نادرا ما أفلت أحد جيران عائلة جورج خباز أو أصدقائهم من الإبن الذي يحمل اسم أبيه ويقلّد كل زائر فور مغادرته، فيشاهد من حَضر في تلك اللحظة الصبي الصغير يعتلي «إسفنجة الكنبة»، التي شكلت مسرحه الطفولي البدائي. كان آنذاك في الرابعة، اختير ليؤدي دور القديس مارون في طفولته خلال مسرحية عرضت في قريته البترونية الواقعة على ساحل لبنان الشمالي. ويذكر خباز أنه نزل عن الخشبة، توجه إلى والديه الجالسين في الصالة، حدثهما ثم عاد إلى مكانه وتابع أداءه التمثيلي، ما أثار ضحك الجمهور وإعجابهم.
«منذ ذاك الوقت شعرت أن هناك رابطا حميميا يجمعني بالمسرح». وقرر جورج حينها، رغم صغر سنه وجهله بالمشقات التي يعانيها من يمتهن هذا المجال في لبنان، أن يحترف التمثيل. ولم تدغدغ أفكاره حتى مجرد فكرة عابرة لاختيار تخصص آخر «يطعم خبزا»، لأنه كان دوما واثقا من موهبته ومن نجاحه في المستقبل.
وبعدما شارك في العديد من المسلسلات المحلية والمسرحيات، سلك جورج خباز خطه الخاص فكتب المسلسل التلفزيوني «عبده وعبده» الذي تحلق حوله المشاهدون طوال اشهر، فاستطاع أن يستقطب جميع الفئات العمرية. رسم ابتسامة على ثغر، كل من الجد والحفيد وأطلق ضحكات «محترمة وبعيدة عن الابتذال». كما ألف مسرحيتين هما «مصيبة كبيرة» و«كذاب كبير» التي ما زالت تعرض على مسرح جورج الخامس شمال بيروت. وحاليا يستعد لإطلاق برنامجه التلفزيوني الثاني على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال في فبراير(شباط) المقبل تحت عنوان «ساعة بالإذاعة». يروي فيه ما يجري في كواليس الفن. وهو يحرص في اعماله كلها على الإضاءة على العديد من المشكلات التي يعانيها المجتمع. ويتوجه إلى العائلة من دون أن ينكر صعوبة النجاح في هذه المعادلة لكن «نتيجتها جميلة جدا»، موضحا أنه يفضل الابتعاد عن المسرح السياسي لانه أصبح مستهلكا جدا. نشأ جورج خباز في كنف عائلة تعشق الفن وتمتلكه بالفطرة غير ان أحدا منهم لم يحترفه. فقد امتلك جورج خباز الأب، مكتبا للهندسة، احترف التمثيل لفترة وجيزة حين شارك في عدد من المسلسلات التي عرضت على شاشة تلفزيون لبنان منها «البؤساء»، «رياح شمالية»، «سهرية» وغيرها. أما والدته اوديت ففضلت التفرغ لتربية أولادها الأربعة (جورج، نقولا، لارا، لورا) ولم تحترف الغناء «رغم أنها تنعم بصوت جميل جدا». يقول جورج، مضيفا إنه استمد جذور موهبته الموسيقية من عائلة جده لأهل أمه. ومنذ صغره، تأثر كثيرا بأعمال الأخوين الرحباني عاصي ومنصور وكانت مجموعتهما الكاملة في متناول يديه الصغيرتين لتلتقط حواسه ما تشاء من الفن الاصيل. أما ولعه بالتمثيل الإيمائي الذي تظهر خيوطه في أدائه التلفزيوني والمسرحي، فيعود إلى اعجابه بالممثل شارلي شابلن. وقد اطلع على أعماله كلها مرارا لأن «مجموعته الكاملة موجودة في منزلنا منذ طفولتي».
وكغالبية المراهقين والشباب، اشتد إعجاب خباز بمسرح زياد الرحباني الذي يطاول في طرحه قضايا عامة، عبر نص حواري منسوج بلغة بسيطة قريبة من الواقع، سرعان ما تتحول جمله وعباراته «محط كلام» تتطعم به أحاديث الغالبية العظمى من محبيه.
في هذه الأجواء المحفزة لموهبته والمشجعة له، نما جورج خباز، غير أنه لم يكتف بسماع الموسيقى ومشاهدة الأعمال المسرحية بل عمد إلى تفجير طاقاته خلال مرحلتي الطفولة والمراهقة تارة عبر المشاركة في مسرحية قروية وطورا عبر ترجمة أفكاره في نصوص كتبها عندما كان يشارك في نشاط بعض التجمعات الشبابية والكشفية. والطريف أنه قرر مرة الانضمام إلى إحدى هذه الجمعيات سعيا خلف فتاة بهدف نيل إعجابها. وفي تلك الفترة نشط جورج وعمل برفقة مجموعة من الشباب على إعادة تقديم عدد من مسرحيات للأخوين الرحباني بالإضافة إلى مسرحيتين لزياد الرحباني هما «نزل السرور» و«بالنسبة لبكرا شو؟». وقد أشرف والده عليها وتولى إخراجها. وبالسرعة التي كبر فيها جورج نمت موهبته معه لانه عمل على صقلها باستمرار ليحافظ على تألق «الهبة» التي «اهداني إياها الله».
