رواية تطرح من الأسئلة أضعاف ما تمنحنا من الإجابات

«البعيدون» لبهاء الدين الطود

TT

يرتبط الراوي مع إدريس بصداقة تقوده إلى الموسيقى الكلاسيكية، بينما يقود صديقه إلى رقص الفلامينكو الذي يتم في المغارات التي يواظبان عليها أكثر من الدارسة، صارا يميزان بين النغمات المالقية والغرناطية، وما قد تنفرد به قادس أو بلد الوليد، ويذوبان، بل يتوحدان مع كل لون، أحيانا كانا يحسان بالعازفين، وقد قدموا من تلك الحقبة العربية يجترون حزنهم وأنينهم على شيء عزيز ضاع ولن يعود.

نحن في إسبانيا، وها هم الطلاب قد تخرجوا وضاعوا في البلدان، وبعد ثلاثين عاما نجد الراوي يبحث عن صديقه إدريس يبلغ الأصدقاء ويراسلهم، إلى أن يأتيه خبر عنه بأنه يعمل اليوم محرّرا في مجلة إنجليزية تعنى بالاستشراق تصدر شهريا في لندن تدعى «فواصل»، فيقرر الراوي زيارته في مقر المجلة بـ«مافليت ستريت». وهكذا كان، فإدريس يقبع أمامه لحما ودما وحقيقة قائمة كالشمس والقمر والأرض.

وبعد أن يذهبا إلى شقة المغربي إدريس يصفه ويصف بيته ولوحاته ومكتبته الموسيقية، وحين يسأله عن بيلار يقرّر إدريس أن يهديه مذكراته، لأنه سيجد أجوبة عن كل ما يدور عن أسئلة في ذهنه، خوفا من حرقها. «وحين ودعت إدريس في مطار (هيثرو) كنت أحمل في حقيبتي غلافا كبيرا أبيض ضم مذكراته...».

في المذكرات سنجد إدريس يرحل إلى لندن، وقبل ذلك يصف حالته وغربته في مدريد، وتعود بنا الذاكرة من إسبانيا إلى المغرب ليفصل في أثاث البيت، ويعود بنا إلى تعرفه على بيلار فيصفها، ويصف قصة تعرفه عليها، وفي أثناء ذلك يمرّ على خوصي عباد، الصديق الذي تعرف عليه في مدريد، فيصفه بقوله: «السيد عبّاد إشبيلي ينحدر دون شك من سلالة بني عباد، فأنفه الشامخ وبشرته القمحية تجعلانك تجزم بأنه سينطق العربية، وبأنه قادم لتوّه من إحدى قبائل السهول المغربية».

يصل إدريس إلى لندن بعد رحلة طويلة عبر أمستردام، وينجح في الاختبار الذي حدّده مدير «فواصل» التي تهتم بالاستشراق، ثم يأخذه إلى منزله ليريه كتبا ضخمة عن الاستشراق، لكنه ما إن يغادر المنزل حتى يداهمه الشوق إلى دار مغربية، رائحة الحصير في صحنها، ودالية خضراء يخترقها شعاع من شمس بلده، زقزقة طائرين يزيح أحدهما الآخر ليستأثر بحبة عنب قبل نضجه، وتكون الغلبة للأقوى، كما هو شأن الإنسان وحتى الدول. «عشر سنوات وصدى تهليلات المؤذن في تلك الصومعة اللصيقة بطفولتي يكبر في أذني وقلبي، يحاصرني حنين لحقول ضفتي الوادي الجديد، نسوة يغسلن الصوف هناك في الضفة الأخرى، يافعا كنت أصيد البليق والعصفور والبرطال وأستحم مع رفاقي في المحراب قبيل غروب الشمس، ثم أعود إلى المدينة عبر عرصات وممرات تكسو جنباتها ألوان خضراء وروائح عذراء ظلت حبيسة ذلك الزمن الأسطوري الغابر».

