باريس ترصد ميزانية ضخمة لمواجهة شراهة «غوغل»

فرنسا تعطي الضوء الأخضر لأكبر ورشة رقمية لتراثها الثقافي

TT

رصدت فرنسا مؤخرا 750 مليون يورو لإدخال تراثها الفني والأدبي إلى العالم الرقمي بمجهودها الخاص. وهو مجرد جزء من مبالغ كثيرة سبقت وأخرى ستخصص مستقبلا، لسد الطريق أمام مشروعات «غوغل»، التي تنظر إليها فرنسا على أنها خطر على تراثها. وبذلك تكون فرنسا هي الدولة الأوروبية الأولى التي تخصص ميزانيات بهذا الحجم لأرشفة مكتباتها ومتاحفها وصورها وخرائطها مثل برامجها التلفزيونية وثروتها الموسيقية. باريس تسابق الزمن بل هي تسابق «غوغل» لتسد أمامه أي طريق قد توصله إلى الاستحواذ على التراث الفرنسي.

لا يزال زحف الوحش الأميركي «غوغل»، واستحواذه على المحتويات الرقمية لعدة مكتبات عالمية يثير مخاوف الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا، لدرجة أصبحت فيها هذه المسألة تتصدر قائمة أولويات وزير ثقافتها، فريدريك ميتران، الذي جعل منها منذ وصوله قضية وطنية. وقد وصف الوزير استئثار العملاق الأميركي بكنوز التراث الفكري العالمي بـ«التسونامي»، كما أعلن في عدة مناسبات معارضته تمكين هذا الأخير من مفاتيح التراث الفرنسي، مدافعا بقوة عن فكرة تمويل الحكومة لعملية رقمنة تراثها الفكري والثقافي الكبير، وإبعاده قدر المستطاع عن أيدي القطاع الخاص.

الوزير الفرنسي تنفس الصعداء بعد أن تمكن مؤخرا من الحصول على الميزانية المطلوبة لبدء ورشة رقمية ضخمة تشمل كل كنوز التراث الفرنسي، وكان فريدريك ميتران قد قيم تكاليف هذه الورشة بـ750 مليون يورو.

المشروع أصبح واقعا بعد موافقة الرئيس، نيكولا ساركوزي، على اقتطاع هذا المبلغ من أصل 35 مليار يورو مخصصة لخطة «القرض الكبير» التي أطلقها مؤخرا لتمويل عدة قطاعات استراتيجية وتحفيز النمو. وإن كانت هذه هي المرة الأولى التي تستحوذ فيها عملية رقمنة التراث الثقافي على كل هذا الاهتمام وهذه الميزانية الضخمة، إلا أن حكومات فرنسية متتالية كانت قد رصدت منذ عام 1996 عدة ميزانيات لتمويل مشروعات من هذا القبيل في إطار ما يسمى «البرنامج الوطني للرقمنة، التابع لوزارة الثقافة والاتصال». فقد خصصت له على سبيل المثال مبلغ 390 ألف يورو عام 1996، مبلغ 1.8 مليون في 2002، 2.56 في 2003 و30 مليون يورو عام 2009. جزء كبير من هذه المبالغ، التي تبقى قطرة في بحر المليارات التي يخصصها محرك بحث «غوغل» لنفس الغرض، ذهبت كلها لصالح برامج رقمنة المكتبات الوطنية، التي تعتبر من القطاعات التي تحظى باهتمام السلطات الحكومية، لا سيما وأن التراث الوثائقي الذي يتداوله القراء على مر الأجيال يعتبر أكثر تعرضا للتلف من غيره. لذا فإن عملية الرقمنة (التي تسمح باستعمال الصيغة الإلكترونية بدلا من الأصل) تضمن الحفاظ على الوثائق وحمايتها من التعرض لخطر التلف والاندثار.

