أمين معلوف لـ «الشرق الأوسط»: الحضارة الغربية في انغلاق كبير وعليها أن تتغير

بعد صدور كتابه الجديد «خلل العالم»

أمين معلوف
TT

لمرة جديدة يضع أمين معلوف الرواية جانبا، ويكتب عن همومه كمواطن في هذا العالم. يقف صاحب «صخرة طانيوس» ما بين شرق منهك وغرب بلغ غاياته وما عاد يستطيع مزيدا، مشرّحا عاهات هنا ومعايب هناك، باحثا عن مخارج ممكنة.

«خلل العالم» صرخة غضب كبيرة وحادة يريد منها أمين معلوف أن يحذر الجميع، بأن «الباخرة على وشك الغرق. ثمة بصيص أمل، ما يزال موجودا، فتداركوا الأمر قبل فوات الأوان!». هنا مقابلة أجرتها «الشرق الأوسط» مع أمين معلوف في باريس، يتحدث خلالها عن الكتاب، وعن قلقه المتزايد حول ما يجري في العالم العربي.

* في جديده «خلل العالم» LE DEREGLEMENT DU MONDE الصادر عن «دار غراسيه» يتوقف أمين معلوف مطولا عند أسباب الانهيارات المالية والحضارية، وكذلك الثقافية، الأيديولوجية، الجيوسياسية، البيئية المناخية، التي نعيشها. هذا القلق ليس جديدا على معلوف. وإنقاذ العالم شغله الشاغل في معظم كتبه التي ترجمت إلى 37 لغة وكانت موضوعا لأكثر من 17 أطروحة جامعية. خاصة، في «حدائق الضوء» (1991) Les Jardins de Lumière، و«القرن الأول بعد بياتريس» (1992) Le 1er siècle après Béatrice، و«الهويات القاتلة» (1998) Les identités meurtrières. وفي حين يتناول هذا الأخير مسألة الهويات التي كثيرا ما تتصارع وتتقاتل، ولا بد لها من أن تتعايش، فإنه في الكتابين الأولين يعبّر عن تشاؤمه من خلال ناسكين يلقيان نظرة حادة على عالم الأمس. وهي نظرة نجدها أيضا في «خلل العالم». وفي الكتاب يتوسع أمين معلوف في الحديث عن الأزمة المالية ومسبباتها، وعن ما يسميه «النظرة المتطرفة» التي سادت منذ ثمانينات القرن الماضي التي تقول إنه يجب التخلص من كل ما يحد من حرية السوق، وتجاهلت الجانب الاجتماعي في الاقتصاد الذي خضع لما عرف بـ«الليبرالية الوحشية». يتطرق معلوف إلى الطائفية ويرى أنها تشكل نفيا لفكرة المواطنية، وأنه: «لا يمكن بناء نظام سياسي حضاري يقوم على هذا الأساس. فإقامة نظام حصص، يجعل من الأمة قبائل متناحرة. وهذا ما يجري في لبنان». ويتوقف طويلا عند مسألة الأقليات. وهذه المسألة عنده، مع قضية المرأة، تشكل أحد أبرز مؤشرات التقدم الأخلاقي أو العودة إلى الوراء.

يضيق المجال هنا للإحاطة بكافة المواضيع التي تناولها معلوف في كتابه، والتي تتكامل مع مشروعه الكبير الذي يرافقه منذ كتابه الأول « les croisades vues par les Arabes (1983)، مرورا بـ«ليون الأفريقي» (1986) LEON L’AFRICAIN، و«سمرقند» (1988) SAMARCANDE، في بناء جسور التواصل بين الثقافات والحضارات، ولا يتخلى عن معركته الأساسية ضد كل أنواع التمييز: اللون، العرق، الدين، الطائفة، الطبقة. وهنا يتساءل القارئ: هل نحن أمام «مصلح كوني»؟ لا، إنما نحن مع كاتب يكتب كما لو أن الكتابة تغيّر العالم: «أعرف أن هذا مجرد وهم، ولكنه وهم صحي، من دونه لا معنى لا لكتابتي ولا لحياتي».

أسأل أمين معلوف:

* تقول إن الهيمنة الاقتصادية الغربية تآكلت بفعل بروز عمالقة جدد مثل الصين والهند والبرازيل. وهذا، في تقديرك، سيؤدي إلى نشوب صراعات جديدة بين من يملك الثروة ومن يطمح إلى امتلاكها..

