مقاربات جديدة لحروب لا تنسى

العالم الإسلامي كان على درجة عالية من المستوى الثقافي مقارنة مع الصليبيين

«البعيدون»، رواية بهاء الدين الطود دار إفزارن للطباعة والنشر طنجة ــــ المغرب متوسط
TT

من المعروف أن الحروب الصليبية قدمت للمؤرخين الذين تناولوا موضوعاتها كل ما يحتاجون إليه من تفاصيل: البطولة، والبسالة، والإخضاع والسيطرة، والمذابح، والجشع والسذاجة. لكن تواريخ الحروب الصليبية، اعتياديا، عكست العصر الذي كتب فيه هؤلاء المؤرخون تلك التفاصيل.

يرى الكاتب جوناثان فيليبس أن الحروب الصليبية في ذروتها نظر إليها كمأثرة زمانها، ولكن بعد انهيارها، بدا الصليبيون يمثلون كل شيء فاسد حول البابوية والبارونية. وخلال عصر التنوير لم يكن الصليبيون أكثر من قطاع طرق أو قراصنة قتلة. بعض الروايات الأوروبية استعادت تاريخهم وصورتهم كجنود مسيحيين مقدامين، وهي صورة يشترك فيها رجال الدولة الفرنسيون والبريطانيون والجنود الذين اجتاحوا الشرق الأوسط في 1917 - 1918. إضافة إلى ذلك هناك كتب تاريخية تعاملت مع هذا الموضوع بأشكال درامية مختلفة. وبعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، حينما تحدث الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش عن الحرب ضد الإرهاب، تحدث عنها باعتبارها حربا صليبية، وبهذا أعاد ذكرى الصليبيين الذين ذاعت شهرتهم مرة أخرى كاستعماريين غربيين جشعين. المؤرخون الأكاديميون المحترمون دائما ما «يتحاشون مثل هذا التحريف الغريب الذي أتى به جورج بوش».

بصفة عامة، يطلق اسم الحروب الصليبية حاليا على مجموعة من الحملات والحروب التي قام بها الأوروبيون منذ أواخر القرن الحادي عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر (1096 - 1291)، وكانت بشكل رئيسي حروب فرسان، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى الذين اشتركوا فيها وتواروا تحت رداء الدين المسيحي وشعار الصليب من أجل الدفاع عنه وذلك لتحقيق هدفهم الرئيسي وهو الاستيلاء على أرض المشرق الغنية بالثروات. سمي الصليبيون في النصوص العربية بـ«الفرنجة» أو «الإفرنج» وسميت الحملات الصليبية بـ«حروب الإفرنجة»، أما في الغرب فقد سمي الصليبيون بتسميات عدة، منها «مؤمنو القديس بطرس» أو «جنود المسيح»، ورأى كل الذين كانوا مندفعين بدافع الدين من الصليبيين أنفسهم كحجاج واستخدم اسم «الحجاج المسلحون»، مع أن الحجاج، في العادة لا يحملون السلاح. وكان الصليبيون يقسمون على أن يصلوا إلى القدس ويحصلون على صليب من قماش يخاط على ملابسهم، وبهذا أصبح هذا الصليب إشارة إلى مجمل الرحلة التي يقوم بها كل صليبي. أما أول ظهور لمصطلح «الحرب الصليبية» أو «الحملة الصليبية» فيبدو أنه كان على يد مؤرخ بلاط لويس التاسع عشر، لويس ممبور سنة 1675. وشكلت الحروب الصليبية سلسلة من الصراعات العسكرية ذات الطابع الديني خاضها كثير من دول أوروبا المسيحية ضد التهديدات الخارجية والداخلية. اشترك في هذه الحروب الموجهة ضد المسلمين وثنيون من السلاف والمسيحيون الروس والأرثوذكسية اليونانية والمغول والأعداء السياسيون للبابوات، وكانت في الأصل لاسترداد القدس والأراضي المقدسة من المسلمين، والأساس الذي انطلقت منه الاستجابة لدعوة الإمبراطورية الأرثوذكسية الشرقية لمساعدتهم في الوقوف ضد توسع المسلمين السلاجقة في الأناضول.

المؤلف جوناثان فيليبس يعرض في كتابه هذا «المجاهدون: تاريخ حديث للحروب الصليبية»، مفهوم الحروب الصليبية بتسلسل تاريخي منذ البداية وحتى العصر الراهن، محللا لها بشكل أكاديمي وأسلوب روائي أنيق. لعل من أهم الدوافع للحرب الصليبية هي الدعوة البابوية لها التي بدأها البابا أوروبان الثاني في نوفمبر (تشرين الثاني) 1095 بعقده اجتماعا لرجال الدين في مدينة كلير مون فران الفرنسية. وقد برر كثير من هذه الحملات بشعار «إرادة الرب» عن طريق الحج إلى الأرض المقدسة للتكفير عن الخطايا، وكانت الدعوات تروى عن مزاعم اضطهاد المسلمين للمسيحيين في الأرض المقدسة وتدعوا إلى تحريرهم، ثم تراجعت هذه الدوافع الدينية مع مرور الوقت لتصل إلى حد تدمير مدينة القسطنطينية المسيحية الشرقية في الحملة الصليبية الأولى والرابعة على أيدي الصليبيين أنفسهم. هذا إلى جانب دوافع أخرى مثل قانون الإرث الذي كان مطبقا في أوروبا والنظام الإقطاعي الذي كان سائدا آنذاك.