الـ750 مليونا التي رصدتها الحكومة ستذهب كلها إلى تمويل مشروعات رقمنة محتويات المؤسسات الثقافية الكبرى التي تعتبر فخر الفرنسيين: المكتبة الوطنية الفرنسية (بي إن إف) من أجل مجموعتها الكتبية القيمة، والمركز الوطني للسينما والأفلام (سي إن سي) من أجل أفلامه، والمعهد الوطني للسمعي البصري (إينا) من أجل التسجيلات الإذاعية والصوتية، والمتاحف: «اللوفر» و«أورسي»، و«مركز بومبيدو» من أجل تحفهم الفنية، «أوبرا باريس»، ومدينة الموسيقى (لافيلات) لأرشيفهما الموسيقى المهم. وهي كلها مؤسسات كانت قد شرعت منذ مدة في مغامرة الرقمنة، على رأسها متحف اللوفر، الذي قطع أشواطا مهمة في هذا المضمار. فقد تمكن المتحف لغاية الآن من رقمنة 85 في المائة من مجموع تحفه الفنية. وكان اللوفر قد بدأ برنامجا خاصا منذ عام 1993 معتمدا إعطاء الأولوية لبعض المجموعات النادرة التي لا يحبذ الإكثار من تعريضها للجمهور ومستعملا تقنيات مختلفة حسب مميزات كل مجموعة. المعهد السمعي البصري، الذي يشمل أرشيفا نادرا وثمينا عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتحقيقات عن مرحلة ما بعد الحرب، أطلق هو الآخر منذ سنة 1999 برنامجا خاصا لرقمنة وصيانة محتوياته. وعلى عكس المؤسسات الأخرى، فقد تمت هذه العمليات داخليا، بعد تأهيل موظفيه وتدريبهم على هذه التقنيات الجديدة.

وقد تم له لغاية الآن ترقيم ما يعادل 600000 ساعة من البرامج الإذاعية والتلفزيونية، ولمواصلة هذه الجهود قدر مسؤولو المعهد السمعي البصري احتياجاتهم المادية بـ90 مليون يورو. وهي الميزانية اللازمة لاستكمال ترقيم 835000 ساعة من الأرشيف، مهددة بالتلف إن لم تحفظ قبل عام 2015.

«المركز الوطني للسينما» نجح في رقمنة 13000 فيلم و70000 شريط إذاعي، لكنه أعلن عن حاجته إلى 166 مليون يورو للشروع في تمويل عمليات رقمنة 6500 شريط طويل، و6500 شريط قصير، يعود تاريخ بعضها إلى عام 1929، إضافة إلى 70000 عمل تلفازي.

جزء من التمويل سيشمل أيضا تجهيز الصالات بتقنيات العرض الرقمية التي تتلاءم مع استعمال الأقراص التي تخزن فيها هذه التسجيلات. أما الجهة المعنية الأولى بهذا الدعم فتبقى «المكتبة الوطنية الفرنسية» (بي إن إف)، خصوصا بعد تسرب أخبار تفيد بوجود مفاوضات بينها وبين «غوغل» بشأن إسناد مهمة ترقيم جزء من محتوياتها إلى هذا الأخير. الخبر كان قد أثار هلع رجال الثقافة والسياسة الفرنسيين على أعلى مستوى، حيث عقب عليه الرئيس، نيكولا ساركوزي، بقوله: «لن أترك تراثنا يذهب إلى الخارج». أما وزير ثقافته، فريدريك ميتران، فقد قال: «علينا توخي الحذر من (غوغل)، فالقضية هي كآبار النفط، إذا امتلكت الأنابيب، حصلت عليه من القاعدة».

