إضاءات على التقرير العربي الثاني للتنمية الثقافية

المواقع الثقافية لا تعكس الثراء الذي تتميز به الثقافة والتراث العربيان

غلاف الكتاب
TT

يضع التقرير الثاني للتنمية الثقافية الذي تصدره مؤسسة الفكر العربي للعام الثاني على التوالي، أسئلة الثقافة وأحوالها في الوطن العربي على مشرحة البحث والتحليل، باحثا في خمسة ملفات أساسية على صلة وثيقة بمؤشرات التنمية الثقافية في مجتمعاتنا ومستوى تطورها، في محاولة لرسم معالم الخارطة الثقافية العربية وتحديد مواطن ضعفها وقوتها، والتأسيس لمنهجية عمل ثقافي يتسم بالشمول والرصد لمجالات تتشكل منها البيئة الثقافية العربية.

وكانت المحاور الرئيسية في التقرير هي: المعلوماتية والإعلام والتعليم والإبداع والحصاد السنوي.

بين التقرير فيما يخص المحور الأول «المعلوماتية: أفق بلا حدود للتنمية» الفجوة الرقمية التي تعيشها بلداننا على مستوى البنية المعلوماتية العربية، وحجم الحضور الثقافي العربي على الشبكة العنقودية، والدور المحتمل للمعلوماتية في دعم التنمية الثقافية، بالإضافة إلى ملامح الرؤية المستقبلية في هذا الخصوص. وأظهرت المعطيات المتعلقة بهذا الملف تفوق دولة الإمارات عربيا لجهة استخدام تقنيات المعلومات والاتصالات في المكاتب والمدارس والدوائر الحكومية وأعداد المشتركين، وقد احتلت المركز الخامس دوليا طبقا للمؤشرات الخاصة بمستوى تقنيات المعلومات والاتصالات في قائمة أولويات الحكومات العربية، فيما جاءت المغرب في المركز 111 عالميا. وأظهر التقرير أن دولة الكويت هي الأولى عربيا والـ37 عالميا في معدل براءات الاختراع وحرية الصحافة، في حين احتلت السعودية المركز الأول عربيا والسابع عالميا، وفقا لمؤشر القدرة على الإبداع والابتكار، وأيضا المركز الأول عربيا، والثامن عالميا في مؤشر نسبة الإنفاق على التعليم.

وجاءت قطر الأولى عربيا، وفي المركز الـ25 عالميا لجهة مدى توافر الخدمات الحكومية عبر الإنترنت، وسورية الأخيرة عربيا وفي المركز 131 عالميا، وأيضا جاءت قطر الأولى عربيا والـ16 عالميا في مؤشر جودة النظام التعليمي وقدرته على دعم احتياجات التنمية. واحتلت تونس المركز الأول عربيا والـ28 عالميا في مؤشر مدى إقبال الشركات والمؤسسات داخل الدولة على تمويل البحوث، والمغرب الأولى عربيا والـ34 عالميا في مؤشر نسبة صادرات تقنيات المعلومات والاتصالات، أما مصر فجاءت الأولى عربيا والـ36 عالميا لجهة استخدام الإنترنت تجاريا.

ويظهر التقرير وجود 203 ملايين خط هاتفي (محمول وثابت) في العالم العربي الذي يبلغ عدد سكانه 342 مليون نسمة، ويستخدم 55 مليون شخص الإنترنت بصورة أو بأخرى، ويملك عشرة من كل مائة عربي جهاز كومبيوتر. ويعتبر التقرير أنه من بين الإيجابيات التي حققها العرب حصولهم على متوسط 4.4 درجة من 7 في توظيف تقنية المعلومات لتطوير الأداء الحكومي، وعلى 3.8 من 7 درجات في تأهيل الموظفين على التعامل مع تقنيات المعلومات، وعلى 3.6 من 7 درجات في تقديم الخدمات الحكومية للمواطنين إلكترونيا، و3.8 في التوظيف التجاري للإنترنت.

في المقابل، يبين التقرير أن المواقع الثقافية العربية لا تعكس الثراء الشديد الذي تتميز به الثقافة العربية والتراث العربي، ويؤكد وجود ضعف في مواقع التعليم الإلكتروني والمكتبات الرقمية والأدب والفولكلور، وضعف شديد أيضا في محتوى مواقع البحث العلمي على شبكة الإنترنت. كما يلحظ غيابا واضحا لمعظم الصيغ التفاعلية مع المواقع الرسمية لوزارات الثقافة والجهات الرسمية، إذ يفاجأ الزائر لعناوين بعض المتاحف عبر الإنترنت أنها قد تحولت إلى مواقع دعائية إعلانية لا علاقة لها بالمحتوى المتاح، في حين أن ثمانية مواقع لمتاحف مصرية تضم أهم المقتنيات الأثرية في العالم لا تعمل.

