أنهى الملك محمد السادس أربع عشرة سنة كاملة من حكم المملكة المغربية، شهدت البلاد خلالها تحولات عميقة على مختلف الأصعدة، لكن يبقى أبرز ما ميز هذه السنوات الأربعة عشر، هو استمرار منهجية التغيير في ظل الاستقرار، حيث شكلت التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعرفها المغرب، حالة خاصة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، إذ يمكن القول إن المغرب يبني في صمت، تجربة فريدة يمكن أن تصلح كأرضية لباقي الانتقالات العسيرة التي تعرفها الكثير من البلدان في المنطقة، مع احتفاظ كل تجربة بخصوصياتها.
لقد شكل الانتقال السلس للملك بعد رحيل ملك كبير من حجم الراحل الحسن الثاني، أولى اللبنات الصلبة للعهد الجديد للملك محمد السادس، لقد غادر المغرب نهاية التسعينات مرحلة الصراع حول السلطة بين امتدادات الحركة الوطنية الديمقراطية والملك الحسن الثاني، وشكلت حكومة التناوب التي قادتها رموز المعارضة السابقة عنوانا بارزا لانخراط المغرب في مرحلة جديدة، من رهاناتها على هدم الهوة النفسية بين القصر والمعارضة بمختلف توجهاتها ومظاهرها الحزبية والنقابية والإعلامية والحقوقية، لكن القدر لم يمهل الملك الحسن الثاني أن يكمل مشوار التغيير، فكانت هذه الوضعية أبرز ما كان مطروحا على جدول أعمال ملك شاب، قادم إلى العرش بعد سنوات ظل فيها بعيدا عما يجري في دواليب الحكم، وكانت حكمة الراحل الحسن الثاني تقضي بأن يعيش ولي العهد بعيدا عن كل صراعات المرحلة، مما مكنه عند تولي العرش من اتخاذ مبادرات جريئة، من أبرزها فتح ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أو ما يعرف في الأدبيات السياسية المغربية بسنوات الجمر والرصاص، فكانت هيئة الإنصاف والمصالحة، وجلسات الاستماع إلى الضحايا وإصدار مقررات التعويض المادي للضحايا، أحد التدابير التي رسخت للعدالة الانتقالية في مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب، حيث استمرار الشك في صدق إرادة التحول الديمقراطي، مع استحضار كل تجارب الماضي التي أخلف فيها المغرب موعده مع التاريخ في أكثر من محطة، فقد انتصر التحكم والنزعة السلطوية والمصالح الفئوية، على إرادة التغيير لسنوات، وتعمقت حالة الشك بسبب ضعف الثقة المتبادلة بين أجيال تلك المرحلة والمراحل السابقة والممتدة إلى تاريخ إعلان استقلال المغرب، إذ كانت هناك حواجز نفسية جعلت طريق الإصلاح في ظل الاستقرار صعبة.
تكرست في الأربع عشرة سنة الماضية مركزية المؤسسة الملكية، وهذه المركزية تبدو ضرورية في مرحلة انتقالية طويلة، تواجهها تحديات اجتماعية واقتصادية ومتغيرات ورهانات دولية غير واضحة المعالم، وإلى جانب المؤسسة الملكية شكلت الأحزاب السياسية، وخاصة الأحزاب التي تشكل امتدادا للحركة الوطنية والديمقراطية، عامل توازن رئيسا، فرغم حالة المواجهة التي استمرت لسنوات، لم يكن هناك أي طرح حزبي ذي قيمة يسائل طبيعة النظام السياسي في المغرب المتمثل في النظام الملكي، ويمكن القول إنه بعد تولي الملك محمد السادس العرش، حسم موضوع الملكية في المغرب بصفة نهائية، وكانت جنازة الراحل الحسن الثاني استفتاء شعبيا أكد ذلك، وكشف عن أن الانتقادات التي كانت توجه للملك الراحل الحسن الثاني، لم تكن موجهة في الأصل إلى النظام الملكي.
