يرى الدكتور إبراهيم البليهي، المثقف السعودي البارز وعضو مجلس الشورى، أن المجتمع السعودي يعيش في هذه الفترة طفرة إبداعية مدهشة، غير أنها محصورة في فئة المبدعين ولم تصبح مكونا من مكونات المجتمع، وهذا الواقع ليس حصرا على المجتمع السعودي بل تتشابه فيه المجتمعات العربية كافة. وهو يعتقد أيضا، في حواره هذا مع «الشرق الأوسط»، أن النسقية الثقافية تخيم على العالم العربي «حيث تتشبع الأمة العربية بأحكامها وإنجازاتها الماضية كما تعيش حالة من وهم الكمال أدت بها إلى أن تكون عالة على الأمم المزدهرة، وأصبحوا بذلك من معوقي الازدهار العالمي».
وفي ما يلي نص الحوار الذي جرى في الرياض:
* كثيرا ما تطرح قضية عدم استفادة الأمة العربية من مبدعيها كما استفادت وتستفيد المجتمعات الغربية، أين يكمن الخلل في رأيك؟
- نعم، فهذه حقيقة أكيدة وواضحة وصارخة سواء في الماضي أو في الحاضر. إن معضلة المفكرين والمبدعين العرب ليست ذات وجه واحد وإنما هي ذات تشعبات كثيرة، فالعرب لا يكتفون بعدم الاستفادة من مبدعيهم وإنما يذيقونهم مرارات التجاهل وعقوبات النبذ والعزل والتهميش وربما التكفير أو التخوين.
إن المبدع العربي يعيش عزلة خانقة، وهو مغبون معنويا وماديا، ورغم تميزه فإنه يعامَل عكس ما يستحق وضد ما يجب أن يكون. إنه ينفق دخْله الضئيل لشراء الكتب والحصول على مصادر المعرفة أكثر مما ينفق على جوانب حياته، وبعد أن يمضي عمره في تكوين ذاته معرفيا وإبداعيا لا يجد ناشرا إلا بعد معاناة محبطة، وإذا نشر إبداعه خرج الكتاب بنسخ محدودة جدا، كأن المبدعين يعيشون في كوكب آخر، فهم يقرأون لأنفسهم ولزملائهم والمماثلين لهم، ومن هنا تأتي ضآلة عدد النسخ التي تُطبع من أي كتاب في العالم العربي مهما بلغت أهميته، فالمجتمع العربي مستغرق في ترديد ما قاله الأسلاف في العصور القديمة، أما الأخلاف المبدعون فهم خارج النسق السائد وقد حُشدت ضدهم العقول والعواطف.
* تقول في بعض كتاباتك إن التقدم أو التقهقر ما هو إلا وليد للتنوع الثقافي وما يتضمنه من تنوع في أنماط التفكير. ما كنه التنوع الذي تقصده؟ وكيف يمكن تحقيقه؟
- ليس هذا ما قلته، وإنما الذي قلته ولا أزال أكرره أنه لا يوجد عقل بشري واحد، وإنما تتنوع أنماط العقول بتنوع الثقافات، فبعض الثقافات ذات كيانات مغلقة وتنشئ أجيالها على الاجترار وتقديس الماضي وتحقير منجزات العصور الحديثة، ومن هنا يستمر التخلف. أما الثقافات المفتوحة فتنشئ أجيالها على الاستزادة الدائمة من الأفكار الخلاّقة والعلوم الدقيقة وأساليب الحياة المتطورة، فالناس لا يولدون بعقول ناجزة، وإنما يأتون إلى الدنيا بقابليات فارغة فتمتلئ هذه القابليات بما تمتصه من البيئة الثقافية السائدة خلال سنوات الطفولة، فالعقل يحتله تلقائيا الأسبق إليه فإذا تشكل صار من الصعب جدا تخليصه من هذا التشكل التلقائي المبكر.
إن الثقافات الإنسانية شديدة التباين وبمقدار تباينها يكون تباين العقول وطرق التفكير ومنظومات القيم والاهتمامات ومحاور النشاط والعادات.
