عبد الله السفر: تحولات العالم نهر عابر للحدود وللجغرافيا.. ولا عاصم منها

قال لـ «الشرق الأوسط»: تعلمت من سراج المنزل الضعيف أن أنفر من وهج الضوء

عبد الله السفر
TT

يعتصم الشاعر السعودي عبد الله السفر بالهدوء والعزلة عن صخب المناسبات والتنافس على صدارة المؤسسات، وربما بسبب تمكنه من إنتاج تجربة شعرية متميزة ومثيرة للاهتمام عمادها اللغة، التي شغف بها وأصبحت ثيمة تميز قصائده، على النحو الذي يعبر عنه الشاعر السوري معتز طوبر، الذي وصفه بالقول: «عبد الله السفر، مسكون باللغة ونصف طيف لها».

عبد الله السفر من مواليد قرية الجشة في الأحساء عام 1960. أصدر عددا من المجموعات الشعرية: «يفتح النافذة ويرحل» 1995، «جنازة الغريب» 2007، كتاب «اصطفاء الهواء: القصيدة الجديدة في السعودية» 2010، وفي هذه الكتب يقدم السفر قراءات في نحو 22 مجموعة شعرية صادرة في سنوات التسعينات وما بعدها، «حفرة الصحراء وسياج المدينة: الكتابة السردية في السعودية» 2010، وفيه يقدم قراءات لنحو 30 رواية ومجموعة قصصية وقصصا مفردة لمرحلة التسعينات وما بعدها، «يطيش بين يديه الاسم» 2011، «دليل العائدين إلى الوحشة» 2012.

«الشرق الأوسط»، التقت الشاعر عبد الله السفر في الدمام شرق السعودية حيث يقيم، وأجرت معه الحوار التالي:

* بالإضافة لكونك شاعرا متميزا، فأنت قارئ ممعن للمشهد الثقافي.. كيف تقيمه؟ ألم يتأثر بكل هذا التحول الذي يشهده العالم؟

- «المشهد الثقافي المحلي» ليس معزولا ولا منفصلا عن العالم. مجاز القرية الواحدة أصبح حقيقة ليس لأحدٍ أن ينكرها أو يتراجع عنها تحت «وهم الخصوصية». التأثر حاصل ومفروغ منه، لكن كيفية هذا التأثير يمكن أن يكون محور جدل ونقاش. ليس هناك خيار وانتقائية وحراس جمارك تفحص ما يجب التأثر به وما لا يجب. النوافذ مفتوحة والهواء يهب من مختلف الجهات، وهواجس الغرف المعقمة لا تشغل إلا الفئة المنغلقة التي تجدها بعد فترة في منصة القفز وحيازة القطاف. إن التحول الذي يشهده العالم نهر عابر للحدود وللجغرافيا، ولا عاصم منه.

* هناك «جمود» في مستوى الفكر والحركة والإنتاج.. أليس كذلك؟ بمَ تفسره؟

- لم تمر حياتنا الثقافية والفكرية في السعودية بمثل هذا «التدافع» الذي نشهده الآن؛ إن على مستوى الصحافة الورقية أو مستوى شبكات التفاعل الاجتماعي التي نطالعها في الإنترنت أو ما يصل إلينا من أصداء مجالس المجتمع المدني. ثمة سيولة وفوران حد الغليان، بل و«تحاجز» يبعد عن الجمود والسكون.. ويتأكد هذا مع حركة النشر المحلية من جهة الدور التي لم تستقطب الكاتب والقارئ المحلي فحسب («الشبكة العربية للأبحاث والنشر»، «جداول»، «طوى»...) ومن جهة انخراط المثقف السعودي في قراءة مجتمعه وتاريخ أمته على نحو متبصر وناضج الأدوات.

