح خواجة معين الدين الجشتي الأجميري، والمعروف بالقبر المقدس، مركزا لزيارة المسلمين والهندوس على حد سواء.

ولد معين الدين في سيستان بشرق إيران في النصف الأول من القرن العشرين (1139)، ومنذ طفولته كانت له ميول روحانية، وبعدما توفي والداه وهو في الـ16 من عمره، اتبع معين الدين أحد الزعماء الروحانيين وتخلى عن متاع الدنيا، ووزع ماله على الفقراء وعاش حياة النساك، ثم زار المراكز التعليمية الكبرى في سمرقند، وبخارى، وغيرها من الأماكن سعيا لتحصيل العلم على يد الزهاد. وبعد ذلك، سافر إلى مكة والمدينة لأداء فريضة الحج، ثم انتقل من المدينة إلى الهند عام 1190 واستقر في أجمير بولاية راجاسثان عندما كان في الثانية والخمسين من عمره.

وقد تمكن معين الدين من جذب عدد كبير من المريدين وحصل على احترام المقيمين في المدينة، وكان جميع من تعاملوا معه، خاصة الفقراء والمضطهدين، يشيدون بمعاملته الحانية، وهو ما دفع الكثيرين منهم إلى أن يصبحوا من مريديه، وكان لأبسط التعاليم التي يلقيها عظيم الأثر على الجماهير، وكانت رسالته ترتكز على عالمية الحب وضرورة أن يسود السلام البشرية من دون النظر إلى العقيدة أو الطائفة، وكان إيمانه العميق بوحدانية الله يمنحه الخلفية الآيديولوجية اللازمة لخلق التكامل العاطفي للأشخاص الذين يحيا بينهم.

وبعيدا عن علاقته بالرجل العادي، كان الحكام والملوك سواء الهندوس أو المسلمين يداومون على زيارة معين الدين ويلجئون إليه لحل خلافاتهم.

ومن جهة أخرى، ساهم معين الدين في نشر مفهوم وحدانية الخالق، ونشر تعاليم الإسلام، كما كان في الوقت نفسه مؤيدا للتسامح الديني، وقضايا المرأة، حتى إن ضريحه ربما يكون المكان الإسلامي الوحيد الذي تستطيع فيه النساء الصلاة مع الرجال. وبعدما قضى حياة بسيطة ومخلصة في خدمة الرجل العادي، توفي معين الدين عام 1236 عن عمر يناهز السابعة والتسعين، وبعد وفاته، تم تشييد ضريح فوق مدفنه، وهو الضريح الذي يقام به تجمع سنوي منذ نحو 773 عاما يستمر 10 أيام، ويحضره الملايين من أتباعه بغض النظر عن معتقداتهم الدينية. وتأتي الزهور التي تزين ضريحه من تجار الزهور الهندوس، يرتبها فنانون مهرة غير مسلمين في تصميمات مختلفة، ويصطف أتباعه في صفوف طويلة لكي يتذوقوا الطعام المبارك المعروف باسم «تبرك» وهو عبارة عن أرز محلى مضاف إليه فواكه مجففة وبعض التوابل يتم طهيه في مراجل هائلة الحجم، وسواء كانوا هندوسا، أو مسلمين، أو سيخا، أو مسيحيين، يشارك الجميع في ذلك الطقس المذهل. كما كان «بابا فريد الدين مسعود» من الوعاظ الصوفيين المعروفين في القرن الثاني عشر، وكان أحد أقطاب طريقة الجشتية الصوفية في جنوب آسيا، وكان يحظى بتوقير المسلمين والهندوس على حد سواء، كما ساهم بابا فريد الذي يعد من معلمي السيخ الـ15 في كتابة «الكتاب المقدس للسيخ»، كما كان المعلم ناناك، مؤسس ديانة السيخ يقتبس من آياته في خطابه الديني، بالإضافة إلى أنه كان معلما للغة الفارسية والعربية.

ويتدفق الآلاف من المؤمنين من كافة أنحاء البلاد ومن خارجها يوميا على ضريحه المشيد من المرمر الأبيض، كما يتم إحياء ذكرى وفاته سنويا في الخامس والسادس والسابع من شهر محرم الهجري، ويأتي لحضور تلك الذكرى أتباعه بغض النظر عن ديانتهم كما أنهم يأتون لتجديد بيعته.

وفي كل مساء، يتردد صدى الأناشيد الدينية بضريح خواجة نظام الدين اوليا، ليمر عبرها مريدوه من المسلمين أو الهندوس وغيرهم من أصحاب الديانات إلى حالة الوجد الصوفي.

يذكر أن ذلك الضريح الذي يقع بالعاصمة دلهي يحتوي على قبري الصوفي خواجة نظام الدين اوليا، بالإضافة إلى قبر أمير خسرو، أعظم شعراء الصوفية.

ومن جهته، يقول محمد حسنين نظامي، أحد رجال الدين بالضريح: «إن ذلك الضريح هو بيت لكل الناس، حيث يأتي إليه المريدون من كافة الثقافات والمعتقدات، سعيا وراء سلامهم العقلي، ويعد ذلك الضريح بيتا للصوفية أو بيتا لله، الجميع فيه سواء».

وكان ناريندرا كومار (35 عاما)، وزوجته من جيبور، جاءا للحصول على بركات الناسك الصوفي، غارقين في تأملاتهما ودموعهما، وعلى الرغم من أنه لا يستطيع فهم الكلمات الفارسية، كان كومار غارقا في تلك الحالة العرفانية، وعن ذلك يقول كومار الذي كان قد وضع للتو إكليلا من الزهور على قبر خواجة نظام الدين اوليا: «لا أستطيع فهم الكلمات، ولكنني أشعر بأنها تقربني من الله».