كانت العلاقات الخارجية لأوروبا مع المد الإسلامي لا تبعث على الطمأنينة. فالمسلمون الذين قاتلوا البيزنطيين منذ القرن السابع الميلادي قد وصلوا إلى جبال البيرينيه في شمال إسبانيا وجنوبي فرنسا بعد أن سيطروا على شمالي أفريقيا، لذا أخذت المناطق الأوروبية المتاخمة لحدود دولة الأندلس الإسلامية بشبه جزيرة ايبيريا وجزيرة صقلية تشعر بتهديد السيطرة الإسلامية، الأمر الذي ساهم في تجنيد الأوروبيين بدافع الحماية والدفاع عن أراضيهم.

أغلب المؤرخين المحدثين الآن يعتبرون الحروب الصليبية أكثر من كونها مسألة استيلاء على أرض فلسطين وسقوط الممالك الصليبية، إنهم ينظرون إليها بمفهومها الواسع في إعادة السيطرة على إسبانيا وصقلية واسترجاعها من أيدي المسلمين، ثم الحملات الوحشية ضد المنشقين على الكنيسة في فرنسا وعلى اللتوانيين في الشمال والحرب على منافسي البابا في أوروبا. يبين المؤلف فيليبس كيف أن الإسلام كان يمتلك مفهوم حرب الجهاد منذ البداية، بينما المسيحية لم تجد رؤيتها الخاصة إلا في أواخر القرن الحادي عشر مع الحملة الصليبية الأولى، ويرى أن الأسطورة الحديثة القائلة إن الحروب الصليبية أجمعها كانت حملات سلب ونهب وجمع غنائم هائلة، قد دحضت من خلال حقيقة أن الثروات الضخمة غرقت وضاعت في الشرق الأوسط من دون أن تسترجع. يوضح المؤلف، أيضا، أن العالم الإسلامي كان على درجة عالية من المستوى الثقافي مقارنة مع الصليبيين، وكانت هناك حقبة ثقافية عربية متميزة اشتملت على ترجمات أمهات أعمال علماء الإغريق وفلاسفتهم، فيما كان الغرب المسيحي يترنح مرهقا للخروج من العصور المظلمة. غير أن العالم العربي تشظى في1099 ميلادية ليدخل في حرب أهلية طويلة الأمد، وقسم إلى ولايات يحكمها أمراء حرب أتراك قساة، وهي حالة لم تكن تشبه حالة الصليبيين. ولكن في كلا المجتمعين «تصاحب الأدب الرفيع الراقي مع العنف والقسوة».

عام 1099 وصل الصليبيون أخيرا إلى القدس، تحثهم طوال الطريق الرؤى والمعجزات ويذبحون غالبية السكان. أصبح غودفري دي بولون حامي الضريح المقدس، يشايعه شقيقه بالدوين الذي أصبح ملكا على القدس. يخبرنا المؤلف كيف أن القيادة الإسلامية تصرفت في البداية بحذر إزاء سقوط مدينة القدس: «لقد استغرق الأمر نحو نصف قرن لكي تنجح الممالك الصليبية في إحداث الضرورة السياسية لحرب إسلامية مقدسة». أواخر عام 1170، وحدت الشخصية الفذة والقائد غير الاعتيادي صلاح الدين الأيوبي سورية ومصر ضد الصليبيين في القدس. كان ريتشارد قلب الأسد على وشك كسب المعركة، «كان جنديا عبقريا، لكنه كان يحارب رجل دولة عبقري»، يكتب فيليبس: «وكلاهما، هو وصلاح الدين، كان يتوسع بشدة من خلال حرب لا يستطيع أحد منهما كسبها». حينما سقطت القدس وتوفي صلاح الدين واجه خلفاؤه أكثر من هجوم صليبي عنيف على مصر، والنتيجة كانت انتهاء حكم سلالة صلاح الدين وبروز سلسلة من أمراء الحرب الدمويين. السلطان بيبرس، الذي ولد عبدا، برز ليصبح ملك دولة المماليك. المؤلف يأتي بمادة تاريخية مهمة وملتهبة ويورد أسماء شخصيات مدهشة ويصور مشاهد اندفاع الفرسان ولمْع السيوف في الشمس السورية، ولكن أيضا يأتي بتحليلات ووجهات نظر أفضل مما هو مدون أكاديميا.