البير قصيري: أنا كاتب مصري باللغة الفرنسية

أخيرا غادر الفندق بعد 60 عاما من تمجيد الوحدة والدفاع عن المهمشين والبسطاء

البير قصيري
TT

«كيف تفضل أن تموت»؟.. منذ سنوات قليلة وجهت مجلة «لير» الفرنسية هذا السؤال للكاتب البير قصيري وكانت إجابته «على فراشي في غرفة الفندق»، هل كانت أمنية، أم نبوءة، فألبير قصيري الروائي المصري الذي قضى جل عمره في باريس ورحل مساء الأحد الماضي، توفي في فراشه في غرفته بفندق لو لويزيانا البسيط في حي سان جرمان دوبريه في باريس الذي عاش به ستين عاما.

البير قصيري، الذي ولد في الثالث من نوفمبر عام 1913 في حي الفجالة بالقاهرة، غادر مصر عام 1945 إلى فرنسا ولم يعد إليها ربما «لأن كل الذين أعرفهم ماتوا» حسبما كان يقول، رحل عن 94 عاما ، قضاها مدافعا عن الوحدة والتفرد والمهمشين والبسطاء.

ورغم أن الكثير من الأجيال الجديدة من الكتاب المصريين، لا تعرف من هو البير قصيري رغم شهرته العالمية، وترجمة أعماله الأدبية إلى خمس عشرة لغة، إلا أنه عاش مخلصا لثقافته العربية. كان كل أبطال رواياته التي يكتبها بالفرنسية تدور في أحياء مصرية، وفي مدن مصرية كالقاهرة، الإسكندرية ودمياط، كلها تنحاز للفقراء والمهمشين وتنتصر لهم، وظل حتى آخر عمره حريصا على امتداده المصري وعدم سعيه للحصول على الجنسية الفرنسية، رغم أنه كان يصنف على اعتبار أنه كاتب فرنكفوني، ورغم هذا لم يعرفه الشارع المصري إلا من خلال إحدى رواياته «شحاذون ونبلاء» التي حولتها المخرجة المصرية أسماء البكري إلى فيلم لم يلق الكثير من النجاح.

ينتمي البير قصيري إلى عائلة غنية تملك العديد من «الأطيان الزراعية» حسب التعبير المصري، وبسبب هذا الغنى لم يعمل البير جل عمره، كان يمجد الكسل وحوله إلى فلسفة عمره، فالكسل فرصة للتأمل، يشبه في هذا أبطال روايته الشهيرة «كسالى الوادي الخصيب». ويقول في حوار أجرته معه مجلة «لو ماجازين ليترير» الفرنسية:«في فرنسا أحس أنني أكثر ثراء بكثير من الآخرين بما أنني احتفظت بهذا النمط الشرقي في تصور الوجود بلا عمل»، لكن والديه لم يكونا مثقفين، والده لم يكن يقرأ سوى الجرائد، أما أمه التي كانت تجيد أمور الطبخ فلم تكن تعرف القراءة، كان يقرأ لها ما يكتب في الأفلام الصامتة، يعلق على هذا ألبير بقوله:«أبواي لم يربياني.. لهذا السبب أنا ذكي».. تلقى البير دروسه في مدارس دينية مسيحية قبل أن ينتقل إلى مدرسة الجيزويت الفرنسية، ويقول:«لقد صرت كاتبا بفضل هذا: لأنني تعلمت الفرنسية، منذ وقت طويل وأنا أفضل موليير على شكسبير». لم يقرأ كتب الأطفال حين كان صغيرا، دلف مباشرة إلى المؤلفات الكلاسيكية، وبدأ الكتابة في سن العاشرة، وفي السابعة عشرة بدأ نشر قصصه في بعض المجلات القاهرية.

لم يغادر البير قصيري القاهرة لكى يهجر مصر، لكن لأن الأدباء الذين كان يحبهم كانوا يعيشون فيها. ففرنسا بالنسبة له هي ستاندال، سيلين، مالرو، وأيضا لويس جويو، جان جينييه، جوليان جراك. وفي فرنسا بدأ كتابة رواياته السبع ومجموعته القصصية الوحيدة. كل عقد يكتب رواية. في فرنسا تعرّف الى البير كامي وجان بول سارتر ولورانس داريل وهنري ميلر، وهؤلاء أصبحوا أصدقاء له ورفاقاً في جلسات المقاهي. وقد ساعده البير كامي في طبع مجموعته القصصية الأولى «الرجال الذين نسيهم الرب» في باريس التي كان نشرها في صحف فرنسية في مصر منذ سنة 1931، ونالت هذه المجموعة إعجاب هنري ميلر، فنشرها في أميركا باللغة الانجليزية وكتب لها مقدمة، قبل أن تبدأ شهرته وارتباطه بالثقافة الفرنسية لدرجة أن الكاتب إيف سيمون يصفه بأنه «ذاكرة حية للأدب الفرنسي» رغم أنه يصرّ دوماً على وصف نفسه بـ«الكاتب المصري الذي يكتب بالفرنسية» على رغم الموقع الذي يحتله داخل الأدب الفرنسي، وتصدر رواياته القليلة واجهات المكتبات في فرنسا.

