أولا، لا يمكن حصر حصيلة عهد جلالة الملك محمد السادس، خلال 14 سنة، في بضع كلمات أو أسطر، لأنها حصيلة غزيرة من حيث محتواها وأوراشها المنجزة والمفتوحة على كافة الأصعدة السياسية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية، مهمة من حيث بعدها الاستراتيجي وتداعياتها الإيجابية على استقرار المغرب ونمائه.
منذ نهاية يوليو 1999 - تاريخ تولي الملك محمد السادس عرش أسلافه الميامين، دخل المغرب في مسار ديمقراطي منفتح تتميما للتحولات الديمقراطية الإيجابية التي دشنها الملك الراحل الحسن الثاني منذ بداية عقد التسعينات من القرن الماضي والتي توجت بحكومة التناوب التوافقي برئاسة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي والتي حظي حزبنا «التجمع الوطني للأحرار» حينها بشرف الانخراط فيها إيمانا منه بإنجاح هذه التجربة الديمقراطية المتميزة، التي واكبتها انتظارات كبرى من قبل الشعب المغربي ضمن سياق سياسي داخلي تميز بإشاعة مناخ الحريات الفردية والجماعية، خاصة حرية التعبير والرأي، وقبلها العفو الشامل عن المعتقلين السياسيين وإقرار دستور جديد مهد لتجربة التناوب التوافقي.
كان لا بد من التذكير بهذه اللحظة التاريخية المتميزة التي كانت الأرضية الصلبة التي بني عليها العهد الجديد بقيادة الملك محمد السادس، قبل الوقوف عند الإصلاحات السياسية والحقوقية التي أتت بعد 1999. فكان إقرار المفهوم الجديد للسلطة من طرف الملك الشاب إيمانا منه بضرورة أن تكون الإدارة الترابية والسلطة عموما في خدمة الشعب وأكثر قربا من تطلعات فئاته الاجتماعية، خاصة الفقيرة منها، كي تلعب دورها في ردم الهوة الاجتماعية والانخراط في مسلسل الإقلاع الاقتصادي عبر تشجيع استثمارات بالجهات ومحاربة مظاهر الخصاص الاجتماعي والبيروقراطية الإدارية المعطلة للاستثمار.
عمل الملك الشاب كذلك، إيمانا منه بمشروع مجتمعي يجعل من المواطن قطب ومحور كل تنمية مستدامة، على الاهتمام أكثر بالحد من الفوارق المجالية والاجتماعية، من خلال فك العزلة عن المناطق النائية الفقيرة والسهر بنفسه على استكمال إنجاز المشاريع الكبرى للبنيات التحتية، من شبكات طرق سيارة فاق إنجازها في العشرية الأخيرة التوقعات المبرمجة في البداية، التي توخت ربط مجالات المغرب المهمشة بباقي مجالاته الأكثر رفاها ونماء من أجل محاربة الفوارق المجالية الصارخة، وهمت هذه المشاريع الكبرى البنيات التحتية الطرقية في الشمال والشرق والجنوب والوسط، فضلا عن مشاريع أخرى مهمة، من بينها ميناء طنجة المتوسطي، ومشاريع شبكات الربط الطرقي في كل جهات المغرب الأخرى من أجل تيسير فرص جلب الاستثمارات بمختلف الجهات، وإحداث فرص شغل مهمة وتيسير فرص إدماج الفئات المعوزة في مسلسل التنمية، وهو ما أثمر روحا جديدة عبر عنها ميلاد المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005، وساهم هذا المشروع الملكي المهم في دعم مبادرات القضاء على الفقر وإنشاء مقاولات صغرى من لدن الفئات المستضعفة، وإنشاء مدارس ومستوصفات ومشاريع مدرة للدخل في عدد من المناطق الفقيرة، ضمن إطار رؤية تنموية شمولية يرعاها الملك لمحاربة مظاهر الخصاص الاجتماعي والمجالي بالمغرب.
أما الحدث الحقوقي الديمقراطي المتميز الذي كان نقطة تحول مهمة في تاريخ المغرب وقدم خلاله نموذجا في العالم العربي والإسلامي، فيتمثل في تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة وطي صفحة ماضي ما كان يعرف بسنوات الرصاص، وساهمت آلية العدالة الانتقالية هاته في جبر الضرر المعنوي والمادي لضحايا الاعتقال السياسي وذويهم، الكشف عن مجهولي المصير، والأهم من كل ذلك سن إجراءات قانونية ودستورية لتجنب تكرار ما جرى والحد من انتهاكات حقوق الإنسان.
إن المسار الديمقراطي الذي انخرط فيه الملك الشاب، واكبته إشارات ومبادرات قوية سياسية وحقوقية، عكس ما كان يجري به العمل في بلدان عربية وإسلامية أخرى. في 14 سنة الأخيرة، قطعت مع مرحلة مهمة من تاريخ المغرب وفتحت صفحة جديدة، قوامها مصالحة المغرب مع ماضيه ومع كل مكوناته السياسية والاجتماعية والثقافية، ومنح نصف المجتمع المكانة التي يستحق، وأقصد هنا المرأة من خلال إقرار «مدونة (قانون) الأسرة» التي شكلت ثورة اجتماعية وسياسية وحقوقية في العالم العربي، وإقرار مبدأ المناصفة كما جاء في الدستور.
كما حرص الملك محمد السادس على انفتاح المغرب على العالم وعلى القيم الكونية لحقوق الإنسان ودعم حوار الأديان، وتحويله إلى قطب جهوي للاستثمار والتصدير من خلال سياسة المشاريع المهيكلة الكبرى والسياسات القطاعية، وإبرام شراكات اقتصادية مع الشركاء الأجانب، مع تحويل المغرب إلى بوابة أفريقيا في إطار تقوية شركات جنوب جنوب، وتقوية قدراته على مواجهة تحديات العولمة ومتطلبات الحداثة والعصر الجديد.
أما في الجانب السياسي، فقد كان للحرص على شفافية مسلسل الانتخابات دور في تطبيع الإدارة مع دورها الحيادي الإيجابي في مراقبة سير العمليات الانتخابية ومصالحة الأحزاب مع صناديق الاقتراع، كما ساهم مسلسل دسترة التعدد اللغوي والثقافي من خلال الاعتراف بالأمازيغية لغة وطنية في دستور 2011، فضلا عن التعدد الهوياتي الإسلامي العربي الأندلسي والأمازيغي والعبري والأفريقي، مع إنشاء مؤسسات دستورية مستقلة في المجال الحقوقي والثقافي اللغوي والاتصال المسموع والمرئي. وغيرها من المجالات الجديدة للحريات الفردية والجماعية التي أتى بها الدستور الجديد، تتميما لهذا المسلسل الديمقراطي الذي بدأ منذ منتصف التسعينات، ولم يكن بحاجة إلى إملاءات خارجية، بل هو انعكاس لتطور ذاتي تلقائي، رعته المؤسسة الملكية باعتبارها الفاعل المركزي في كل التحولات التي عرفها المغرب بتوافق مع باقي مكونات المجتمع، وهو ما أكد رجاحة سيناريو الاستثناء المغربي في تعامله مع مسلسل الحراك في الشارع العربي وجعل المغرب أكثر نضجا ومناعة في احتواء الصدمات الخارجية.
* رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار المعارض