«دار عبد اللطيف» تتحدى القرون وتفتح أبوابها للروائيين

300 سنة من الفن في العاصمة الجزائرية

TT

عندما فكرت منشورات «آكت سود»، التي تترجم روايات من الأدب العالمي إلى الفرنسية، في عقد شراكة مع مؤسسات ثقافية جزائرية، لم تجد خيرا من «دار عبد اللطيف» أو «فيلا عبد اللطيف» للانطلاق في مشروع استضافة كتّاب من مختلف الجنسيات، وتم المشروع على فترتين انتهت الأخيرة منه في بداية هذا الصيف مع الروائي، خوسيه كارلوس صوموزا، من كوبا.

يقال إن عبد اللطيف كان مجرد ثري يحب الثقافة، وقيل أيضا إنه كان وزيرا، واسمه «أحمد بن عبد اللطيف». ويجمع الكل أنه عاش في القرن الثامن عشر زمن الجزائر العثمانية التركية، التي استمرت ثلاثة قرون قبل الغزو الفرنسي، الذي غير أشياء كثيرة، وترك بصمته واضحة بعد رحيله، لكنه لم يتمكن من ذكرى هذا المثقف الذي بقيت الدار التي تنسب إليه شاهدة على عصر مضى.

والدار التي بدأت شهرتها باستضافة كبار شعراء ذلك الوقت، عادت هذه المرة لتستضيف وهي في عهدة «الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي» نخبة من كتّاب هذا العصر في إطار شراكة مع «آكت سود» الروائي نمرود من تشاد، ليغي غارنييري من إيطاليا، آندري غولاسيموف روسيا، وماثياس إينارد من فرنسا، وفاروق مردام بيك من سوريا، ومينة تران هوي من فيتنام، وإيمانويل لاندون من أستراليا وتيم باركس من إنجلترا وبريتن بريتن باشا من جنوب أفريقيا، والروائي جبور دويهي من لبنان، وباهييه ناخجافاني من الهند، وخوسيه كارلوس سوموزا من كوبا، إضافة إلى الروائي الجزائري، واسيني الأعرج، وخالد الخميسي من مصر.

إنها واحدة من أجمل الدور في الجزائر العاصمة، وبنيت وسط الغابة القريبة من «مقام الشهيد»، الذي تم تدشينه في ثمانينات القرن الماضي، وغير بعيد عن «مغارة سيرفنتيس» حيث قضى الروائي الإسباني الشهير صاحب «دون كيشوت» فترة أسره التي دامت خمس سنوات قبل أن يعود إلى بلاده ويكتب تلك الرواية الشهيرة.

والدار وإن لم يكن عبد اللطيف بانيها، إلا أنها ارتبطت باسمه إلى الأبد، منذ أن اشتراها قبل قرنين من الزمان، بمبلغ ألفي دينار ذهبي كما تشير الروايات، وقبل أن يشتريها، سبق أن سكنها بعض أعيان مدينة الجزائر في ذلك الوقت، ولم ترتبط باسم واحد منهم مثلما ارتبطت بهذا الشاعر والمثقف. وقد حولت في وقته إلى قبلة المثقفين، حيث تذكر المصادر التاريخية أن كبار الفقهاء والمثقفين والشعراء في العهد العثماني بالجزائر كانوا من زائريها، منهم سيدي محمد بن الشاهد والشاعر سيدي أحمد بن عمار وغيرهم. لكن سقوط «إيالة الجزائر العثمانية» تحت سلطات الاحتلال الفرنسي سنة 1830 جعل الدار تمر كما مرت البلاد بمرحلة صعبة كادت تقضي على أسطورتها. فقد حولتها سلطات الاحتلال منذ تلك السنة إلى مستشفى ودار نقاهة عسكرية خاصة بجنود الاحتلال. لكن ورثة عبد اللطيف ناضلوا بالسبل القانونية من أجل استعادتها، وبالفعل تمكنوا منذ ذلك سنة 1834، ثم قاموا بكرائها ليهودي اسمه موشي بن شيري ست سنوات مقابل 1000 فرنك فرنسي عن كل سنة، وقام موشي بدوره بكرائها لسلطات الاحتلال الفرنسي، التي تمكنت بعد ذلك من شرائها بمبلغ 75 ألف فرنك فرنسي قديم، وألحقتها بالشركة التي كانت تدير حديقة التجارب التي في محيطها. ومن هنا بدأ العصر الذهبي الثاني لدار عبد اللطيف، عندما تحولت بعد ذلك إلى ورشة للفنانين التشكيليين، حيث ارتبط اسمها بكبار الفنانين التشكيليين على غرار أوجين دولاكروا وأوجين فرومنتين وهما من كبار الفنانين التشكيليين المرتبطين بفن الاستشراق التشكيلي. ومن أشهر الفنانين الذين تخرجوا في دار عبد اللطيف، شارل دوفران، وهو من كبار الفنانين التكعيبيين، واوغستين فيراندو ولويس بيرتوم وغيرهم. وعندما بلغت الدار شهرة عالمية، صنفتها سلطات الاحتلال الفرنسي سنة 1922 من ضمن الآثار التاريخية المهمة، وحافظت على اسمها القديم وهو «دار عبد اللطيف»، الذي بقيت تحمله إلى الآن على الرغم من كل التغيرات السياسية التي طرأت على محيطها ولم تغيّرها في جوهرها. وهي الدار التي تحولت في منتصف القرن الماضي إلى واحدة من أكبر وأشهر الورشات الفنية التشكيلية في العالم، يزورها هواة الفن من مختلف البلدان لشراء أجمل اللوحات التي أنجزت بين جدرانها.

إنها الدار التي لم يبنها «عبد اللطيف»، لكنه فرض اسمه عليها حيا وميتا، وبعد أن ألهمت الشعراء والفقهاء في عصرها الأول، ثم ألهمت الفنانين التشكيليين في عصرها الثاني، ها هي الآن وقد أصبحت في عهدة «الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي» التابعة لوزارة الثقافة تتحول إلى مزار للروائيين غير بعيد عن ذكرى سيرفنتيس صاحب «دون كيشوت» وهي تطل من على ربوة خضراء على البحر المتوسط.