إن المجتمعات تتناسل ثقافيا مثلما تتناسل بيولوجيا ويستمر هذا التناسل الثقافي مهيمنا على المجتمعات، فالأفراد في المجتمعات المتقدمة لم يولدوا بقابليات أفضل من قابليات الأفراد في المجتمعات المتخلفة وإنما الخلل في القوالب الثقافية.
النسقية الثقافية
* ذكرت ذات مرة أن الإبداع لا يكون إلا من خارج الأطواق النسقية، ماذا تقصد بذلك؟
- إن الاختلافات بين الثقافات هي اختلافات نوعية، ومهما كانت مظاهر التواصل بين الثقافات في هذا العصر، فإن بعض الثقافات المنغلقة ما زالت تؤثر ولا تتأثر، بدليل أن العلاقات والأوضاع في العالم سارت نحو الأسوأ في العقود الأخيرة رغم كل ما تعج به المجتمعات المزدهرة من أفكار خلاقة وإنجازات مذهلة، فالثقافات القديمة كيانات مغلقة ومحمية بآلاف الحصون التي توصد عقول أبنائها عن قبول أي شيء جوهري من خارجها. فعقول أفراد كل مجتمع وكل أمة تتشكل في مرحلة الطفولة.
وبهذا التشكل يصبح الأفراد في أي مجتمع محكومين بمنظومات من القيم والتصورات والممنوعات والاهتمامات، فلا يفكرون إلا بواسطتها، فهي التي تحدد لهم المقبول والمرفوض وهي التي تعرف لهم الشريف والوضيع وهي التي تحدد الأفضليات، وتؤكد على المهم وغير المهم والأكثر أهمية، فالإنسان يتبرمج في طفولته ثم تسيره هذه البرمجة تلقائيا، فالأفراد يتشكلون بالامتصاص التلقائي.
* كيف تتكون النسقية الثقافية؟
- التباينات الهائلة بين الأمم سببها تباين الثقافات وليست نتيجة لاختلاف عرقي أو جيني، فهذه خرافة قد بددها العلم.
فعلى سبيل المثال الطفل الياباني يمتص من أبويه وأسرته وبيئته كل ما تعج به البيئة اليابانية ومحال أن يفاجأ أهله، وهو لم يغادرهم ولم يعش في بيئة أخرى، بأنه يتكلم غير لغتهم أو يدين بغير دينهم، فهو نتاج تلقائي للقوالب الثقافية التي صاغته، فإذا كبر قد يتكلم لغات عديدة لكن طريقة تفكيره ومنظومة قيمه واهتماماته وتفضيلاته وأسباب القبول أو الرفض عنده ستبقى كما هي مهما تنقل في العالم، إلا في حالات نادرة يستطيع الفرد النابه أن ينفك من برمجة الطفولة.
* أنت ترى أن المجتمعات لا تزدهر إلا بمقدار استجابتها للرواد المبدعين الذي يقتحمون المجهول ويقدمون على التجاوز. ألا يحدث ذلك إلا في وجودهم؟
- إن كل التحولات الحضارية خلال التاريخ الإنساني كله نهضت بجناحين: جناح الريادة الإبداعية، وجناح الاستجابة الاجتماعية. فإذا لم يتحقق هذا التكامل العضوي بين الريادة والاستجابة فمحال أن يتقدم أي مجتمع متخلف. إن الأفراد المبدعين ظهروا ويظهرون في كل المجتمعات لكن الثقافات التي تتوهم الكمال والاكتفاء لا تستجيب لمبدعيها فتبقى كما هي متخلفة أو تزداد تخلفا بفعل قانون الأنثروبيا، وليس العرب استثناء بل هم الأكثر ادّعاء للكمال، وهم الأشد توهما للاكتفاء، لذلك لم تستطع تدفقات الأفكار وأنهار العلوم وتطورات النظم أن تغير أي شيء في العالم العربي. فكل المظاهر الحضارية وشكليات الازدهار المؤقت، مجلوبة من المجتمعات المزدهرة. نحن - العرب - ما زلنا عالة على المزدهرين، بل لم نكتفِ بذلك وإنما أصبحنا نعوق حركة الازدهار في العالم كله.