وكانت المكتبة الوطنية، التي تملك أكبر مجموعة كتب في فرنسا، تقدر بأكثر من 13 مليون مرجع، قد بدأت في ترقيم محتوياتها منذ تسعينات القرن الماضي عن طريق بوابة «غاليكا» التي افتتحت منذ عام 1996. البوابة التي تحوي كنوز المكتبة نفسها بمشاركة مكتبات فرنسية أخرى مثل «متحف الإنسان» و«المتحف الوطني لتاريخ الطبيعة»، ومتاحف أخرى، تعتمد تصنيف الأبواب. فهناك مثلا «غاليكا كلاسيك»، التي تمنح مجانا لمستعملي الشبكة متعة قراءة أكثر من مليون كتاب من روائع الأدب الكلاسيكي، الفرنسي والعالمي، كأعمال شتوبريان الكاملة، التي لا توجد في أي مكان آخر من العالم، ونقل لرائعة «لا كوميدي هومان» للكاتب المعروف هونوريه دو بالزاك. وعلى الرغم من المساعي التي بذلت وميزانية سنوية تصل إلى 7 ملايين يورو، فإن مسؤولي المكتبة لم يتمكنوا من رقمنة أكثر من 5 في المائة فقط من محتوياتها. وكان مديرها، برونو راسين، قد طلب من وزير الثقافة دعما ماديا بقيمة 140 مليون يورو لتفعيل برنامج ترقيم المكتبة. المبلغ سيخصص لتطوير وإثراء بوابة «غاليكا» تحديدا في 4 أقسام: الكتب، ومجموعات الصحف المؤرخة بين 1850 و1950 والمهددة بالاندثار، وتسجيلات الفيديو، و900000 وثيقة صوتية، خصوصا أن «المكتبة الوطنية الفرنسية» تملك أهم مجموعة تسجيلية للأغاني الفرنسية التي يعود بعضها إلى عام 1895. المكتبة تنوي أيضا رصد جزء من هذه المبالغ لترقيم المجموعات القيمة والنادرة التي تملكها من الخرائط والبطاقات والصور والمخطوطات.

وزارة الثقافة لم تحدد بعد كم المبالغ التي ستخصصها لكل مؤسسة، ولا متى ستمنحها إياها أو بأي شروط، لكن المعلومات تشير إلى أن «المكتبة الوطنية» و«المعهد الوطني للسمعي البصري» سيحصلان على المبالغ التي طلباها، لتشجيع الجهود التي بذلها كل منهما في تطوير محتوياتهما الرقمية. كما أن إشكالية التعاون مع «غوغل» لتفعيل وتسريع وتيرة عمل ورشة الترقيم تبدو أقل حدة الآن، بعد أن أصبحت وزارة الثقافة تمتلك الميزانية المطلوبة التي تجعلها تتفاوض من منطق القوة، ولم تعد «كالطفل الذي ينتظر مصروف الجيب من والده»، على حد تعبير وزير الثقافة الفرنسي، فريدريك ميتران. فرنسا التي تدافع بقوة عن «استثنائها الثقافي» تأمل من خلال عرض تراثها على الشبكة توسيع دائرة «إشعاعها الفكري والفني»، باتجاه النخب والمثقفين في العالم، وصولا إلى جميع مستعملي الشبكة مهما اختلفت مستوياتهم، كما أن فرنسا تقفز بقوة، بفضل هذه الميزانية الضخمة، إلى مرتبة الريادة في مجال ترقيم التراث الثقافي على المستوى الأوروبي.

فألمانيا، مثلا، لم تخصص لنفس المجال سوى 50 مليون يورو، وهولندا 90 مليون، واليونان 100 مليون. كما أن فرنسا أكثر الدول تنديدا بأطماع المحرك الأميركي العملاق «غوغل» في الثقافة الرقمية. وكانت فرنسا قد ردت على «غوغل» في مرحلة أولى بمشروع «أوروبيانا» (المكتبة الرقمية الأوروبية) ودعمها الكبير لها ماديا وتقنيا، وهي ترد الآن بضربة ثانية قد تضعف بها أطماع الأخطبوط الأميركي «غوغل» في مجال الثقافة الرقمية.