القزاز أمام محكمة التاريخ

كتاب يقدم قراءة مختلفة لسيرة شخصية تركت بصماتها على السياسة العراقية حتى 1959

TT

عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، يصدر قريباً كتاب يتناول سيرة شخصية عراقية مثيرة للخلاف، لعبت دوراً بارزاً في رسم السياسة العراقية حتى عام 1958، حين قيام ثورة 14 تموز العراقية هو سعيد قزاز (1904 ـ 1959).

وهنا فقرات وافية من المقدمة التي كتبها الدكتور كمال مظهر لهذا الكتاب، المعنون «سعيد قزاز ودوره في سياسة العراق حتى 59». في حال أي تقويم لشخصية سعيد قزاز، ولدوره وقناعاته، ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار انتماؤه الأسري والاجتماعي والأجواء التي نشأ فيها، فضلاً عن خصاله بوصفه إنساناً مبدئياً، طيباً، عفيف اللسان، جريئاً دون حدود، معجباً بحضارة الغرب وقيمها غاية الإعجاب، حساساً بإفراط تجاه كل عمل ثوري عموماً، وتجاه جميع أجنحة اليسار خصوصاً.

في ضوء ذلك نقول إن سعيد قزاز كان ينتمي عملياً إلى النخبة المتنورة المعتدلة، وإنه تجاوز نوري السعيد في ذلك، إذ وقف ضد الاقطاع عن قناعة، مما انعكس على العديد من مواقفه وإجراءاته التي تحولت إلى حديث الناس، فلقد حاول وضع حد لأعمال عدد من كبار الاقطاعيين الذين تمادوا في استغلالهم للناس، فعندما كان متصرفاً (محافظاً) في الموصل اعتقل أحدهم بنفسه نهاراً جهاراً من دون أن يلتفت إلى أن الذي اعتقله في عقر داره كان نائباً عن منطقته، يتمتع بالحصانة البرلمانية، وكان مقرباً من البلاط الملكي، ومن شخص رئيس الوزراء نوري السعيد، خصوصاً بعد أن أدى دوراً متميزاً للقضاء على الانتفاضة البارزانية عام 1945. وبذل القزاز جهوداً حثيثة لتحجيم زعماء بشدر الأقوياء الذين ظلوا يؤلفون، على مدى ردحٍ طويل من الزمن، شوكة بجنب السلطة المركزية، واختار لإدارة منطقتهم قائمقام حازماً معروفاً، هو ومعظم أفراد أسرته، بميولهم اليسارية، مما أثار حفيظة زعماء بشدر بقوة. ولقد اطلعتُ شخصياً على أكثر من وثيقة سرية من وثائق وزارة الداخلية بهذا الصدد. وروى لي الوثائقي العراقي المعروف العميد المتقاعد والوزير في العهد الجمهوري خليل الزوبعي كيف تجاهل سعيد قزاز أيام فيضان بغداد المشهور سنة 1954، أمراً شفهياً أصدره له شخص الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله بوساطة مرافقه الأقدم عن طريق الزوبعي بصدد ارسال مساعدات عينية فورية إلى أمير ربيعة لقناعة القزاز، كما جاء في رده، بأن الفقراء أولى بتلك المساعدات. وقلما ظهر إداري عراقي في العهد الملكي رصد مثله أعمال لجان تسوية حقوق الأراضي، التي ألفت بموجب قانون خاص، فلقد بذل كل ما في وسعه ليحول دون التلاعب بمضمون القانون لصالح الملاكين على حساب الفلاحين. مع ذلك علينا أن نُقرّ أن القزاز كان وحيداً في هذا الميدان النبيل، إنه ناطح قلاع الاقطاعيين الحصينة بسيف خشبي، إلا أن ذلك لا ينفي مقاصده الجليلة، كما لا ينفي أنه كان يرنو مخلصاً إلى إنفاذ النظام من منطلق قناعاته الفكرية، فقد أدرك جيداً، وعن وعي ناضج، أن عهد الاقطاع قد ولى وانتهى.

