مع العودة القوية للمنتخب الجزائري لكرة القدم، وهو المقبل هذه السنة على المشاركة في نهائيات «كأس العالم»، بعد أربع وعشرين سنة كاملة من الغياب، تشهد الساحة الفنية الجزائرية فورة كبيرة في الأغنية الرياضية التي حققت أرقاما قياسية في عدد المبيعات، واستولت على اهتمام جماهير واسعة. كيف استعادت الأغنية الرياضية الحياة؟ وما سر هذه المبيعات غير المسبوقة؟
«تورينو» و«ميلانو»، مدينتان معروفتان في إيطاليا، الأولى ينتمي إليها نادي كرة القدم الشهير «يوفنتوس»، والثانية تشتهر بنادي «إيه سي ميلان». في المقابل فإن اسمي «تورينو» و«ميلانو» أطلقا على أشهر فرقتين غنائيتين، إحداهما تشجع نادي «مولودية الجزائر» والأخرى تشجع نادي «اتحاد الجزائر». وهما أشهر وأكبر ناديين لكرة القدم في الجزائر العاصمة، ويستحوذان على اهتمام فئات واسعة من جماهير كرة القدم في البلاد. وبقيت فرقة «تورينو» تشجع مولودية الجزائرية ضد اتحاد الجزائر، و«ميلانو» تشجع الاتحاد ضد المولودية، دون أن تنجح إحداهما في صناعة الفارق الذي يجعل منها ظاهرة فنية وطنية. لكن المعجزة حصلت عندما استعاد المنتخب الجزائري بريقه الذي فقده منذ سنين طويلة وأصبح أقوى المرشحين للتأهل إلى كأس العالم في مجموعة تضم مصر وزامبيا ورواندا. وتوحدت الفرقتان تحت اسم مركّب وهو فرقة «تورينو وميلانو»، وأصبحت جماهير المولودية وجماهير اتحاد العاصمة تردد جميعها أغاني فرقة واحدة. ولم يكن أكبر المتفائلين يتوقع هذا التقارب بين الجمهورين الكبيرين. واستطاعت فرقة «تورينو وميلانو» الوليدة منذ أشهر قليلة أن تفجر قنبلة فنية حقيقية تمثلت في أغنية «لالجيري (الجزائر باللغة الفرنسية) بلادي ساكنة في قلبي» التي أصبح يرددها الصغير والكبير داخل الملاعب وخارجها. والغريب في الأمر أن كلمات هذه الأغنية وغيرها من أغنيات «تورينو ميلانو» هي في الأساس مستلهمة من أهازيج الجماهير الكروية داخل الملاعب. فالكاتب الحقيقي لتلك الكلمات هو «مؤلف مجهول» من سواد المشجعين الكرويين الكثيرين، الذين تخلوا ولو مؤقتا عن ألوان أنديتهم، لصالح ألوان العلم الوطني الجزائري. ويؤكد رئيسا هذه الفرقة الوليدة «لطفي تورينو» و«بلال ميلانو» أن تلك الأغنية الأيقونة مثل غيرها، هي فعلا من إبداعات جماهير الملاعب، أما اللحن فكان في الأصل معدا لأحد نوادي الدوري الجزائري لكرة القدم قبل أن يقترب المنتخب الوطني من تجسيد حلمه في الصعود إلى نهائيات كأس العالم بعد أربع وعشرين سنة كاملة من الغياب. ولأن الأغنية هي وليدة جماهير كرة القدم فإنها اشتهرت بسرعة كبيرة، وبيع منها عشرات آلاف النسخ، أغلبها مقرصن. فأثناء مباريات المنتخب الجزائري الأخيرة وفي أجوائها كان الأطفال والمراهقون يحملون أقراص «سي دي» لهذه الأغنية بالذات ضمن ألبوم الفرقة الرياضي الكامل، ويبيعون نسخا كثيرة منها في الشوارع والطرقات، تماما مثلما يبيع أطفال الجرائد صحفهم الرائجة بأكثر من سعرها الحقيقي.