في المقابل، يقرّ بفشله في المواد العلمية وتحديدا خلال المرحلة الثانوية في المدرسة، وقد سلك لذلك الفرع الأدبي. ويبدو جليا ان الآثار النفسية التي تخلفها المدرسة في نفوس العديد من التلامذة، لا تزال واضحة المعالم لدى جورج فما ان فُتِح هذا الموضوع حتى بادر إلى القول «ست ساعات متواصلة من الدرس من يستطيع تحملها؟». لذا وللتخفيف من الضغط وثقل هذه الساعات، كان يعمد إلى تغيير شخصيته كلما دخل أستاذ الصف. أما اختيار الدور فيتم على أساس تكتيك معين. ففي حصة الادب، كان دائما الفتى الخجول الذي يتعثر في الكلام وهذه كانت إحدى حيله لكسب الوقت لتذكر أبيات شعرية نسيها خلال أدائه إياها. وفي حصة العلوم الرياضية كان دائما الفتى المشاغب. في العام 1993، وجب عليه اتخاذ القرار الصعب. «قرار رجل». تقدم بامتحان لدخول معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية. وتخرج منها في العام 1997 حين كتب مسرحية من نوع الكوميديا السوداء تحت عنوان «لسوء الحظ». تروي قصة زوجين عاطلين عن العمل، فتقرر المرأة احتراف الفن. وكأن تلك المسرحية توقعت مرحلة «الفورة الفنية» التي يتميز بها هذا العصر.
رغم الصعاب التي واجهته قبل دخوله الجامعة في ظل الأوضاع السيئة التي مرت فيها البلاد، راهن جورج على نجاحه ولم تزرع أخطار المهنة الشك في نفسه لأنه لطالما كان واثقا في صدق موهبته. لم يتردد لحظة واحدة. بدت خطواته صلبة متصاعدة منذ البداية لأن طموحه لم يقتصر على التمثيل إنما تعداه ليشمل الإخراج، الكتابة المسرحية والغناء إنما ضمن قالب يخدم العمل التمثيلي، بالإضافة إلى التأليف الموسيقي، خصوصا انه تعلم العزف على البيانو وبعض الآلات الإيقاعية طوال تسع سنوات.
وفي حين حرص على توظيف دراسته الموسيقية في خدمة الجينيريك والدور التمثيلي، يبدي جورج استعدادا لتلحين أغنية ما إذا طلب إليه ذلك من دون أن يشكل هذا الأمر هدفا له. وهو يقول إنه دخل الجامعة ليكتسب بعض القواعد التقنية لتطوير أدائه لا ليتعلم التمثيل لأنه «فن غير قابل للتعلم إذا غابت الموهبة». وهذه هي القاعدة الأولى التي يعلمها جورج لطلابه في الجامعة اليسوعية. كما يطمح إلى ترك بصمة في تاريخ الفن والسينما والمسرح وكل ما يطاول الفن التمثيلي وحينها «أكون قد وصلت تلقائيا إلى العالمية. كما حصل مع الأخوين الرحباني ونجيب محفوظ طبعا بعيدا عن المقارنة». أما مظهره الخارجي فيرى أنه متناسق مع شخصيته وجزء من موهبته. ولا يفكر في الخضوع لأية جراحة تجميلية لأن ملامحه البارزة تساعده على نيل أدوار معينة في بعض الحالات، لكنها في المقابل، تحجب عنه أدوارا اخرى تتطلب «وجها جميلا، قامة طويلة وعضلات مفتولة. إلا أن هذه المقاييس الجمالية لم تعد معتمدة في الغرب، كما تخطاها جيراننا في مصر».
ويروي حادثة طريفة حصلت معه في مسرحية «غادة الكاميليا». في المشهد الأول منها دخلت فرقة الدبكة وتبعها حاملا طبقا غير أن اللوحة الراقصة لم تكتمل بما أن الأرضية الخشبية كانت متسخة بمواد ما فتزحلق الجميع وسقط الواحد تلو الآخر «كأحجار الدومينو» ما أثار ضحك الجمهور في حين كانت بعض الراقصات يبكين من شدة الألم.
ويتأنى جورج في اختياره الممثلين المشاركين في أعماله. كما يفصل بين العمل والصداقة. وترتفع نسبة هذا التأني حين يتعلق الأمر في اختيار ممثلين لمسرحياته. فتتحول عندها عملية الانتقاء «عَ الطبلية» لما يتطلب هذا النوع من العمل من تعايش يستمر أشهرا ويفرض في بعض الحالات تنقلا وسفرا. لذا تشكل الأخلاق الحسنة إحدى الركائز الأساسية إلى جانب الموهبة، لقبول الممثل للدور المطلوب.
يكره الألقاب ويفضل مناداته بالممثل أو الكاتب المسرحي أو حتى «دراماترجي» على أن يلقب بالفنان «رغم أن الفن أرقي أنواع التعبير»، وذلك لأن هذا التصنيف «أصبح مستهلكا جدا. وكل من نشّز أو هز خصره يسمى فنانا». وعن الموجة السائدة من «التمثيل المبتذل» بفعل إيلاء الأدوار لدخلاء يرى جورج أن هذا الواقع سينعكس حتما إيجابا على الممثلين لأنه من خلال هذه الطريقة يكتشف المنتجون والمخرجون أن الممثل هو إحدى الركائز الأساسية في نجاح العمل.
نال جائزة الموريكس الذهبية في العام 2003 وتنقل في ما بعد بين العديد من المناطق اللبنانية من الشمال إلى الجنوب مرورا ببيروت، ملبيا دعوات تكريمية وجهتها إليه مدارس وجمعيات ونواد، خصوصا بعد عرض مسلسله التلفزيوني «عبده وعبده» الذي جمع حوله مشاهدين من كل الفئات العمرية. وهذه السنة رشح لنيل جائزة الموركس الذهبية عن فئة أفضل ممثل وافضل مسرحية. فهل ينالها؟