ـ ثمة أمور غريبة تحدث في العالم. بالأمس قال الأميركيون للصينيين إنهم يبالغون في الإنفاق على التسلح. كل الناس تعرف أن الولايات المتحدة تنفق على التسلح أكثر بكثير من الصين وأوروبا وبقية الدول مجتمعة! إلى متى ستبقى الولايات المتحدة قادرة على أن تقول لدولة أخرى إنها تنفق أكثر مما يجب على التسلح؟ وبأي حق؟

ثمة أشياء سوف تتغير. فقد شهدت السنوات الماضية تدخلات عسكرية أميركية كثيرة في العالم. هذا أمر غير طبيعي. أنا لست من الذين يخوضون معركة ضد الأميركيين. أحيانا أجد أنهم يقومون بأعمال إيجابية، وأحيانا أخرى بأعمال سلبية. عندما يقومون بعمل إيجابي أصفق لهم، وعندما تجري انتخابات كتلك التي جرت العام الماضي أصفق وأحترم وأقدر. وفي الوقت نفسه ألاحظ أن الولايات المتحدة تقوم أحيانا بتصرفات غير معقولة، مثل التعذيب الذي لا يليق بدولة مثل الولايات المتحدة. ثم إنه غير طبيعي أن دولة مثل أميركا، تملك قواعد عسكرية في عشرات الدول، وترسل جنودها إلى دول كثيرة أخرى ثم تأتي وتقول لغيرها بأن عليهم أن يخفضوا من ميزانيات التسلح! هذا شأن الأسرة الدولية مجتمعة، ولكي تتمكن الأسرة الدولية من القيام بمثل هذه المهمة، لا بد من آلية معينة تجعل من التدخل العسكري، إذا لزم الأمر، مسألة تتم باسمنا جميعا وليست باسم دولة من الدول.

* حاول الأميركيون أن يفعلوا ذلك في العراق ولكنهم فشلوا..

ـ فشلوا، أولا لأنهم يتصرفون في العراق كدولة محتلة وليس كدولة محررة، ثم إن حساباتهم هم ليست حسابات العالم.

* ينقلنا هذا إلى مسألة أخرى تتطرق إليها في كتابك، وهي أن من مخاطر الأزمة المالية أن تفقد الولايات المتحدة تفوقها الاقتصادي، فتركز على تفوقها العسكري للدفاع عن مصالحها ضد كل من يحاول المس بهذه المصالح.

- هذا أمر مقلق. أنا أشعر، وربما أكون مخطئا، بأن الأميركيين، ومنذ سنوات، يستعملون قدراتهم العسكرية للتعويض عن خسارة مكانتهم الاقتصادية والسياسية والمعنوية. هذا أمر خطير. وفي الوقت نفسه ليس ثمة حلول واضحة. الحل الوحيد الممكن، هو أن تكون هناك قوة دولية قادرة على القيام بمهمات عسكرية عند الضرورة. لا يمكن إلغاء التدخل العسكري تماما، ولكن لا يجوز أيضا لدولة من الدول أن تنفرد بمثل هذا التدخل.

* ألا ترى أن عالم القطب الواحد الذي لا يزال قائما منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، مقبل على تغيرات كبيرة من شأنها أن تحوّله إلى عالم متعدد الأقطاب؟

ـ هذا أمر ضروري، ولكنه في منتهى الصعوبة. أقدّر كثيرا الرئيس باراك أوباما، لأني أعتقد بأنه رجل قيم ومبادئ يتمتع بقدرات فكرية كبيرة. ولكن في الوقت نفسه ليس سهلا على المرء أن يتخلى تلقائيا عن موقعه. يصعب على رئيس دولة أن يأتي ويقول إنه على استعداد للتخلي عن قسم من قوته الدولية لمصلحة دولة أو دول أخرى. فالرئيس، أي رئيس، مسؤول أمام ناخبيه وأمام بلده وشعبه، ومن الصعب أن يتصرف بما لهذا البلد من موقع ومكانة في العالم. لذلك أقول، بضرورة إيجاد آلية تحكم العلاقات الدولية، وأعترف، بصعوبة إيجاد مثل هذه الآلية.

