مليحة افنان.. أماكن ووجوه حقيقية ومتخيلة من الماضي

اصلها ايراني ونشأت في فلسطين وهاجرت الى لبنان

من المعرض
TT

* «ذاكرة ناطقة» هو عنوان المعرض التشكيلي الجديد للفنانة مليحة أفنان، الذي احتضنته صالة روز عيسى اللندنية أخيرا. وفيه متابعة لخلاصة اشتغالات تتجاوز تواريخ إنتاجها، 27 عملا فنيا منفذة بمواد مختلفة، وعبر رحلة في مسارب الذاكرة وما علق بها من شواهد أثناء تنقلات الفنانة بين أكثر من مكان وزمان

يفتح عنوان المعرض، الذي استعار عنوان عمل للكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف المهدى إلى زوجته فيرا، بابا يطل على عالم أقرب إلى سيرة تشكيلية للفنانة، التي ولدت في عام 1935 في مدينة حيفا الفلسطينية من أبوين إيرانيين، وهاجرت مع عائلتها بعد النكسة إلى بيروت في عام 1949. وهناك التحقت بالجامعة الأميركية، لتتزوج وتغادر إلى الولايات المتحدة الأميركية من بعد. لكن دراستها الفن في عام 1957 في (مدرسة كوركوران للفنون) التابعة لجامعة واشنطن كانت بمثابة التعميد الأول لدربتها الفنية. سافرت إلى الكويت في عام 1963. لتنتقل إلى بيروت، ولتستقر في باريس فترة جاوزت العقدين على خلاف رغبتها بقضاء عام واحد في عاصمة النور. ولعل النقلة الأكبر في حياتها الفنية عندما قدمها الفنان الأميركي مارك توبي، المقيم وقتها في مدينة بازل السويسرية، في عام 1971 إلى صاحبة غاليري من معارفه، مع توصية الاحتفاظ بعمل فني لكل مرحلة تمر بها. كلاهما لم يحقق تلك الرغبة للأسف، كما تقول أفنان.

فترة التجريب والاختبارات، على مدى عقد تسعينات العقد الماضي، قادتها إلى تطويع ممكنات الخطوط، العربية والإنجليزية، وعبر صياغات فنية تبوح بتخيلات ملتبسة دون نهايات محسومة. أما على صعيد المواد المستخدمة في تنفيذ اللوحة، فقد توصلت إلى «مساومة»، إن صحت التسمية، قوامها «المكسيد ميديا»: مواد مختلفة، بما فيها استخدام الألوان القاتمة الأقرب إلى الألواح الطينية المحمرة بفعل الحرق. «الحرف في جوهره تجريد. وبالتالي لا أحيله إلى تجريد. إنه تجريد..... ولكنني لم أكن مهتمة أبدا بالمعنى الحرفي للنص» كما تقول الفنانة.

وعليه فإن فعل إدخال الحروف ضمن بناء اللوحة أقرب إلى مقترح ديالكتيكي مفتوح على عوالم الماضي. والغاية منه صياغة صورة، تجمع عناصر التزيين إلى سحر الخط وإيهاماته. «أداة لرحلته ورحلتها» كما تصف توصلاتها البصرية. والنتيجة عمل فني له شخصيته المستقلة وحضوره الدائم. نجد ذلك بشكل طاغ في عملها «حروف» (2008)، والمنفذ بالحبر ومواد مختلفة على الورق، فالحروف هنا أقرب إلى الخطوط المسمارية منها إلى نص مقروء، أو في عملها «اللغز» (1993)، المنفذ بالباستيل الزيتي على الورق. في الحالتين، تلجأ أفنان إلى حرق سطح اللوحة لتبدو بلون التراب المحمر. في حين يتحول نص «رسالة مفتوحة- بالإنجليزية» (1998)، حبر ومواد مختلفة على الورق، بألوانها الباهتة إلى مقترح رسالة تعود إلى زمن بعيد، بينما يتحول عملها «قصتي» (2007)، إلى مدونة مبهرة بتدرجاتها اللونية. ومثلما وظفت الحرف، فإن الوجوه كانت هي الأخرى حاضرة في هذا المعرض. ففي «الشاهد» (1991)، باستيل زيتي على الورق، و«المنفى» (1999)، مواد مختلفة على الورق، تبدو العزلة والوحشة والحيرة بادية على سكنة وجه صاحبها. لكن عملها «بقايا» (2013)، حبر ومواد مختلفة على الورق، يستجمع أكثر من قصة وعبر خطوط تتفاوت بكثافتها اللونية ونقوشها وإشاراتها ورموزها وخاماتها لهيئات شخوص وأماكن قصية. أطياف أماكن اختزنتها ذاكرة الفنانة، وكانت زوادتها وملهمتها صنوا لرحلة تنبذ التجذر في مكان ما. «الذاكرة هي محرض و(ثيمة) مركزية في اشتغالاتي. وأستطيع القول إن أعمالي متجذرة في الذاكرة، الشخصية منها ولربما الجماعية. لذا تجدني أسترجع أماكن وخطوطا ووجوها حقيقية ومتخيلة من الماضي» كما تقول الفنانة في تقديمها لمعرضها. عن تجربتها كتب الكاتب والناقد البريطاني النافذ جون بيرغر نصا سماه «جسد اللغة»، وفيه يقول: «هذه الأعمال، المصنوعة باليد، تهمس. تهمس بحميمية. هذه الأعمال تستحضر لغة الأم، جميع للغات الأم العالمية، بما فيها لغة (الفنانة) ولغتي. كل لغة أم تختلف عن الأخرى بطريقة كتابتها، ولكن أجسادها واحدة. ذلك أن القواميس تخلو من لغات الأم» (آثار، وجوه وأماكن. الصادر عن دار الساقي عام 2010). بالمقابل ترى أفنان عند سؤالها عن حضور الزمن والذاكرة «كما ترى فإن توالي الزمن مبثوث على سطوح هذه الأعمال. وهو عنصر مهم في تجربتي. وتلعب الذاكرة لعبتها هنا. ذلك أن الماضي هو ما عشناه سواء بطريقة واعية أو سواها. في حين أن الحاضر هو ما نعيشه ولحد الآن، لربما، لم نهضمه، بينما يبدو المستقبل عالما غير معروف. لذا فإنني أستقي موادي من الماضي بكل ما عشته وشاهدته وجربته وتجده حاضرا بقوة في أعمالي. ولكن ذلك لا يعود إلى مكان محدد، رغم أن المكان يبدو بعيدا جدا وخارج حدود الجغرافية».