مفيد الجزائري: رموز ثقافية من العهد السابق ما زالوا يحتلون مراكز قيادية في وزارة الثقافة

وزير الثقافة العراقي لـ«الشرق الأوسط»: الكلمة ستكون لكل المثقفين ممن سيرسمون ديمقراطية الثقافة

TT

اهم اولويات صناعة الثقافة العراقية المعاصرة ـ بعد سقوط النظام الديكتاتوري ـ هو البدء بزرع القيم الجديدة والعودة الى الاصول، فكما قال وزير الثقافة العراقي مفيد الجزائري: «لا يمكن ان نتصور بناء صرح ثقافي حقيقي، او الانطلاق في اي نشاط ثقافي حقيقي، دون ان تكون هناك كلمة حاسمة وصادقة للمثقفين انفسهم باعتبارهم منتجي هذه الثقافة ومبدعيها في العراق. والابداع هنا ليس بمعناه الضيق، لأن مفهوم الثقافة يشمل كافة الادباء والفنانين، وعلماء الآثار والخبراء، والاختصاصيين في شتى امور الثقافة، وهؤلاء جميعا يجب ان يكون لهم دورهم البارز في تحديد ملامح وتوجهات الثقافة العراقية في المرحلة الراهنة، لأن المثقفين جميعا تحملوا، وواجهوا ركاما هائلا من الدمار والخراب، الذي خلفه النظام الديكتاتوري في سعيه لتشويه، ومسخ ثقافة العراق وتدميرها، وتحويل هياكلها الى ادوات اعلامية، لا علاقة لها بالمحتوى المعروف لمعنى الثقافة، فقد كانت مهمتها، تسويق ذلك النظام الفاشي عبر تشويه الوعي، والحد من كل ما هو ايجابي، من مُثل، وقيم، قد عرف بها الشعب العراقي منذ الازل.. لكن النظام الديكتاتوري استبدلها بقيم غريبة ومرعبة!!

* الحديث عن الماضي قد يستغرقنا طويلا، فلنستهل هذا الحوار بسؤالك عن المستقبل، فما الذي اعددتموه لازالة التشوهات التي تعرضت لها الثقافة العراقية في العقود الماضية؟

ـ التشوهات عميقة، وواسعة النطاق، وكان تأثيرها كبيرا على اجيال من خريجي الجامعات، فصارت تشكل واقعا اجتماعيا متخلفا، وسنسعى الى تغيير هذا الواقع المشوه عبر اطلاق العملية الثقافية القائمة على حرية الفكر، وحرية الابداع، واستبعاد اي نوع من الوصاية، او الهيمنة على المنتوج الثقافي.

* مهما كانت نوعية ذلك المنتوج الثقافي؟

ـ ليس هناك اطلاق في المطلق. نحن هنا نتحدث عن الثقافة والابداع الذي لا يسفر عن التعامل السلبي او التوجه السلبي ازاء المجتمع، والا فهناك الكثيرون ممن يفسرون الحرية على انها الخوض في كل شيء!! بالجنس المكشوف!! وبما يمس مشاعر الناس في الخوض بالقضايا العقائدية، وغير ذلك، فمن يسعوا الى هذا باسم الحرية، لا يفهموا معنى الديمقراطية على حقيقتها، انما يتخذون منها وسيلة لتحقيق غاياتهم.

* هل تسعون الى بناء هيكلة ثقافية جديدة.. ام انكم تسعون لاصلاح ما افسده النظام الديكتاتوري؟

ـ سنسعى للاثنين معا!! ولكن اولا يجب ان نصلح ما نستطيع اصلاحه، فلا يمكننا ان نتقدم خطوة الى الامام دون ان نصفي حساباتنا مع كل ما قيد الثقافة وطوقها وحاصرها، وخنقها، وشوهها.

* ماذا تقصد بنصفي حساباتنا؟

ـ ما اقصده هو الغاء كل الاجراءات التي اوصلت الثقافة العراقية الى ما وصلت اليه من الانحدار والتهميش والتجهيل، والتخلص من كل اشكال ورموز هذا التوجه الذي كان يطبق ويمارس في وزارة الثقافة، بل والتخلص من الذين كانوا يطبقونه، فالبعض منهم لا زال يحتل مناصب قيادية في وزارة الثقافة.. فلا يمكن ان نسير خطوة الى الامام بالاصلاح، ونحن مثقلون بهذه الاعباء، ورموزها من البعثيين، ولكن هناك جانبا مشرقا آخر، نحمد الله عليه، وهو كثرة العقول العراقية المتميزة في مجال الابداع في شتى انشطة ميادين الثقافة.

* اقتلاع جذور ثقافة البعث، هل هذا هو هاجسكم؟

ـ بل، اقتلاع جذور الديكتاتورية والاستبداد والطغيان، ايا كانت مسمياتها، سواء كانوا من البعثيين او غيرهم ممن كانوا يتسترون تحت شعارات الحرية، والديمقراطية وهم ابعد ما يكونون عن ممارستها.