* تتوسع في «خلل العالم» بالحديث عن مسألة الحضارة، وتتوقف، خاصة، عند ما يسمى بالمواجهة الحضارية بين الحضارتين العربية ـ الإسلامية والحضارة الغربية. وتقول إنك تنتمي إلى الحضارتين وإنك تبتعد عنهما معا، وتدعو إلى ما تسميه «تجاوز الحضارات»، وبناء حضارة مشتركة. هل تعتقد أن أحوال العالم، تسمح بمثل هذا الطموح؟

ـ أحوال العالم تجعل هذا الطموح أكثر صعوبة، ولكن، أكثر إلحاحا. أعتقد أن كل حضاراتنا قد وصلت إلى حدود معينة، ولذلك بات من الضروري تجاوزها بمعنى من المعاني، وليس بمعنى الإلغاء أو الإخفاء. ما تقدمه هذه الحضارات وتاريخها، تراثها، لغاتها، إنجازاتها إلخ.. من الضروري أن يبقى وأن نحافظ عليه ونحميه. الفكرة ليست إلغاء الحضارات وإيجاد شيء آخر ملتبس نضيع فيه. المقصود هو أن نحافظ على عطاء كل مقومات الإنسانية، غير أن ما وصلت إليه الحضارة الغربية من انغلاق أكثر بكثير مما هو موجود في غيرها من الحضارات. أول شيء أقوله للغربيين هو أنكم إذا كنتم تعتقدون أن بإمكانكم حل مشاكل العالم فأنتم على خطأ، لأنكم لا تعرفون كيفية حل هذه المشاكل، وبالتالي ليس بإمكانكم أن تحكموا العالم، والدليل أنكم فشلتم في حكم العراق وحل مشاكله. بالنسبة إلى أوروبا فإننا نقر بأنها حققت بعض الإنجازات، إلا أنها عجزت عن تخطي مضيق جبل طارق. فالتطور الأوروبي بقي في حدود أوروبا وعجز عن التمدد إلى خارج هذه الحدود ولو لمسافة خطوة واحدة. وإذا ما قالوا لنا إن السبب يعود إلى أن الدول التي تقع على حدود جبل طارق هي دول عربية إسلامية، فأسألهم: هل الغرب نجح في المكسيك وبلدان أميركا اللاتينية بكاملها، وهذه ليست عربية ولا إسلامية؟!

المشكلة تكمن في أن قدرة الغرب على نشر حضارته وصلت إلى حدودها. العالم يستمد كثيرا من حضارة الغرب، ولكن يجب على حضارة الغرب أن تتخطى جانبها الغربي الضيق لكي تصبح دولية وقادرة على استيعاب ما يأتي من بقية أنحاء العالم.

* أنت تقسو في كتابك على العرب، وتقسو أكثر على الغرب. فالغرب متغطرس، وقح، قاس، يعاني من نزعة الهيمنة. وإذا كانت مأساة العرب هي في أنهم أضاعوا مكانتهم بين الأمم، ويشعرون بعجزهم عن استعادتها، فإن مأساة الغرب في أنه توصل إلى لعب دور عالمي لا حدود له، ولم يعد بإمكانه اليوم القيام بمثل هذا الدور، كما أنه لم يعد بإمكانه التخلص منه..

ـ لعب الغرب في تاريخ العالم طيلة خمسة قرون دورا هائلا. لم يعد بإمكانه اليوم أن يلعب مثل هذا الدور. ولكي يلعب الغربيون مثل هذا الدور عليهم أن يتغيروا، أن يغيّروا ما في أنفسهم. أنا لا أقول للغربيين إن عليهم أن يتخلوا عن قيمهم. بالعكس، أقول لهم عليهم أن يحترموا قيمهم في تعاملهم مع الآخرين. إنجلترا في الهند غير إنجلترا في إنجلترا. يتمتع الإنجليز في بلادهم بالديمقراطية وبالحريات. وعندما ذهبوا إلى الهند اختفت في الهند الديمقراطية والحريات. فرنسا في الجزائر غير فرنسا في فرنسا. فرنسا في فرنسا حرية وعلمانية وقيم كثيرة أخرى، في الجزائر تصرفوا على نحو آخر. ولكي لا يبقى الكلام عن الماضي فلنتحدث عن اليوم. انظر كيف تتصرف أميركا في أميركا وكيف تصرفت في العراق! ولعل أبلغ رمز لهذا الواقع هو سجن غوانتانامو. فعبر إقامة غوانتانامو في جزيرة كوبا، يقول الأميركيون إن ثمة تصرفات غير مقبولة في الولايات المتحدة، وإنما هم يسمحون لأنفسهم القيام بها خارج الولايات المتحدة. هذا اعتراف واضح بأن ثمة خطأ في مكان ما. فإذا كان الغرب يحترم قيمه، عليه أن يحترمها في كل مكان، وإلا فإن ثمة مشكلة لا بد من إيجاد حل لها..