* ماذا تمثل لك «القرية» نلاحظ أنك تحمل سماتها؛ تميل إلى العزلة، وتبتعد عن الأضواء، وتؤدي دور ابن القرية الذي يعيش على الهامش؟

- قريتي في الأحساء مسقط الرأس ومهوى الروح وذاكرتي التي أفيء إليها ولن أنسى معها «أقدامي التي لا تعرف الحذاء إلا في الدوام المدرسي/ أقدام يسر إليها الطين بحكاياته/ يلتصق بها../ ولن يزول مهما دعكته الأيام». تعلمت من سراج المنزل الضعيف أن أنفر من وهج الضوء. علمتني حقولها معنى أن ينفرد الفلاح وحده بشجيراته لا يشغله العالم الخارجي ولا ضجيجه. حفظت درس القرية في جسدي وفي روحي. لك أن تسميه عزلة أو هامشا، ولي أن أقول إنها الضفة المواتية للإصغاء.

* لديك مشروع ثقافي ملتزم به، وهو الشعر، فأنت أمين على الشعر، لكن ألا ترى تراجعه، وتداعي صروحه؟ إلى أي درجة يؤثر فيك ذلك؟

- من باب الأمانة لا أرى تراجعا ولا تداعيا للصرح الشعري، إذا جازت تسميتك، فالحركة الشعرية المحلية والخليجية والعربية في أوج عافيتها على الرغم من إعلان موت الشعر مرارة وسيادة «زمن الرواية»، وعلى الرغم من غياب الأسماء اللامعة التي شكلت عصب الحداثة الشعرية وقمة تحولاتها الفنية والجمالية (بسام حجار، محمود درويش، سركون بولص).. والدليل هذا الكم الشعري (على تفاوت في كيفيته) الذي نلقاه سنويا في معارض الكتب، بما يمنح الثقة أن جذوة الشعر لا تزال مشتعلة، وأن هناك إنتاجا نوعيا وتجارب فائقة الجمال يعرفها ويقدرها القارئ المهتم والمتابع. وهنا يلزم الاعتراف أو التفريق ما بين توفر الشعر المنتج كقيمة إبداعية وجمالية وحظ هذا الشعر في الوصول إلى القارئ العام، وكذلك انحسار المتابعة النقدية التي نزحت إلى ضفاف أخرى. هذه عوامل تحدّ من انتشار الشعر وذيوعه، لكنها لا تعني أن الشعر لم يعد موجودا أو أن كفاءته محل شك.

* هل ترى أن الوجوه الشعرية الجديدة لديها ما تقوله، وتقنع به، وتنتصر به؟

- ما تطرحه الأقلام الشعرية الجديدة في الساحة المحلية يحمل غنى وتنوعا في التجارب، حيث لا نقع على «الاستنساخ المطبخي» الذي تفيض به الرواية المحلية. ثمة فرادة وتميز وبصمة صوتية تعكس روح جيل جديد عثر على تفتحه وحريته في فضاء الإنترنت قبل تدشينه ورقيا بين يدي القارئ. إننا نطالع خبرات يومية لم تتحها لنا قصيدة الجيل السابق. نحن قبالة ذوات من لحم ودم تستقي تجربتها من الواقعة الحياتية، وليس من «خزانة» قريبة أو بعيدة. هذا الفارق الذي صنع وجها جديدا ونبرة اختلاف إضافية للمشهد الشعري المحلي. كما أن حوض تجربة القصيدة الجديدة توسع بلقائه الإنساني عبر المشهد الأكبر في «الميديا» التي تزود بحاضنات شعرية لا تتوقف عند الكلمة وحسب. بإخلاص، أجد في الوجوه الجديدة حياة شعرية خصبة تصمد للرهان.

* هل يحتاج المثقف لكي يحافظ على حياديته واستقلاله أن يبتعد عن منظومة المصالح الرسمية وغير الرسمية؟ هل تعيش النخبة بمعزل عن هذه المصالح؟

- أتصور أن الحيادية في هذا السياق لها رنة سلبية، بمعنى رفع اليد والقلم والاكتفاء بدور المشاهد والمراقب والتعفف عن خوض المشكلات الوطنية في أبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية. إن المثقف باعتباره ضميرا لا بد أن يصدع برأيه في هذه الأبعاد بشكل «موضوعي»، حيث ينأى عن توظيفه بوقا، أو يصبح استغلاليا انتهازيا حسب هوى الريح السياسي، كما يحصل بالمشاركة في تبخيس فصيل سياسي وممالأة السلطة وتبني طرحها، ويريد من المواطن أن يسبح بالبنايات الشاهقة، فيما الإنسان - تحتها - مطحون سياسيا ومطمور اجتماعيا. إلى ذلك، فإن المثقف إذا كان في عداد النخبة ينبغي عليه أن يعي أن له رأسمال ثقافيا تتبين نجاعته وقيمته في مدى قيامه بوظيفته ودوره نحو مجتمعه.