يشبه البير قصيري أبطال رواياته، في خفة الدم، في التسلح بحب الحياة، في الانحياز للفقراء والمهمشين، والشحاذين والساقطات وكناسي الشوارع الذين رصدتهم عينه طفلا في مصر، والذين كان يصفهم بأنهم أشخاص متسامحون حيال مصاعب الحياة، فشكوى الإنسان حقارة إذا كان لا يزال على قيد الحياة. أول أعماله هي المجموعة القصصية «الرجال الذين نسيهم الرب»، أما أولى رواياته فهي «منزل الموت الأكيد» نشرت عام 1942، أما آخرها فهي «ألوان النذالة». ومن أعماله التي صدرت في فرنسا عن دار جويل لوسفيلد للنشر «شحاذون ونبلاء» و«مؤامرة مهرجين» و«العنف والوهم» و«كسالى الوادي الخصيب». وقد نال البير قصيري عددا من الجوائز منها «جائزة المتوسط» سنة 2000، وجائزة اوديبرتي سنة 1995، وجائزة الفرنكفونية الكبرى سنة 1990.

كان له جدول حياة يمضي به يومه يعرفه أصدقاؤه المقربون، وسهل عليه هذا أنه قضى حياته عازبا، عدا زواج قصير الأمد من ممثلة مسرحية فرنسية، حتى أنه حين كان يسأل عن معنى السعادة كان يقول «أن أكون بمفردي». يستيقظ في الظهيرة، لأنه طوال حياته لم يذهب إلى الفراش قبل الثانية أو الثالثة صباحا، كان يغادر الفندق نحو الثانية بعد الظهر، يتناول طعام الغداء في الجوار، ثمّ يتمشّى وعند المساء، حين يكون مدعواً، يغادر الفندق مجدداً عند الثامنة، ثم يذهب لتناول العشاء قرب الفندق عند العاشرة، كان يفضل القراءة في حديقة اللوكسمبور أو في ساحة سان سوبليس. غير هذا يخرج إلى شرفة احد المقاهي حتى يستطيع مراقبة مرور العابرين، يقضي القسط الأكبر من وقته في المقهى، وحيدا، في قراءة الصحف، أو مقابلة أصدقائه ومريديه، حين يكتب يفضل أن يفعل ذلك في غرفته البسيطة بالفندق، بقلم ماركة «بيك»، وحين توفي قالت إدارة الفندق انه قبل ايام فقط من وفاته كان هذا الرجل المدهش ما زال يقوم بجولته المعتادة بين مقهيي كافيه دو فلور وليه دو ماغو.

البير قصيري الذي كان لا يكف عن إلقاء النكات كان قد توقف في أيامه الأخيرة عن الكلام بعد إصابته بسرطان في الحلق سنة 1998حرمه من حباله الصوتية وأفقده القدرة على النطق مما جعله يرد كتابة على اسئلة الصحافيين.

لماذا عاش البير قصيري ستين عاما في فندق؟ لماذا لم يسكن شقة في أحد أحياء باريس؟ والإجابة لأنه يكره التملك، لأنه يرى أن «الملكية هي التي تجعل منك عبدا، لهذا المبرر عشت، دائما، في الفندق، حيث حتى الأثاث لا يعود إليّ». فعندما كان شابا لم يكن يسعى أبدا إلى كسب النقود، كان يسعى للعثور على بعضها حتى يتمكن من العيش ليس أكثر، ولو بالاقتراض من والديه أو أصدقائه، وبعد ذلك عاش من عائدات كتبه، بالإضافة إلى بعض السيناريوهات التي كتبها. يصنف البير نفسه أنه سعيد لأنه يعيش بلا بطاقة بنكية، ولا دفتر شيكات، منفصلا عما يصنع سعادة الحمقى ـ حسب تعبيره ـ كان يخاف أن يكسب الكثير من المال أو أن يصبح ثريا، وكان يردد دائما أن الكلمة التي يكرهها هي كلمة «اكسب»، حتى غرفته بالفندق، لم يملك شيئا فيها غير ملابسه فقد كان يرى أنه «ليس بحاجة الى سيارة جميلة ليثبت وجوده على الأرض».