* وهذا ما يجعلك تركز على ما تسميه الشرعية الأخلاقية. وتحذر من أن الإنسانية ستبقى في حالة حصار إذا لم تقنع الولايات المتحدة العالم، وهي باتت سلطة عالمية، بشرعيتها الأخلاقية؟

ـ تماما. الأميركيون يلعبون دورا هائلا في العالم. ولتبرير هذا الدور لا بد من توفر أمرين: الأول، أن نقوم جميعا، أميركيين وغير أميركيين، بانتخاب الرئيس الأميركي. وهذا لن يحصل. خمسة في المائة فقط من سكان الأرض ينتخبون هذا الرئيس. بقية سكان الأرض، يقبلون هذا الخيار، على مضض أحيانا وبتفاؤل أحيانا أخرى. لذلك فإن الطريقة الوحيدة التي تمكّن أميركا من اكتساب شرعيتها الأخلاقية في العالم هي أن تحظى سياساتها وخياراتها برضا العالم وقبوله. من ذلك، مثلا، سياسة أميركا في مسألة المناخ التي قد تتفق مع سياسة أميركا بتوفير الرخاء للأميركيين، ولكنها لا تتفق على الإطلاق مع تطلعات العالم ومصالحه البيئية. والأمر نفسه ينطبق على عقوبة الإعدام. الأميركيون يصرون على هذه العقوبة في حين أنها ألغيت في بلدان كثيرة في العالم. وهناك اتجاه قوي لإلغائها في بلدان أخرى. القوانين الدولية تمنع التعذيب، والأميركيون يلجأون إلى ممارسة التعذيب عندما يرون في ذلك مصلحة لهم.. في مثل هذه الحالات، وفي حالات كثيرة أخرى غيرها، أين هي القيادة المعنوية المستمدة من الشرعية الأخلاقية؟ القوة العسكرية وحدها لا تضفي شرعية. رأينا ذلك بوضوح تام في العراق. أين تكمن عظمة أميركا؟ إنها في جامعاتها وفي قيمها. إما أن تتعامل أميركا مع العالم انطلاقا من قيمها، وفي هذه الحالة تحتل مكانة كبيرة، أو تتعامل بالعصا. وقد رأينا حدود استعمال القوة في العراق وفي غيره.

* تتوسع في الحديث عن العالم العربي في كتابك، وتنظر إليه نظرة متشائمة جدا، وتقول إن العالم العربي يغرق أكثر فأكثر في بئر تاريخي، حيث يبدو أنه يعجز عن الصعود إلى السطح. إنه يعيش أسوأ أوضاعه وحالاته.. ويحقد على العالم بأسره، وعلى نفسه.. إنه في مأزق تاريخي.. ألا ترى بصيص أمل؟

ـ ما كتبته في هذا الكتاب عن العالم العربي يمكن أن يفاجئ الغربيين، ولكن لا يفاجئ أحدا في العالم العربي. فما أقوله في الكتاب نقوله في كل جلساتنا. في كل لقاءاتنا، ما أن نبدأ في الكلام عن أوضاع العالم العربي، حتى نأخذ في البكاء.

* إنها ثقافة اليأس..

ـ إنها ثقافة يأس صحيح. نحن نتعرض للضربة تلو الضربة. صار لي خمس سنوات وأنا أنظر إلى ما آلت إليه الأمور في العراق وأبكي. بالنسبة لي العراق هو حضارة قديمة وحضارة حديثة. عراق الكتّاب، عراق الموسيقى، عراق الفن، عراق الفكر، عراق القراء. ثلاثة أرباع دور النشر العربية تنشر لقراء العراق! أنظر إلى ما يجري في السودان. السودان كان ينعم بحياة ديمقراطية، والإعلام يتمتع بحرية كبيرة. كانت هناك حياة سياسية وأحزاب. وأنظر إلى لبنان. هل أوضاع لبنان اليوم على ما يرام وعلى ما نتمنى أن تكون عليه؟ كان يجب أن يكون مدخول الفرد في لبنان عشر مرات أكثر مما هو عليه الآن!