باعتراف الجميع، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، إلا ما ندر، سجل سعيد قزاز لنفسه صفحة مشرفة خالدة أيام فيضان ربيع العام 1954، إنه بإيجاز شديد، أدى دوراً متميزاً لإنقاذ بغداد التاريخ والحضارة من مصير مشؤوم توقعه أكثر الناس تفاؤلاً في تلك الأيام العصيبة. اعترض أحد الزملاء على هذا الرأي أثناء مناقشة أطروحة دكتوراه عن الدكتور محمد فاضل الجمالي، أعدّها أحد طلابي، وكانت حجته في ذلك أن سعيد قزاز فرض على طلاب الكليات الذين تطوعوا لدرء مخاطر الفيضان المتوقعة، العودة إلى دورهم وأقسامهم الداخلية. لا يمكن أن يخامر الشك فكر أحد بخصوص الدوافع النبيلة لقول ذلك الاستاذ الذي كان شخصياً أحد الطلبة المتطوعين بإخلاص لحماية مدينته العزيزة، لكن كما بينتُ أثناء المناقشة أن ما لجأ إليه سعيد قزاز كان أفضل، وأهون إجراء واقعي يمكن اللجوء إليه في وقت كانت التقارير الخاصة تؤكد أن الطلاب اليساريين كانوا يعدّون العدّة لإقامة مظاهرات تلقي مسؤولية ما أحدثته الطبيعة على عاتق «النظام الرجعي القائم»، ولا يمكن أن يخفى على أحد ماذا كان بوسع هكذا مظاهرة أن تحدثه من ارتباك في تلك الظروف على أقل تقدير، خصوصاً أن بسطاء الناس يميلون، عادة، إلى تصديق كل دعاية وتهمة تطلق جزافاً، ولا سيما في ظروف الأزمات والمحن.

ولأسباب مماثلة أسمع مراراً تقويماً مشابهاً لسعيد قزاز من أناسٍ من شتى الاتجاهات، لهم وزنهم وموقعهم في المجتمع، منهم فضيلة السيد جواد هبة الدين الحسيني، الذي عرف القزاز عن كثب، والمهندس والوزير أكثر من مرة في العهد الجمهوري الدكتور احسان شيرزاد الذي حاول القزاز بإصرار أن يعينه رئيساً للمهندسين في لواء الموصل، بعد أن توسم فيه الإخلاص والجدية قبل أن ينهي دراسته في الولايات المتحدة الأميركية، والمفكر مسعود محمد الذي كان أحد نواب المعارضة في العهد الملكي، تحدى بجرأة سعيد قزاز شخصياً داخل أروقة مجلس النواب، ومرافق الملك غازي، والوزير أيضاً في العهد الجمهوري والصديق المقرب إلى عبد الكريم قاسم اللواء المتقاعد فؤاد عارف الذي بذل المستحيل من أجل إنقاذ القزاز من حبل المشنقة، والمحامي حسين جميل أحد أبرز مؤسسي «الحزب الوطني الديمقراطي»، وفيصل فهمي سعيد الذي عرف سعيد قزاز أيام فيضان بغداد عن كثب، وأعجب به إلى الدرجة التي جعلته يرغب بحماس في أن يقام له نصب تذكاري في بغداد، أو في صدر الثرثار تقديراً لدوره المتميز أيام فيضان 1954، بل انه يذهب صراحة إلى مدى غير متوقع حين يؤكد بحرارة انه يتمنى لو أن القزاز حاكم والده، الذي كان أحد العقداء الأربعة الذين قادوا انتفاضة نيسان ـ مايس 1941، ضد الوجود البريطاني في العراق، ودفعوا حياتهم ثمناً لموقفهم.