* هل ثمة مثال لما تقول؟
- لقد أعدنا العالم إلى عهود القرصنة التي ظنها العالم المتحضر من مخلفات العصور المظلمة، ولكننا أعدناها سافرة وصارخة، فقراصنة البواخر كله من الصوماليين العرب، وبالتالي فالتخلف لا علاقة له بالزمن، ففي هذا العصر يوجد من يفكرون بمستوى العصر الحجري أو أسوأ.
* ما تقييمكم للإبداع السعودي بمختلف أجناسه؟
- يعيش المجتمع السعودي حاليا طفرة إبداعية لكنها محصورة بفئة المبدعين ولم تصبح مكونا من مكونات المجتمع فهي طفرة تعيشها الفئة المبدعة الصغيرة وعدد محدود من القراء المستنيرين.
إنها طفرة مدهشة قياسا بعدد سكان السعودية، والعمر القصير لهامش الحرية المتاح، لكن المبدعين العرب عموما يعيشون خارج النسق، لذلك يقرأ بعضهم لبعض، أما المجتمع فهو منصرف عنهم وعن إبداعهم إلى اهتمامات أخرى لا علاقة لها بالإبداع ولا شأن لها بالمبدعين، بل هي في الغالب ضد الإبداع. فالروائي الذي أفنى عمره في تكوين ذاته معرفيا وفنيا لا يطبع من روايته سوى عدد محدود من النسخ ومعظمها لا يقرأ، فالاستجابة للإبداع لا بد أن تكون استجابة واسعة وعامة ولا بد أن يعيش المجتمع الأفكار كأسلوب حياة لتكون مؤثرة، أما أن يقتصر تداول الإبداع وممارسته على فئة هامشية فليس له أثر فاعل.
* يشتكي بعض السعوديين من إهمال النقاد لإبداعاتهم بينما يرى بعض النقاد أنها لا تستحق النقد.
- كما قلت، شهد المجتمع السعودي طفرة إبداعية غير عادية خلال السنوات القريبة وكأن المواهب الإبداعية كانت في حالة كُمون متحفز، فما إن حصل هامش الحرية الطارئ حتى تدفقت العطاءات الإبداعية خصوصا في المجال الروائي، وهو مجال خصب وذو دلالات كبيرة، فالفن الروائي فن رفيع ويمثل مستوى ناضجا من مستويات التحضر. إنه فن شديد التركيب والتعقيد، فالإبداع فيه يتطلب الكثير من النضج المعرفي والاطلاع على منجزات الأمم المزدهرة والإحساس بالفردية والفهم للطبيعة البشرية وإدراك ما يموج في المجتمع من تفاعلات.
إنه فن مهم ويكشف ظواهر اجتماعية لا يدركها سوى الخبير ذي العقل اللاقط، لكن استجابة المجتمع لا تتناسب مع هذه الوثبة الإبداعية. أما عن النقد فإن عدد النقاد المدربين في السعودية ما زال محدودا جدا وليس بوسع هذا العدد القليل أن يلاحق هذه الطفرة الإبداعية الكثيفة بالدراسة والنقد، لأن نقد أي عمل إبداعي يتطلب وقتا كافيا للدراسة والفحص والتحليل والوصول إلى تقييم موضوعي ثم إعلان ذلك بكتابات نقدية تحتاج الكثير من التأمل والجهد والوقت.
* ذكرت في بعض مقالاتك أن المبدعين الأكثر إبداعا وانتشارا وتأثيرا في العالم لم ينالوا حظا وافرا من التعليم، كيف يكون ذلك؟
- أنا أدعو إلى مضاعفة الاهتمام في التعليم وإلى خلق الرغبة التلقائية في المعرفة، فالتعليم ليس إعطاء معلومات، ولكنه تكوين اهتمامات وإثارة أفكار وتدريب على التفكير السليم المنظم وخلخلة مسلمات وطرح تساؤلات، وليس تعويدا على الترديد والاجترار، فلم أقُل إن البلاد لا تحتاج إلى تعليم، وإنما قلت وأقول إن العلم ليس معلومات وإن التعلم لا يأتي قسرا ولا يؤتي الثمار المرجوة إذا استمرت الأجيال تتجه إلى التعليم اضطرارا من أجل الشهادة والتأهيل الوظيفي.