* ثمة أسئلة كبيرة وملحة تقول إنه يجب على العالم العربي أن يطرحها على نفسه: ما المعركة التي يخوضها العالم العربي؟ ما القيم التي يدافع عنها؟ أي معنى يعطيه لمعتقداته؟ ماذا نقدم لغيرنا ولأنفسنا؟ بماذا نفيد الآخرين؟ وهل ثمة ما يقود خطانا غير اليأس الانتحاري، وهو أسوأ أنواع الكفر؟

ـ تحدثنا عن العراق. أنتقد كثيرا، ولا أزال أنتقد تصرفات الأميركيين التي أدت إلى تدمير البلد، والتي كشفت عدم احترامهم حتى للقيم التي ينادون بها. ولكن، في الوقت نفسه، ما الذي يبرر أن يقدم شخص على تفجير نفسه وسيارته في سوق يعج بالناس، لأن هناك أشخاص من طائفة يتسوقون ويشترون أغراضا لعائلاتهم. لا يمكن للأميركيين إجبارك على القيام بمثل هذا العمل. هناك خلل فينا يجعلنا نتقاتل ونذبح بعضنا بعضا. أموال كثيرة تدفقت على العالم العربي. ماذا فعلنا؟ هل بنينا مختبرات وجامعات؟ هل أمنا مستقبل الجيل الجديد الضائع في بلدان العالم بحثا عن مستقبل ما وراء البحار؟ من منعنا من القيام بذلك؟ ننتقد الآخرين، ننتقد الغرب، ننتقد الاستعمار، ننتقد إسرائيل، ولكن هذا لا يلغي مسؤوليتنا. من منعنا من بناء أنظمة ديمقراطية؟ لماذا ليست هناك انتخابات حرة وديمقراطية فعلا في كل العالم العربي، باستثناء بلد أو بلدين، إذا كان لا بد من الإشارة إلى هذا الاستثناء؟ لماذا؟ ما الذي يبرر عدم توفر الحريات؟ ما الذي يبرر عدم استعمال الأموال المتوفرة بفضل النفط أو غيره في بناء جامعات، في بناء إنسان، في بناء صناعات، في بناء مستقبل؟ منذ خمسة عقود كان المدخول الفردي في السودان وفي كوريا هو نفسه. ما الذي يفسر الفرق الكبير في المدخول الفردي اليوم في البلدين. ما الذي يفسر هذا التراجع بمستوى التعايش بين الناس؟

* في كتابه «الجغرافيا السياسية للانفعال» (La Géopolitique de l’Emotion)، يتحدث المفكر الأوروبي دومينيك موازي Dominique Moisi بتوسع عن ما يسميه بـ «ثقافة الذل» المنتشرة في العالم العربي، ولكنه يرى أملا في ما يجري في بعض دول الخليج العربي التي تحاول الدخول إلى العصر ونشر «ثقافة الأمل»، على حد تعبيره. هل تشاركه في هذا الرأي؟

ـ لم أرَ ما يضيء عندي الأمل بالفعل. سأواصل البحث، وسآمل أن يأتي الزمن الذي يمكن فيه للمرء أن يعيش في العالم العربي، وأن يحكي، ويعلو صوته، ويتصرف كمواطن، من دون خوف أو وجل، وأن يكبر أولاده ويقول إنه يريد منهم أن يعيشوا في بلادهم لأن بلادهم تؤمّن لهم مستقبلهم ولا داعي للسفر إلى أوروبا وأميركا بحثا عن الجامعات والعلم، وإن بإمكاننا أن نفخر بإنجازاتنا في هذه الصناعة أو تلك. نملك كل المقومات لكي نتقدم، ولا عذر لنا، وإذا ما أدى هذا الكلام الذي أقوله إلى تحريك نسبة واحد على ألف مما يجب أن يتحرك، أعتبر نفسي أنني أنجزت شيئا ما.

* في كتابك «الهويات القاتلة» (1998) تطرقت إلى مسألة تعتبرها مركزية، وهي مسألة الهوية، معتبرا أن الإنسان في النهاية هو محصلة مجموعة هويات. وفي «خلل العالم» تعود إلى الهوية وتقول إن البلدان العربية ـ الإسلامية تعاني أكثر من غيرها مما تسميه التحول من الأيديولوجيا إلى الهوية كعامل تفريق بين الناس.