ويقال إن نسب خواجة نظام الدين اوليا يعود إلى علي بن أبي طالب؛ حيث يقع 15 من سلفه في سلسلة النسب، وتنحدر أسرته من بخارى بالهند.

وعلى الرغم من أن ذلك يبدو غريبا، يقوم الكثير من الهندوس على رعاية الأضرحة الإسلامية، فعلى سبيل المثال، يرعى عجوز هندوسي (65 عاما) ضريحا لصوفي منذ 8 أعوام بإخلاص وعناية فائقين، كما يقول سريش باغات الذي هجر أسرته لكي يشارك في رعاية ضريح «بزيد دارغا بهلوان»، أحد النساك المسلمين الموقرين في ولاية بيهار بالهند الشرقية، إنه استمتع بكل دقيقة قضاها بذلك الضريح الذي يبلغ عمره 300 عام، مضيفا أن زوجته وأولاده الثلاثة كانوا يقفون ضد رغبته في البداية إلا أنهم استسلموا في النهاية، وعلى الرغم من أن باغات لا يستطيع إقامة الشعائر الدينية الإسلامية فإنه يعرف كيف يرتب الأكاليل على الضريح، ويقدم بقايا أعواد البخور المحترق إلى مريدي الضريح من الهندوس والمسلمين.

وعلى الرغم من أن باغات الذي لا يستطيع القراءة والكتابة يتمنى أن يتمكن من أداء الصلوات، فإنه يفضل أن تظل قناعته بالإسلام ذات طابع ذاتي، فيقول: «على الرغم من أنني لا أؤدي شعائر أي من الديانات، فكل الديانات تتحدث حول الحب والسلام».

وبغض النظر عن المعتقد، أو الطائفة، أو الجنس، يحتشد المريدون بأعداد كبيرة لإبداء الاحترام لبير بابا محمد علي، ففي الضريح الذي يقع على مقربة من طريق فازيلكا - فيروزبور السريع بجنوب غربي البنغاب، تقام تلك الاحتفالية السنوية خلال تلك الفترة من العام، حيث تقوم إحدى الأسر الهندوسية التي تعمل على رعاية ذلك الضريح بتنظيمها.

وبالمثل، يمثل ضريح سالوتري بابا بولاية هيماشال براديش بجبال الهيمالايا نقطة التقاء للكثير من المجتمعات دون النظر لحاجز المعتقد أو الطائفة، ويعج الضريح الذي يقع في «شملا» بالمريدين من كافة الديانات بالبلاد، وعلى الرغم من أن الضريح هو دار عبادة إسلامية بالأساس، فإنه تديره منظمة أنشأها بعض الهندوس.

وهذه مجرد أمثلة، فهناك الكثير من الحالات التي يقوم فيها الهندوس برعاية الأضرحة الإسلامية نظرا لإخلاصهم ومحبتهم لها.

ويعد معبد «ساي بابا» من أشهر الأماكن الدينية في الهند؛ حيث يأتي المريدون إليه للزيارة ولأداء الصلاة، كما أنه يجذب إليه الملايين من المريدين منذ سنوات بعيدة، ويقع المعبد في شيردي بماهاراشترا، كما أنه يمكن الوصول إليه من أي مكان في الهند، وما زال رجل الدين ساي بابا ذا شعبية كبرى في الهند، وله الكثير من المريدين في كافة أنحاء العالم، وما زال هناك جدل مندلع حول إذا ما كانت أصوله هندوسية أم إسلامية ولكن من دون وقوع أي أحداث عنف، كما أنه يحظى بتوقير عدد من الزعماء الصوفيين والهندوس على حد سواء، ويعد اسم «ساي بابا» مزيجا من الفارسية والهندية، حيث إن «ساي» هي كلمة فارسية تعني «العارف» وهي صفة تطلق دائما على الزهاد المسلمين، بينما تعني كلمة «بابا» «الأب، والجد، والعجوز، والسيد» وهي مشتقة من اللغات الهندية الآرية.

وكان ساي بابا يحاول، سواء خلال حياته أو من خلال التعليمات التي أوصى بها، التوفيق بين الهندوسية والإسلام، وكان ساي بابا الذي كان يعيش في أحد المساجد يمارس الشعائر الهندوسية والإسلامية على حد سواء، وكانت التعاليم التي تركها تحتوي على مفردات وشخصيات من كلتا الديانتين، وقد تم دفنه بأحد المعابد الهندوسية بشيردي.

وكان دائما يتمتم عبارة «الله مالك.. الله هو الذي يمكنه حمايتنا»، كما أنه كان يسمح بأداء الصلوات وترتيل الفاتحة والقرآن في الأعياد الإسلامية، وكان في بعض الأحيان، يتلو بنفسه سورة الفاتحة، كما كان يستمتع بالاستماع إلى الموسيقى الصوفية.

ومن أشهر الأماكن الأخرى في مومباي هو ضريح «حاجي علي» الذي يأتي أناس من كافة الأطياف لزيارته، حيث يستضيف قبر الحاجي علي الزاهد الصوفي المسلم، ويعج دائما ذلك الضريح بالمريدين من الهندوس والمسلمين.

وبخلاف هذه الأضرحة الإسلامية المهمة، تحتوي كل بلدة صغيرة أو قرية في الهند على الكثير من الأضرحة الإسلامية الهندية التي يوقرها غير المسلمين.