سألتُ على مدى السنوات الأخيرة عدداً آخر من فضلاء العراق عن رأيهم في سعيد قزاز، ممن أصبحوا في ذمة الخلود، رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته. منهم المؤرخ المعروف عبدالرزاق الحسني، والقاضي جليل هوشيار الذي أقام دعوى قضائية في حينه على سعيد قزاز بوصفه وزيرا للداخلية، لأن الجهات المسؤولة أبعدته من مدينة السليمانية إلى مسقط رأسه مدينة اربيل بسبب نشاطه السياسي غير المرغوب فيه من وجهة نظرها، وحضر محامي القزاز فعلاً جلسة المحكمة التي نظرت في القضية، وبعث القزاز في الوقت نفسه، رسالة اعتذار شخصية إلى المدعي كما أخبرتني بذلك عقيلة هوشيار قبل مدة. ولشهادة المرحوم العميد المهندس رجب عبد المجيد، أهمية خاصة في هذا المضمار، كونه أحد أبرز مؤسسي حركة الضباط الأحرار التي قضت على النظام الملكي في العراق، والذي زار، بعد قيام الثورة بأيام، معتقل أبو غريب بوصفه مسؤولاً عن معسكري الرشيد والروستمية، فوجد سعيد قزاز في غاية الثقة بالنفس والكبرياء، ولاحظ أن شبابيك الغرفة الصغيرة التي ضمت القزاز وأحمد مختار بابان وعلي حيدر الركابي «مغطاة بقطع من الصفيح باقتراح من سعيد قزاز لتفادي سماع الكلمات النابية التي كان يسمعهم إياها بعض المتطفلين، مما جعل الوضع داخل الزنزانة فوق طاقة البشر بسبب حرّ تموز الخانق».

لم يهتز سعيد قزاز لا في المعتقل، ولا أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة أثناء محاكمته، ولا في السجن بعد صدور حكم الموت بحقه، وتشهد له بذلك مداخلاته وردوده الجريئة، فضلاً عن كلمة دفاعه عن نفسه الطافحة بالكبرياء والاعتزاز بالنفس، والتي قرأها بثقة منقطعة النظير، على الرغم من مقاطعته عشرات المرات من رئيس المحكمة والمدعي العام والحضور في القاعة بأسلوب جارح للغاية. مع العلم أنه، وقبل أن يباشر بإلقائها، طلب من رئيس المحكمة أن يسمح له بأن يقرأ كلمته من دون أن يقاطعه أحد، قائلا ما نصه: «أعلنتم مراراً بأن حق الدفاع مقدس، فباسم هذه القدسية أرجو أن تسمحوا لي بقراءة دفاعي من دون أن يقاطعني أحد إلى أن أختتمه»، ولقد وعده رئيس المحكمة بذلك، لكنه لم يبرّ بوعده، فغالباً ما كان يقاطعه هو شخصياً، وكذلك المدعي العام والحضور بأسلوب فظّ للغاية، وبكلمات نابية من دون أن يؤثر ذلك قيد شعرة على معنوياته، إذ كان يواصل كلامه بالإباء والشموخ نفسه حال انتهاء مقاطعته.

فنّد القزاز قبل كل شيء ما ذكره المدعي العام في اليوم الأول من محاكمته، بأنه «ارتدى الملابس النسائية خوفاً من القتل»، وعدّ ذلك كذباً وافتراء وادعاء «لا نصيب له من الصحة»، ليسمو القزاز بذلك على نوري السعيد وغيره من أقطاب العهد الملكي ممن تنكّروا فعلاً بملابس نسائية وغيرها تخفياً عن أنظار الجماهير.

تستوقف جوانب عدة مما ورد في كلمة سعيد قزاز النظر لما تنطوي عليه من أهمية تاريخية لا شك فيها. فإن قائد الثورة عبد الكريم قاسم التقى القزاز في مقر عمله بوزارة الدفاع بعد تسليمه لنفسه مباشرة، أي في اليوم التالي لانتصار الثورة، وعامله بلطف، متحدثاً إليه «بكلمات رقيقة»، مؤكداً بأنه يعده صديقا له، لكن الأوضاع تتطلب حجزه «لمدة من الزمن». يدفع ذلك إلى الاعتقاد بأن عبد الكريم قاسم لم يكن ينوي، في البداية على الأقل، تنفيذ حكم الموت بأحد، الأمر الذي أكده بنفسه مراراً، وفي مناسبات شتى كما ورد ذلك بوضوح في مذكرات اللواء المتقاعد فؤاد عارف القريب منه شخصياً، كذلك في مذكرات أحمد مختار بابان، وغيرهما. لكنه غيّر رأيه فيما بعد تحت ضغط الأحداث، وإصرار اليسار، وبعض المقربين منه ممن كانوا يحاولون أن يوحوا له، أغلب الظن، أن القزاز قصده هو بالذات من قوله بأنه سوف يصعد المشنقة ويرى تحت أقدامه أُناسا لا يستحقون الحياة.