العقل الذي لا يشتاق تلقائيا إلى المعرفة الممحصة لن يفيده التعليم الاضطراري. وتدل إحصاءات النشر في العالم على أن العرب هم الأقل إقبالا على القراءة التي تأتي بدافع ذاتي تلقائي وهذا برهان صارخ على أننا نتعلم قسرا واضطرارا لا اندفاعا وابتهاجا، ومحال أن يتحقق التعلم بهذه الرؤية.
* الطيب صالح والتعليم
* كنت قد ذكرت أن صاحب رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» الروائي الكبير الطيب صالح لا يحمل شهادة جامعية، غير أنه كوّن ذاته تكوينا متينا، ونوّع مصادر معارفه. والمعروف أن الطيب صالح يحمل شهادة عليا (الماجستير) في القانون الدولي، فكيف يحصل على شهادة عليا دون أن يحصل على شهادة البكالوريوس الجامعية؟
- ما قلته قد تحققت منه قبل أن أكتبه، لكن الطيب صالح مبدع استثنائي، لذلك كتب عنه كثيرون ونقل بعضهم عن بعض، فكثرتْ الأخطاء في ما يتعلق بتعليمه. ولأنه مبدع عالمي وقد طارت شهرته في الآفاق، فإن الدارسين والكاتبين قد اعتبروا التحقق من مستواه التعليمي النظامي مسألة هامشية فلم يهتموا بها، لذلك لا ترد هذه المعلومة الهامشية إلا مع سرد سلسلة وقائع حياته ويندر من يهتم بالتحقق منها لأنه ليس لهذه المسألة أي دلالة إيجابية، فهو أعظم من أي شهادة وأكبر من أي لقب مدرسي أو أكاديمي. لقد صار علما من أعلام الإبداع ليس على المستوى العربي وإنما على مستوى العالم، فرواياته باتت تقرأ في كل اللغات الحية. ولذلك يكون من السذاجة السؤال عن مستواه التعليمي النظامي إلا من أجل التدليل على أن الإبداع لا يحصل إلا خارج الأطواق الثقافية والمدرسية والأكاديمية.
* هل كان الطيب الصالح نموذجا فريدا لا يعوض؟
- دعني أتساءل: كم عدد المبدعين العرب الذين هم في مستوى الطيب صالح من حملة الشهادات العالية؟
الشهادة الأكاديمية تؤهل للتدريس وللبحث. إنها فقط تسمح بالممارسة المهنية، لكنها لا تحمل أي دلالة على القدرة الإبداعية، فالتساؤل حول المؤهل الدراسي لمبدع عالمي في قامة الطيب صالح هو تساؤل ساذج وفي غير محله إلا لإثبات أن المبدعين أكبر من الشهادات وأعلى من الألقاب، فهم خارج الأطواق المدرسية والأكاديمية، وكما يقول الدكتور أحمد البدوي: «الطيب صالح أشهر من لم يكملوا دراستهم وأحَقُّهم في إقامة الدليل على أن المجد غير منحصر في نطاق المسوح الأكاديمية فعلينا أن نتذكر دائما أن الطيب صالح ينبغي أن يساق نموذجا للنجاح الحافل وبلوغ الغاية في ذيوع الصيت والمجد المؤثل الذي يملأ أوعيته ويربو». وهكذا جرى التحقق من أن الطيب صالح لا يحمل من الشهادات الدراسية سوى الشهادة الثانوية يؤكد ذلك أن التعريف به الذي يأتي أحيانا تذييلا لبعض مؤلفاته خلال حياته يؤكد ما تحقق منه الدكتور البدوي وغيره من الدارسين ومنهم منير البعلبكي الذي أكد في «معجم الأعلام» أن الطيب صالح لا يحمل سوى الشهادة الثانوية. أما القول بأنه حصل على ماجستير في القانون الدولي فهو قول تنفيه وقائع حياته كما تنفيه نفيا قاطعا مدرسة لندن للاقتصاد.