* كأنك تلمح الى المذابح التي حدثت بالعراق في اواخر الخمسينات، واوائل الستينات، عندما اشتدت المواجهات بين الاحزاب العراقية، التي تفشى فيها سحل الجثث في الشوارع؟

ـ نعم، كانت هناك اجواء توتر مؤسفة بين القوى التي حاربت سوية من اجل ازاحة الملكية، وساد فيها نمط من العلاقات، لا نريد له ان يعود بالتأكيد، فما نسعى اليه في عراقنا الجديد هو ان تكون العلاقات بيننا جميعا قائمة على الفهم المتبادل ما بين القوى السياسية، لهذا كلنا يتمسك بالديمقراطية.

* تتحدث عن الديمقراطية، ومجلس الحكم العراقي يضم بين اعضائه كلا من: محمد بحر العلوم، عالم دين، واحمد الجلبي، تاجر، واياد علاوي، بعثي، وابراهيم الجعفري، حزب الدعوة، ومفيد الجزائري شيوعي، واقطاب الاحزاب الكردية، وما يطمحون اليه من تطلعات، كيف يمكن لهذه التوليفة ذات المشارب المختلفة، في انطلاقاتها الآيديولوجية، ان تساهم في بناء عراق ديموقراطي؟!

ـ إذن أين ينمو المناخ الديموقراطي السليم إذا لم يوجد في ظل الشرائح التي أشرت إليها؟!

هل تنمو الديمقراطية الصحيحة في مجتمع الحزب الواحد أو القبيلة الواحدة، أو العقيدة الدينية الواحدة..؟!، ومع هذا فيجدر بنا كعراقيين، ان نستثمر الفرصة ـ بعد كل المصائب التي مرت بنا ـ أن نستثمر الديمقراطية بعيدة عن تطلعاتنا الخاصة ومصالحنا الحزبية، وان نعزز القواسم المشتركة فيما بيننا، والمتمثلة كلها في خدمة العراق..، فمن حق العراق علينا ان نخدمه، وان ننسى الفوارق ـ التي أشرت اليها ـ فيما بيننا، وانا شخصياً أراهن على انتصار الحكمة في النهاية، وانا واثق بحكمة من ناضلوا طويلاً من أجل العراق، فالذين سقطوا شهداء ضد الديكتاتورية، لا بد لنا من تخليد ذكراهم بالديمقراطية.

* دع عنك الأحزاب السياسية، فهناك قضية أخرى، وهي تعدد المرجعيات، كالسيستاني، ومقتدى الصدر، اضافة الى مستجدات اخرى مثلما يسمى بالمثلث السنى، وعصابات صدام في الداخل، وتلك العناصر التي تخترق الحدود من الخارج كل يوم، والفوضى التي تضرب اطنابها في الداخل.. فكيف تتعاملون مع كل هذه التحديات؟!

ـ بالطبع ليست هناك عصا سحرية يتم بها علاج هذه المشاكل، ولكنني اثق بحكمة السيد السيستاني التي تهدف الى استقرار الوضع في العراق.

* ومقتدى الصدر؟

ـ مقتدى الصدر في النهاية مواطن عراقي وضحية من ضحايا النظام، وانا متفائل ان نزعة الخير لصالح الشعب العراقي، ستعلو على كل النزعات الاخرى، وتفاؤلي مبرر اذ يجب ان نثق بأفراد هذا الشعب بكل مشاربهم، والتعامل بحكمة مع اجتهاداتهم.

* ما الجديد الذي طرأ على حياة العراقيين، بعد الاطاحة بالنظام السابق؟

ـ الحرية.. الحرية الكاملة المتاحة للجميع، والتي علينا ان نستثمرها، لنعيد بناء واقعنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي، كما يجب استغلالها ـ اقصد الحرية ـ لبناء واقع ثقافي يرتكز على اسس ديموقراطية. والجديد أيضا.. هو تلك المشاركة الواسعة للمثقفين في العراق، واسهامهم في ادارة دفة وزارة الثقافة..

* انت عضو بارز في الحزب الشيوعي، والشيوعيون في المهجر، كانوا الأكثر نشاطاً في التحرك الثقافي، ومما يخشى ان تبنى هيكلة وزارة الثقافة الجديدة، وفقاً للايديولوجية الماركسية.

ـ اذا كان ما تفضلت به سؤالاً، فسأعتبر نفسي وكأنني لم أسمعه.. واذا كانت ملاحظة، فهي تفترض سوء النوايا، وهذا ايضاً ما لا اقبل به، ومع هذا، فإن الكلمة في وزارة الثقافة ستكون لجميع المثقفين ممن سيرسمون، ويشكلون الصرح الثقافي القائم على ديموقراطية الثقافة..!! وانتهز هذه الفرصة لأعلن عن طريق «الشرق الأوسط»: ان المجال مفتوح لجميع المثقفين العراقيين في الداخل أو الخارج، ليتفضلوا ويقدموا مقترحاتهم التي ستشكل خطة عمل وزارة الثقافة، وللعلم، فإن الثقافة العراقية ذات خصوصية قائمة بذاتها، بغض النظر عن وجود وزارة ثقافة أو عدم وجودها، فهناك ثقافة عراقية لها خصوصيتها، وما دور وزارة الثقافة الا ان تكون معنية بادارة العملية الثقافية، واعادة هيكلة الوزارة، ليس الثقافة، فالثقافة نتاج ثمار العمل الثقافي للمبدعين العراقيين. أما كيف تتهيكل وزارة الثقافة، فهذه مسألة يقررها المبدعون العراقيون بأنفسهم، ولهذا اكرر دعوتي لجميع المثقفين العراقيين في العالم، للمشاركة في وضع برنامج عمل الوزارة، وما هي المهمات الملقاة على عاتقها، وما هي الوسائل التي ينبغي ان نتبعها لتحقيق اهداف بلورة الثقافة العراقية التي ستقوم على اساس ديمقراطي.