ـ لغاية انهيار جدار برلين، كان النقاش في العالم في شكل عام يدور حول الشيوعية: إما مع الشيوعية أو ضدها، إما مع الماركسية أو ضدها. كان هذا هو الجو الفكري في العالم. بعد انهيار النظام السوفييتي، فقدَ هذا النقاش أهميته، ولم يحل محله نقاش آخر. وعمليا اعتبر كثيرون ممن كانوا يشاركون في هذا النقاش أن كل هذا الجدل لا مبرر له. المهم، عمليا، هو الانتماء. وهذا صحيح في كل مكان في العالم. اليوم ثمة تراجع في مستوى النقاش الفكري. كان محور نقاشات العالم يدور حول النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. أحيانا كان هذا النقاش يتخذ طابعا عنيفا، وأحيانا أخرى سلميا. ولكنه كان مطروحا منذ أواخر القرن التاسع عشر وطيلة القرن العشرين تقريبا، وكان يدور حول الاشتراكية والرأسمالية. هذا النقاش اختفى. ما الذي حل محله؟ لم يحل محله نقاش بين أيديولوجيات. انهارت الأيديولوجيا فصار الاهتمام ينصب على الانتماء. والمسألة لا تقتصر على الأفراد، بل هي تشمل الدول. كان الاتحاد السوفييتي يدعو إلى الاشتراكية، اليوم تعتبر روسيا نفسها أنها دولة أرثوذوكسية. الانتماء الديني الذي ازداد أهمية في مختلف أنحاء العالم، لا يتحمل نقاشا. لا يمكنك، مثلا، أن تطلب من شخص بروتستانتي وآخر أرثوذكسي أن يناقشا مسألة أي مجتمع يريدان. النقاش، في مثل هذه الحالة، غير ممكن. والتأكيد على الانتماءات الدينية يزداد أكثر فأكثر في كافة المجتمعات. وصار الناس يعيشون هذه الانتماءات بتوتر وبشكل مرضي. وبالتالي، ازداد التعايش بين الناس صعوبة. وهذا ما يجعلنا نقول إن نهاية صراع الأيديولوجيات أدى عمليا إلى تصاعد الانتماءات.

* مع مثل هذا الدور للهوية، ألا ترى أن الهوية تتحول، هي الأخرى، وبشكل من الأشكال، إلى أيديولوجيا؟

ـ هي أيديولوجيا بشكل ما، ولكن الفرق الأساسي بين الانتماء الديني والأيديولوجيا هو أنك تختار هذه الأيديولوجيا أو تلك، في حين أن هويتك الدينية أو المذهبية تولد معك. أنت لا تختار هذه الهوية. تختار طريقتك في ممارستها وفي التعامل معها.

* يقودنا هذا الكلام إلى التطرق لموضوع آخر هو الطائفية السياسية. تقول إن «الطائفية هي نفي فكرة المواطنية، وإنه لا يمكن بناء نظام سياسي حضاري يقوم على مثل هذا الأساس، وإن إقامة نظام حصص يجعل من الأمة قبائل متناحرة». هذا ما يجري في لبنان اليوم.

ـ هذا ما يجري في لبنان منذ زمن طويل، ومن المفارقات أن هذا امتد إلى مناطق أخرى، كنا نعتقد أنها بمنأى عن الطائفية. رأينا، بعد لبنان، ما حصل في العراق ويوغوسلافيا، وأماكن أخرى. أعتقد أن الطائفية تبدو حلا في حين أنها هي المشكلة. وقد تكونت عندي، بعد سنوات طويلة من العيش في مجتمع تعددي، فكرة أنه لا بد من مراعاة حساسيات المجموعات المختلفة ضمنيا وليس علنا. عندما يتألف مجتمع من حساسيات مختلفة، وأنا هنا لا أتحدث عن لبنان وإنما بصفة عامة، الحل الأفضل هو أن يتنبه المجتمع للفروقات، ويفهم معانيها وحساسياتها ويأخذ قراراته على هذا الأساس. مثلا: عندما يتم تشكيل حكومة في بلد تعددي، لا داعي للإعلان عن طوائف ومذاهب أعضاء الحكومة، وإنما أن يتم في اختيار الوزراء مراعاة الكفاءة طبعا والحساسيات الدينية التي يتألف منها المجتمع. ما الفرق؟ الفرق ليس شكليا فحسب. عندما تكون مسألة المراعاة ضمنية وليست توزيع حصص، يشعر الجميع بالارتياح. كل الحساسيات تشعر بأنها ممثلة في الحكومة، في الإدارة، في قطاعات المجتمع.. إلخ، ويجعل هذا المواطن يشعر بأن له مكانته في مجتمعه. أما الدخول في مسألة توزيع الحصص فهو الدخول إلى جهنم، إذ يقوم كل فريق بالمزايدة على غيره، وبالمطالبة بحصة أكبر.