والنجاح الخرافي الذي حققته فرقتا «تورينو وميلانو»، لم يمنع فنانين آخرين من النجاح في الأغنية الرياضية الجديدة، مثلما كان الأمر مع الثنائي «محفوظ وصونيا» وأغنية «viva l’algerie 3 2 1» (1 2 3 تحيا الجزائر) التي تمتزج في مطلعها عدة لغات أوروبية، وتؤكد على حب الجزائر بكل اللغات المعروفة. ورغم أن هذا الشعار مأخوذ هو الآخر من الملاعب قديما، فإن قدرة الفنانين على إدماجه في أغنية جديدة، كلمات ولحنا، ساهمت في انتشاره الواسع بين الجماهير. والغريب في الأمر أنه وفي غمرة التنافس الرياضي بين الجزائر ومصر، من أجل الصعود إلى كأس العالم، ومع التنافس بين جمهوري المنتخبين، استعار أحد المطربين الجزائريين الشبان لحنا شهيرا للفنان الشعبي المصري شعبان عبد الرحيم وأدى أغنية ساخرة تتغنى بلاعبي المنتخب الجزائري الذين فازوا بتأشيرة التأهل إلى نهائيات كأس العالم. كما اشتهرت أغنية أخرى استمد مطلعها من أهازيج الجماهير في الملاعب وهي «معاك يا الخضرا.. ديري حالة»، (نحن معك يا خضراء.. فلتحققي المستحيل) وغيرها كثير.
ولم يقتصر أمر الأغنية الرياضية الجديدة في الجزائر على الفنانين الشباب غير المعروفين من قبل، بل إن الكثير من المطربين المعرفين قد عادوا بأغان جديدة، منهم «الشيخ سلطان» الذي يؤدي الأغنية السطايفية الشاوية لناحية الشرق الجزائري، والمطرب الشعبي الشهير عبد القادر شاعو الذي أطلق أغنية جديدة بلحن شعبي قديم سبق أن أدى به منذ سنين طويلة أغنية عاطفية شهيرة. ولم تتأخر الفنانة فلة الجزائرية عن الحدث، وساهمت هي الأخرى بأغنية رياضية جديدة، في إطار الجو العام الذي ساهم في هذه «الثورة» التي اختلط فيها الفن الغنائي بالفن الرياضي.
وفي غمرة هذا الحدث، عاد من جديد الفنان الجزائري المعروف الصادق جمعاوي ليعيد أداء أغنية اشتهرت كثيرا في بداية ثمانينات القرن الماضي، وكانت عنوانا حقيقيا لما يسمى في الجزائر «ملحمة خيخون الإسبانية» عندما هزمت الجزائر منتخب ألمانيا الغربية. والأغنية هي بعنوان «جيبوها يا الأولاد». واستطاع جمعاوي أن يعيد أغنيته إلى الحياة من جديد بمشاركة «كورال» مكون من بعض الفنانين وحتى لاعبي المنتخب الجزائري الجديد. وتزامنت عودة الروح إلى هذه الأغنية مع عودة الروح للمنتخب الجزائري الذي انبعث من رماده واستطاع الذهاب إلى المونديال الكروي بعد أربع وعشرين سنة من الغياب. ومما ساعد على إعادة بعث أغنية «جيبوها يا الأولاد» - التي كانت بمثابة الشعار شبه الرسمي لتألق المنتخب في الثمانينات من القرن الماضي، والجماهير تردده في الملاعب وخارجها - أن كاتب كلماتها شاءها أن تكون «مجردة» على عكس معظم الأغنيات الرياضية التي تسمي لاعبين بأسمائهم ولا تعيش إلا بعض السنوات في أكثر الأحوال. فلم يذكر الكاتب في أغنيته الشهيرة تلك أي لاعب باسمه، واكتفى بذكر أرقامهم مما جعلها تتكيف مع كل عصر. هذا على عكس أغنيات شهيرة أعيد إحياؤها، كانت قد نجحت في وقتها نجاحا منقطع النظير، واضطر مجددوها أن يتصرفوا جزئيا أو كليا في الكلمات، حتى لم يبق من أصلها الأول إلا اللحن.