* هل الظروف الموضوعية الراهنة تسمح بتطبيق طموحاتك هذه على أرضية الواقع..؟!

ـ المستقبل أمامنا!! كيف تحولت الهند الى دولة ديموقراطية، وهي تعج بمئات الأعراق واللغات والمذاهب؟

* ألا ترى أن تحقيق الديمقراطية التي تدعو اليها في العراق، سيجد عقبات نظراً لجذور الصراعات العميقة فيما بين العراقيين؟.

ـ نأتي بالديمقراطية من ارادتنا ومن وعينا بضرورة وجودها لمجتمعنا.. الصراع كان قائماً، وسيبقى قائماً، انما كان يجري بأدوات وأشكال مؤذية. لهذا يجب ان نتعامل مع هذا الصراع بما ينسجم مع وعينا للتحضر اللائق بإنسان المجتمع المدني. من خلال الممارسة الديمقراطية الصحيحة، فالعراقيون منذ سومر، مروراً بكل الميثولوجيات كانوا يسيرون بالمجتمع المدني، المبني على فكرة: ان الانسان يطلب الحرية بمعناها الجمالي والاستثنائي بدرجات عالية في تأسيس الجدل القائم على انسنة الانسان.. هناك عوامل عدة وضعت المجتمع العراقي في مغطس جحيمي، لهذا فلا يجوز للعراق المعاصر القهقري الى الوراء، بل عليه أن يسير قدماً للتعامل مع الصراع بالتأكيد على نبذ العنف، ونبذ التعصب بكل اشكاله، فإذا كنا قد حصلنا على التحرير باسقاط الحكم الديكتاتوري، فعلينا ان نحصل على الحرية، وهي لا تتحقق الا من داخلنا.

* كل حكم جديد يأتي الى العراق، يبشر بما تفضلت به: الحرية.. الديمقراطية.. العدالة الاجتماعية.. الخ.. ولكن عند الممارسة العملية، كثيراً ما تحدث مواجهات دموية عنيفة، حتى اصبح العنف، وكأنه سمة «ملازمة» لأبناء وادي الرافدين، والبعض يرى ان شريعة حمورابي وضعت في العراق دون سواها، لأن الناس جُبلت على العنف!؟

ـ أنا لا ادعي أن عندي الماما بما تفضلت به.. ولكنني استطيع ان انقل انطباعي الشخصي، كواحد من ابناء التجربة العراقية.. واعتقد ان الكلام الذي ذكرته فيه الكثير من المبالغة والتشويه، والانسان العراقي يتعرض الى الظلم الف مرة، عندما يقال عنه مثل هذا الكلام.. وسأورد لك مثالاً مأخوذاً من رحم الاحداث التي تجري في العراق منذ سقوط الطاغية، حيث اصدرت كافة الاحزاب والقوى السياسية، والتي عانت ما عانت من عسف النظام الديكتاتوري، اصدرت نداءات كلها تدعو الى التسامح، والى عدم الامتثال للنزعات الثأرية، الى ان تهدأ الأوضاع، ويأخذ القانون مجراه في محاسبة المخالفين.. فماذا تقول في الانسان العراقي البسيط الذي يستجيب لدعوة كهذه، مع انه كان قد فقد الكثير من اعزائه، وممتلكاته، وربما يكون هو قد تعرض الى عذابات السجون، والمعتقلات.

* كتابات وتحليلات بعض المثقفين العرب عن وضع العراق الراهن، يكتنفها عدم وضوح الرؤية لما يجرى، فهل لك كلمة في هذا المجال؟

ـ الأوراق الآن مختلطة، فبعض من يكتبون لهم غايات ودوافع، ويجب ان ندرك ان هناك من يخشى التطور في العراق في سعيه الى بناء نظامه الديمقراطي.

* بعض المثقفين العراقيين في الخارج قد كيفوا انفسهم بعد ان تفاعلوا مع الامتيازات التي توفرت لهم هناك.. فكيف يمكن لهؤلاء العيش في العراق؟

ـ المثقف الحقيقي كثيراً ما ينكر ذاته، وتأكيداً لذلك استجاب عدد من المثقفين العراقيين لنداء واجب الوطن، وعادوا من أوروبا واميركا، وهم في شبه تماس مستمر مع الحالة الثقافية في وطنهم.