* ما رأيك في تجربة الانتخابات في الأندية الأدبية؟ هل ساهمت في ضخ الحياة للجسد الثقافي أم أنها كونت عصبيات جديدة لم نحسب لها حسابا؟

- الانتخابات مطلوبة بغض النظر عن نتائجها، فالشخصيات التي جرى تصعيدها إلى مجالس الإدارات من اختيار الجمعيات العمومية وإن كان ثمة خطأ في الترشيح ومنح الثقة، سوف يتم التصحيح في انتخابات مقبلة. طبعا هناك هنات (يراها البعض غير هينات) جعلت عضوية الجمعيات العمومية متاحة دون تدقيق، وهذا انعكس في إنشاء «كتلة تصويت» لا علاقة لها بالشأن الثقافي بقدر ما لها علاقة بـ«الفزعة» لأسماء معينة تتناغم معها وتصدر عن ذهنية شمولية تريد الحياة الثقافية في الأندية الأدبية على غرارها، وقد نجح الأمر في أول انتخابات وربما ينجح مرة ثانية، لكن على المدى البعيد فإن التجربة الانتخابية سوف تصوب مسارها.. غير أنني شخصيا حزين على وضع الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون، بسبب مقراتها وضعف إمكانياتها. لن نستطيع المشاركة في صناعة الثقافة بمروحتها الكبيرة دون دعم سخي ودون توفر المكان الملائم الذي يجد فيه المثقف فسحة للقاء وممارسة لدوره. أقول هذا وأمامي صورة تمثيلية لمبنى أدبي الشرقية؛ مجرد بيت مستأجر تنتفي عنه عناصر البناء الثقافي، في الوقت الذي نشهد فيه «إهدار» الملايين على أسابيع ثقافية خارجية تأتي في باب الدعاية والسياحة المجانية، وكان أولى بوزارة «الثقافة» والإعلام تحويل المبالغ الضائعة إلى كيانات فعلية تحيا بها وفيها الثقافة المحلية.

* من نصوص الشاعر

* الدرس في ريشة تغويها الجهات

1 - الدرس

يحمل شبكته وعمره الموشك إلى مشواره المعتاد

يقتعد الصخرة، ويدلي شبكته في الماء

أبدا، لم تخرج الشبكة بصيده الذي يتمناه، أبدا

همس واحد من أبنائه عن المشوار الخائب والصيد الذي لا يجيء

أطرق، وقبل أن ينصرف الابن، رفع رأسه

- كنت أظن أنك فهمت الدرس!

ودفع إلى الأعلى يدين فارغتين، واختفى

اهتزت الشبكة، اهتزت. ولم يكن أحد هناك يجذب الخيط

الظهران - 16/ 4/ 2011

2 - ريشة تغويها الجهات

لم يكن يفكر في المهب ولا في تحريك جسده إلى أي جهة كانت

احتبسته البقعة يحسبها بركته الوحيدة

مر زمن «طويييل» بجسد مركوز وأذنين معارتين تستكملان ما غاب

بغتة شعر بانثلام الصورة التي تصله

ثمة كلمة ترعش القلب وتخضه

حاذى ما بين صرير يقنعه ببركة بقعة وهدير يكاد يقتلعه كلما سمع الكلمة

بدا كأنما مرشح ينقي المشهد فتشف الأشياء وتقرب ويعظم جرمها

لم يكن محتاجا ليعرف أنه في المهب وجسده ريشة تغويها الجهات

الظهران - 29/ 4/ 2011