«البعيدون» قصة أحد أولئك الذين ذهبوا في حوارهم الطويل مع الآخر، ولكن ها هي ذكريات الماضي تنبع بين الحين والآخر، تذكر الإنسان بجذوره وبتلك الرائحة التي لا يخمد لها قرار، يسأله صاحب دار «فواصل» عن خطابه فيجبيه إدريس: «إن الحضارة الأوروبية ليست إبداعا عبقريا فريدا يستند إلى المصدر اليوناني والروماني وحده، وإنما هناك حضارات أخرى ساهمت إلى جانبها». وهنا يوافقه صاحب المجلة، لكنه ينبهه إلى توخي الموضوعية الحقّ، باسترشادها، واستهدافها، لأن المجلة تسعى إلى التنوير الموضعي للحفاظ على مستواها الفكري الجاد. وكانت ابنة صاحب الدار تراقب كل كلمة يقولها.

الكاتب يبدع في لغة السرد، وبين قلّة من الشخصيات تدور أحداث الرواية، وإذا كانت الرواية تضيع في وصف حياة الطلبة، بين حياة لاهية تقوم على المغامرة والبحث عن السعادة الواهية، فإنها تنقلب حياة عمل وجدّ وإخلاص لهذا العمل في جزئها الأخير، وخلال ذلك يعرفنا الكاتب على الشوارع والمطاعم والحدائق والقصور وأماكن عرض اللوحات وسماع الموسيقى في مدريد ولندن وأمستردام، ليضفي جوّا من الألفة المحببة إلينا».

إدريس يظلّ مصرّا على فلسفته، وتتزوّج هي الصديق الذي يدرّس معها في كلية أمستردام، لكن «رغم أنفي ستظل مشعا في وجداني وعواطفي وعقلي أيضا». على عادتنا نحن الشرقيين، عندما تقع امرأة في حبنا، وجميع النساء اللواتي ستحيط بهن الرواية سيقعن في حب إدريس بينما هو لا يلتزم بواحدة منهن. فهذه إيستر، تقع أيضا في حبه، ويحاول أن ينتقم منها، ويشبهها بنفرتيتي. كان قد شبه بيلار بها في أحد الأيام فردت عليه، «ومن تكون نفرتيتي، هل هي ممثلة إيطالية أو أميركية؟...»، بينما إيستر تجيبه: «إذا كنت تقصد نفرتيتي، ذاك التمثال الموجود في متحف برلين، فأنا أشكرك، أما إذا كنت تشبهني بصورتها المنقوشة على مقابر تل العمارنة في مصر، فسأغضب منك». إجابة منطقية، تدل على جهل إحدى المرأتين وعلى معرفة الأخرى، ومن أجل ذلك تدين كل أنواع التعصب العرقي والمذهبي والديني.

هنا تنتهي المذكرات، ويسأل الراوي نفسه: «إنه يعمل في الطبّ. لماذا أهداها إياها إدريس؟»، ويراسله ولكن ليس من مجيب، وبعد فترة من الزمن يعثر على إدريس في طنجة في شارع محمد الخامس في اتجاه مقهى غرناطة بساحة الخليفة مولاي المهدي، «على الرغم من هزاله ومن مرض البرص الذي شوّه ملامحه، عرفت أنه إدريس». إنه يريد جواز سفره ليعود إلى لندن، لأن ابنته هناك، وأطلق ساقيه وسط أمطار طوفانية، وكأن ذعرا أصابه من مكروه متربص به، ويركض وراءه الراوي ولكنه لا يراه.

نهاية لائقة ببطله إدريس، واحد مقتلع الجذور، شوهته الحضارة الأوروبية، وآخر متمسك بالوطن، يعيش حياة المترفين.

الكاتب أو الراوي يجذبنا من السفر الأول، لنكتشف عند السطر الأخير من روايته أننا كنا طيلة الوقت نقع تحت تأثير سيطرة روائي قدير يمسك كل الخيوط الروائية في يده، إنه يسامرنا بذكريات جميلة حتى الثلث الأخير منها، ثم تنقلب الآية، فإذا هي معاناة وألم مشغولين بعناية. رواية تخفي تحت مظهرها البسيط قضايا عميقة وشائكة، وتطرح من الأسئلة أضعاف ما تمنحنا من الإجابات.