ويخلص التقرير إلى تأكيد عدم إمكانية إنتاج مجتمع إيجابي ومشارك في الشأن العام وهو يعاني فجوة معرفية ومعلوماتية، مؤكدا أن المجتمعات التي سجلت تقدما فعليا على صعيد حرية الوصول إلى المعلومات وتداولها، هي نفسها التي سجلت تقدما في توظيف تقنية المعلومات كأداة من أدوات التنمية الثقافية. مشددا على ضرورة تطوير المواقع الثقافية العربية وتطوير الخطاب الثقافي الرقمي وتحفيز رأس المال العربي على الاستثمار في مشروعات التوظيف الثقافي لتقنية المعلومات وتقديم خدمات وبوابات ثقافية.

ملف التعليم تناول قضية «التمويل واستقلالية الإدارة في التعليم العالي»، فأكد أن مشكلة التمويل تترك آثارا على أداء الجامعات: نمو المؤسسة بمعدل لا يتناسب مع معدل نمو مخصصاتها، تقلص عدد الأساتذة الذين يجري تأهيلهم في الجامعات الغربية المرموقة واللجوء إلى إعدادهم محليا، عجز الجامعات عن تمويل الإجازات التدريسية والبحثية لأعضائها خارج البلاد.. وأبرز ما طرحه التقرير كان حول معدلات الإنفاق على التعليم العالي في البلدان العربية وإذا ما حقق الجودة التعليمية المنشودة، وأشار التقرير إلى أن الإنفاق الحكومي السنوي على الطالب الجامعي لا يتجاوز 800 دولار في كل من مصر والأردن وسورية والمغرب، ويصل إلى نحو 1800 دولار في لبنان وتونس، ويبلغ 8000 دولار في السعودية، في حين يصل في كل من إسرائيل وفرنسا إلى أكثر من 10000 دولار، وفي الولايات المتحدة الأميركية يبلغ 22000 دولار. ويقدم التقرير نماذج عالمية عن «الوقفيات» الجامعية، وإسهامها في تحقيق أعلى مستويات الجودة التعليمية ارتباطا بتوفير استقلالية الجامعة الإدارية والمالية في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا وتركيا. أما ملف الإعلام فقد بحث هذا العام موضوع «الخطاب الثقافي في وسائل الإعلام» إحدى قضايا «التماس» بين المضمون والوسيلة، وأكد التقرير أن الخطاب الثقافي يأخذ منحى ناقدا للآخر الغربي وخصوصا الأميركي، منطلقا من أطروحة «سيطرة المادية على الحياة في الغرب»، ومن أن التنوع السياسي أو العرقي في الغرب يعكس في جوهره حالة اقتصادية تعتمد على الطبقية الشديدة. ويشير التقرير إلى أن العلاقة بين الثقافة والسلطة في العالم العربي شديدة الالتباس، وهناك نوع من الإصرار من جانب المثقفين الذين يظهرون داخل الخطاب الصحافي للتأكيد على فكرة الاستقلال عن السلطة السياسية، حتى ولو كانوا رسميا جزءا منها، إذ نجدهم يفصلون باستمرار بين فعلهم الثقافي ووظائفهم لدى السلطة. ويشير إلى أن تجذر الهزيمة في الواقع العربي دفع المثقف إلى اتخاذ واحد من ثلاثة طرق: الالتحاق بالسلطة، أو الهروب إلى الغرب، أو البقاء هنا والحفاظ على الحد الأدنى من قيمه وارتباطه بناسه. ملف الإبداع توزع على ثلاثة محاور، هي الإبداع الأدبي والسينمائي والمسرحي. في رصد المشهد الأدبي، أكد التقرير أن الرواية لم تصبح ديوان العرب على حساب الشعر الذي كان حاضرا بشدة مثل الرواية، وإن تمكنت الأخيرة من تخطيه كميا، كونها قادرة على استيعاب الأزمات التي تشهدها المجتمعات العربية ومواجهة الأسئلة المطروحة بإلحاح، مشيرا إلى أن الترجمات الروائية ساعدت على جعل الرواية العربية نفسها على محك الرواية العالمية. في المقابل يطرح التقرير أزمة القارئ الشعري التي كانت هي الأبرز، وتشهد عليها أرقام المبيعات الشعرية، كما هو حال دواوين شعراء محدثين بارزين، وقد يكون لجوء الكثيرين من الشعراء إلى حفلات التوقيع حلا لهذه المشكلة. ويلفت التقرير إلى غياب روائيَين كبيرَين خلال عام 2008، هما اللبناني سهيل إدريس والعراقي فؤاد التكرلي، في حين شهد العام نفسه صدور خمس روايات عربية تدور حول عالم السجون. ولحظ التقرير بقاء العلاقة بين الشرق والغرب موضوعا أثيرا لدى الأدب العربي المعاصر، خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001. وكان لافتا بحسب التقرير مهرجان «سوق عكاظ» السعودي في دورته الثانية التي شهدت تطورا يمكن أن يدل على نهوض مرحلة مهمة بالنسبة للشعر العربي، قد تسهم في إعادته إلى واجهة المشهد الأدبي عربيا.