وكانت الأغنية الرياضية في الجزائر قد شهدت انتكاسة حقيقية منذ بداية تسعينات القرن الماضي عندما انهار المنتخب الجزائري وتزامن ذلك مع بداية الأزمة الدموية التي عرفتها البلاد. وقبل ذلك شهدت الأغنية الرياضية عصرها الذهبي في ثمانينات القرن العشرين، مع صعود المنتخب إلى المونديال سنة 1982 و1986 ومع تشكيل مشاركات كبيرة في نهائيات كأس أفريقيا للأمم، حيث توج في إحداها (1990) وكانت تلك السنة آخر محطة لتوقف الأغنية الرياضية قبل عودتها الكبيرة الأخيرة. والملاحظ أنه مع الاختفاء شبه التام للأغنية الرياضية في ذلك الوقت والتي كانت تنتج في الملاعب على وجه الخصوص، ظهرت أغنيات أخرى تمجد قوارب الموت (الحراقة)، وأخرى تؤكد على حب البلد بطريقة خاصة أشهرها « malgréبلادي نبغيك» (رغم كل شيء فأنا أحبك يا بلدي)، للمطرب المسيس «بعزيز» والتي تحولت إلى ما يشبه النشيد الشعبي في تسعينات القرن الماضي، رفضا لما كان يحدث من مذابح ومحن وانسداد للأفق.
ومع نكسة الأغنية الرياضية الجزائرية المرتبطة بالمنتخب، ظل ولمدة طويلة هذا النوع من الأغاني مرتبطا ببعض النوادي ذات الشعبية الكبيرة على غرار «وفاق سطيف» الذي توج بكأس العرب للأندية سنتي 2007 و2008، وارتبطت الكثير من الأغنيات بانتصاراته تلك أشهرها «واعرة.. قلنا واعرة» (لقد قلنا بأن هذا النادي صعب). وكان النادي نفسه قد ارتبط بأغنية شهيرة «يا سيدي الخير وعامر الأحرار». و(سيدي الخير) هو الولي الصالح الذي تشتهر به المنطقة دون غيرها. والغريب في الأمر أن لحن الأغنية نفسه الذي ظهر أول مرة سنة 1988 عندما فاز النادي بكأس أفريقيا، أعيد بكلمات جديدة في المدة الأخيرة، وأصبح ينسب للمنتخب الوطني الجزائري.
وعلى ذكر الأندية الجزائرية فإن الأغنية الرياضية في الجزائر، ظهرت قبل ظهور المنتخب بسنين طويلة. ويذكر المهتمون بالتاريخ الفني أن أول أغنية جزائرية رياضية معروفة، ظهرت مع ولادة أول ناد رياضي أهلي جزائري سنة 1926 الذي تأسس بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف وحمل اسما يؤكد انتماءه الحضاري للشعب الجزائري وتمييزه عن الفرق التي ارتبطت في ذلك الوقت بفرنسا الاستعمارية. وتزامن ذلك مع ظهور الحركة الوطنية وبروز فكرة الاستقلال بالوسائل الفنية والسياسية. والأغنية مطلعها يقول: «إذا حبيت تعمل السبور.. روح شارك في المولودية ذلك الـclub هو المشهور في شمال أفريقية».
هل الأغنية الرياضية الجزائرية الجديدة تسجل عودة حقيقية، أم هي مجرد ظاهرة عابرة؟ يعتقد الكثيرون أن الإجابة عن السؤال مرتبطة بالضرورة بالمنتخب الوطني الجزائري لكرة القدم نفسه، فلو كانت فعلا استفاقته حقيقية، فمن المؤكد أنه سيسهم فعلا في استمرار هذه الظاهرة الفنية التي تستحوذ يوميا على اهتمام الجماهير الفنية والرياضية على حد سواء.