من بين العشرات ممن مثلوا أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة، كان سعيد قزاز المتهم الوحيد الذي عبّر عن رأيه الصريح في المحكمة، فقد قال عنها دون تردد أن موقفها كان «منذ البداية موقفاً غير حيادي»، وكيف أنه شخصياً تعرض إلى «شتى الإهانات لا من رئيس المحكمة والمدعي العام فحسب، بل حتى من أفراد لا توجد لهم أي صفة رسمية»، ثم قال ما نصه:

«إن هذا الأمر أقنعني أن مصيري قد تقرر قبل البدء بالمحاكمة، وما دامت الحياة مكتوبة، وما دام مصيري معلوماً، وما دمتُ لا أهابُ الموت والمشنقة، فإنني أدلي بهذه الإفادة لكي أوصل صوتي إلى خارج هذه القاعة، إلى إخواني العراقيين، لكي أؤكد لهم بأنني (هتافات بالمطالبة برأس المتهم)، خدمتهم بإخلاص وأمانة لمدة تزيد على ثلاثين سنة، وإنني إذا ارتكبت خطأ فإن حقي في الدفاع عن نفسي قد حرّم عليّ. وأتي بي إلى هذا المكان لأتلقى سيولاً من الشتائم والإهانات من قبل المسؤولين ومن قبل فئة معينة. أحضرت هنا خصيصا لهذا الغرض، بدلا من الرعاية التي يسبغها كل قضاء حيادي حتى على أشد الناس إجراماً، حتى اللحظة التي تثبت بها الجريمة، ويصدر فيها الحكم».

واختتم سعيد قزاز كلمته التي رفعت محاكمته إلى مصاف أبرز وأهم المحاكمات التاريخية من قبيل محاكمة المفكر المبدئي توماس مور، بالقول نصاً:

«إنني تمكنت من تفنيد ادعاءات الشهود، ولم يثبت وجود حادثة معينة ارتكبت أنا فيها مخالفة قانونية. إنني أقف الآن وأرى الموت مني قاب قوسين أو أدنى، ولا ترهبني المشنقة، وعندما أصعد عليها سأرى الكثيرين ممن لا يستحقون الحياة تحت أقدامي، وأقف الآن بين يدي الله عز وجل لأقول كلمتي الأخيرة كمسلم لا أمل له إلا بعدالة خالقه العظيم، ولا إيمان له إلا بدينه الإسلامي الحنيف. أقف كعراقي خدم ثلاثاً وثلاثين سنة في تعزيز الوحدة العراقية المقدسة، أعلن على رؤوس الأشهاد بأنني فخور بما قدمت لوطني الحبيب من أعمال وخدمات، فخور بأنني كنت وزيراً فعالاً أعمل بوحي من ربي، وعقل في رأسي، وقلب في صدري».

ومما يدعو للسخرية حقاً، بل وإلى الاشفاق أكثر من السخرية بكثير، ان مثل هذا الكلام البليغ، الذي لم يقل مثله، في قياس الظرف والمكان، حتى دانتون أيام الثورة الفرنسية الكبرى، الذي كنت أتمنى، وأتوق مخلصاً إلى أن يقول الزعيم الكردي اليساري الماركسي الثوري عبد الله اوجالان عشر معشاره وهو يحمل في قلبه صورة فتيات كردستان اليافعات اللواتي أحرقن أنفسهن على رؤوس الأشهاد في قلب تركيا، وقلب أوروبا من أجله، أجل ان مثل هذا الكلام أثار الضحك من الحضور في قاعة المحكمة كما هو مسجل نصاً في محضر جلسة ذلك اليوم.