أما ملف الإبداع السينمائي فقد ركز على النمو المتفاوت لهذا الفن في مجتمعاتنا العربية التي يلعب فيها أفراد متقدمون إن وضعوا في أماكن مناسبة أدوارا تأسيسية في تطور الفن وغير الفن، تفوق في أهميتها ما قد يلعبه تاريخ هذه المؤسسات بأكمله. واعتبر التقرير أنه بقدر ما يكون بلد عربي ما خاليا من الإنتاج، يزداد اهتمامه بالمهرجانات وتمويله لها من دون اهتمام جدي بتمويل حركة إنتاجية أو تدعيم ما يريد المبدعون تحقيقه. ويشير إلى أن المهرجانات الفنية في دبي وأبوظبي وغيرها تبدو الأكثر قدرة على استقطاب الجديد والجيد من السينمائيين. ويشير إلى أن هناك نوعا من العودة إلى اجتماعية السينما في مناخ السينما المصرية بعد أن فقدت جزءا كبيرا منها خلال العقود الفائتة، وأشار إلى أن عام 2008 قدم جديدا على المستوى السينمائي المصري، كما شهد عام 2008 في مصر ظهور ما لا يقل عن 13 مخرجا سينمائيا جديدا تولوا إخراج أفلامهم الأولى. وفي المجال نفسه أنتج المغرب 15 فيلما روائيا طويلا وعشرات الأفلام القصيرة، وأصبحت السينما الفلسطينية حاضرة في مهرجانات عالمية، فيما تراجع عدد الأفلام الطويلة المنتجة في لبنان، وتمكنت مؤسسة السينما السورية في مجال التثقيف السينمائي من إصدار ما لا يقل عن 25 كتابا سينمائيا خلال عام 2008. أما في السعودية فبدأت السينما حضورها الراهن على شكل صالات عرض عام 2008، في حين أصبحت تتوفر لدى كل بيت سعودي مكتبة سينمائية كاملة.

وفي ملف المسرح العربي يؤكد التقرير أن هذا المسرح الذي تبنته الدول وأصبح جزءا من المؤسسة الرسمية لم يبتكر لنفسه آليات تطور تسمح له بالتعامل مع المستجدات السياسية والاجتماعية. ويعتبر أن ثمة إشكالية أساسية لدى المؤسسات المسرحية؛ تتجلى في تهرؤ البنى الثقافية التي تشرع لوجود المسرح في المجتمع، ويشير إلى أنه، ولأسباب عديدة، خرج المسرح العربي إلى فضاءات جديدة تنتمي إلى الحياة اليومية كالشارع والأقبية والأنفاق والبيوت، وهي ظاهرة نمت وتطورت عام 2008. كما لاحظ التقرير ارتباط الإنتاج المسرحي بظاهرة المناسبات كالمهرجانات أو إعلان مدينة ما عاصمة للثقافة كما جرى في دمشق. ويختتم التقرير بالحصاد الفكري السنوي الذي يرصد مسائل وموضوعات شهدها عام 2008، وفي مقدمتها الجدل الملحوظ في أوساط المثقفين والمؤسسات الثقافية حول حرية تداول المعلومات بين ضرورات حقوق الإنسان ومتطلبات الأمن الوطني والاستقرار الاجتماعي، في وقت أحدثت فيه ثورة الإعلام في العالم فعلها في الحياة العربية، وتنامت مساحة الحوار في المجتمع العربي لكن بقيت المشاحنات حاضرة، الأمر الذي يطرح سؤالا أساسيا حول إشكالية آداب الحوار في ثقافتنا المعاصرة.

وخلص الحصاد إلى أن أكثر ما ميز الاهتمام الفكري العربي بالنظام الدولي هذا العام انتباهه إلى موضوع المجتمع المدني على الصعيد العالمي وموقع مسألة التنمية في نشاطات قواه ومؤسساته، وأشار إلى أنه وعلى الرغم من وفرة الندوات والحلقات النقاشية التي شهدها العام المنصرم، فقد بقيت حصة الفكر والمعرفة هزيلة. وأكد أن هذا الضعف الشديد في الفعاليات الفكرية الجماعية المنصرفة إلى القضايا النظرية يمثل مؤشرا سيئا على تراجع الدور المعرفي للجامعات العربية التي تشكل البيئة الأساسية للبحث العلمي. كما تناول الحصاد مشروعات الترجمة في عالمنا العربي والتي لا تزال مقتصرة على النقل من اللغات العالمية المألوفة في الحياة الثقافية العربية، في حين لا نكاد نعثر على نصوص مترجمة مباشرة من اللغات الصينية واليابانية والهندية وغيرها. كما لحظ حاجة المكتبة العربية إلى معاجم وقواميس علمية متخصصة في الفكر والعلوم الإنسانية باللغة العربية.