مع بداية الانتقال الديمقراطي، لم يكن من الممكن أن تبقى المؤسسة الملكية وشخص الملك في واجهة كل الأحداث والوقائع والمؤسسات، فكان ضروريا إعادة ترتيب مواقع المتدخلين في العملية الديمقراطية، وكان المشهد الحزبي على رأس الأولويات فيما يتعلق بإعادة البناء والتنظيم والتأهيل والتأطير وتجديد النخب وفق ما جاء في الخطاب الملكي أمام البرلمان في افتتاح السنة الأولى من الدورة التشريعية الثالثة، وذلك استعدادا لجيل جديد من الإصلاحات السياسية الهيكلية ذات الطابع الاستراتيجي، ولذلك ارتأى الملك في نفس الخطاب أن يركز على ضرورة: «تقوية دور الأحزاب، بإيجاد إطار تشريعي جديد وفعال، يستمد فيه الحزب شرعيته القانونية من مشروعيته الديمقراطية، ويأتي بإجابات جماعية متميزة عن قضايا مجتمعية عريضة، وليس تلبية لمطامح شخصية أو فئوية ضيقة»، من خلال قانون تنظيم الأحزاب السياسية كإطار تشريعي جديد، من شأنه أن يضع حدا للخلط الذي استمر منذ سنة 1958 - تاريخ إصدار ظهير (قانون ملكي) الحريات العامة، بين الحزب السياسي ومنظمات المجتمع المدني، وهي وضعية لم تكن تسمح للأحزاب السياسية بلعب كل الأدوار الدستورية الموكولة إليها، فكان الهدف من هذا القانون حسب قول الملك محمد السادس هو أن «يساعد على عقلنة وتجديد، وتحصين المشهد السياسي الوطني، وتحفيز الأحزاب المتجانسة على الاتحاد في أقطاب قوية. كما أنه يعد تجسيدا لحرصنا على توطيد التحديث المؤسسي، بما يكفل عدم إضرار التعددية الحزبية العشوائية، بالقطبية السياسية الفعالة. بل إننا نتوخى من هذا القانون، أن يساهم في تمكيننا في أفق انتخابات 2007. من التوفر على خارطة سياسية واضحة، تتيح لنا، وفقا لنتائج الاقتراع، إناطة المسؤولية الحكومية بأغلبية برلمانية منسجمة في برامجها وقطبيتها، على أن تقـوم الأقلية بدور المعارضة البرلمانية البناءة، في احترام لحقوقها».
تميز المشهد الحزبي المغربي خلال الأربع عشرة سنة الماضية بتحولات مهمة أفقية وعمودية، تعززت بالاستجابة للدعوة الملكية لإعادة تنظيم المجال الحزبي عبر قانون عادي، سيجري تعزيز قيمته القانونية من خلال الدستور الجديد لسنة 2011 الذي حول هذا القانون من قانون عادي إلى قانون تنظيمي على درجة كبيرة من الأهمية، بل إن الدستور الجديد، الذي كان جوابا مغربيا خالصا في تفاعله مع موجة ما سمي «الربيع الديمقراطي»، أفرد مكانة خاصة للأحزاب السياسية من خلال الفصل السابع الذي أكد أن الأحزاب السياسية: «تعمل على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية...»، في حين أن دستور 1996 في فصله الثالث، كان يقدم الأحزاب السياسية جنبا إلى جنب مع المنظمات النقابية والجماعات المحلية (البلديات)، وحصر وظيفتها في تنظيم المواطنين وتمثيلهم.
خلال الأربع عشرة سنة الماضية، تعرض المشهد الحزبي المغربي إلى بعض حوادث السير، كان من أبرزها تأسيس حزب «الأصالة والمعاصرة» من قبل مقربين من القصر، وهي مرحلة أعادت للأذهان تجربة جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (الفديك) في بداية عقد الستينات من القرن الماضي، حيث خلف ذلك شعورا لدى طيف واسع من السياسيين والمثقفين والمواطنين، مضمونه أن ترسيخ الديمقراطية يحتاج إلى يقظة دائمة، وأن طبيعة المراحل الانتقالية هي واقع الصراع بين إرادتين؛ الأولى تحاول تحقيق تراكمات نوعية في عملية الإصلاح دون قطائع مؤلمة وفرجوية، والثانية تسعى إلى استغلال عدم الرغبة في تلك القطائع، من أجل إصباغ رداء جديد على السلطوية والتحكم، وكان الخطاب الملكي لـ9 مارس (آذار) 2011، نقطة دفع جديدة لمسار الإصلاح بشكل كرس الخصوصية المغربية، ومنع قوة الشد إلى الخلف من إعادة صياغة جديدة للمشهد الحزبي والسياسي المغربي وفق مصالح فئوية، وشكل دستور 2011 عاملا مساعدا على إحداث تحولات بنيوية في مجموعة من الأحزاب المغربية، تعزز استقلالية الحقل الحزبي عن باقي حقول السلطة، وتوفر إمكانات فعلية، لتحقق تجربة حزبية وفق ما ينص عليه الدستور الجديد..
* كاتب ومحلل سياسي نائب في البرلمان المغربي