آمال ديمقراطية ترفرف في سماء غينيا

العسكر يتنازلون لمدني بعد أبشع مذبحة سياسية ونتيجة لضغوط العقوبات الخارجية

TT

حقا، إنه أمر نادر الحدوث في منطقة يسيطر عليه نظام تسلطي وحشي! لقد سلمت السلطة سلميا إلى شخصية مدنية بعد أربعة أشهر فقط من مذبحة قام بها الجيش، وأعادت إلى الأذهان الماضي أسوأ ما يحمله تاريخ القارة السمراء. في 28 سبتمبر (أيلول) الماضي، قُتل 150 متظاهرا على الأقل داخل الاستاد الرئيسي في كوناكري، وتعرضت أكثر من 100 امرأة للاغتصاب أو التحرش الجنسي، حسبما جاء في تقرير أعدته لجنة تابعة للأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه تعرض عدد كبير من المتظاهرين للضرب المبرح، وكان من بين هؤلاء رجل يشغل حاليا منصب رئيس الوزراء داخل غينيا.

وقد فاجأ هذا التغير السريع، وغير المتوقع، الغينيين، ويتساءلون: بحذر هل يمكن لرئيس الوزراء الجديد جان ماري دوريه، وهو قيادي معارض غادر الاستاد مخضبا بالدماء، أن يحقق الديمقراطية فعلا داخل بلد لم يشهد ديمقراطية في يوم من الأيام؟ ويرفرف في خلفية المشهد الغيني جيش له القول الفصل في السلطة منذ عقود، وربما يكون عنصر دعم محتمل للحكم المدني.

ويقول سيديا توريه، وهو زعيم معارض يحظى باحترام على نطاق واسع: «جاءت الأمور بسرعة كبيرة، ولم يكن ذلك في الأحلام قبل شهرين، إنها نظرة جديدة». ولا يزال الناس هنا يحاولون فهم كيف وقع هذا التحول. وتظهر علامة استفهام أكبر حول إمكان أن تعطي غينيا درسا حول مستقبل المنطقة. وربما كانت هذه المذبحة العمل الذي فك أسر بلد طالما عانى القهر. وتبعت المذبحة أحداث غير معتادة: إصابة خطيرة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي للديكتاتور العسكري موسى داديس كامارا خلال محاولة اغتيال، وبعد ذلك ما بدا وكأنه إذعان من جانب الرجل الثاني الجنرال سيكوبا كوناتي لنقل دفة الأمور إلى قيادة مدنية، وفي النهاية مشهد الأمل الأسبوع الماضي عندما تولى دوريه السلطة وتعهد بأن تشهد البلاد أول انتخابات حرة على الحقيقة خلال عام.

«ديمقراطية!»، بهذا صاح المواطنون بعد أن ترك رئيس الوزراء دوريه مطعما وسط المدينة ليلمس بيديه أيادي مناصرين من داخل سيارة «إس يو في». وللمفارقة، كانت تحميه مجموعة من الحرس الرئاسي الذين كانوا مسؤولين عن مذبحة الاستاد، وصاح الحشد: «إنه أنت: جان ماري».

ربما تكون غينيا الحالة النادرة التي أثمرت فيها العقوبات الدولية سريعا، حسب ما يذكر ساسة ودبلوماسيون هنا، فبعد كلام شديد وجهته الولايات المتحدة وفرنسا في أكتوبر (تشرين الأول)، صدر حظر على المساعدات والسفر، وكان لذلك أثر شديد داخل هذا البلد الفقير الذي يأتيه أكثر من نصف ميزانيته من الخارج.

وأجرت الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية تحقيقا حول مذبحة الاستاد، وركزت الأمم المتحدة على مجلس الحكم العسكري، ورئيسه كامارا، للنظر في ضلوعهم في جرائم ضد الإنسانية. وتزايد الضغط، وأذعنت الحكومة. وقال دوريه خلال مقابلة أجريت معه الأسبوع الماضي خارج اجتماع لأحزاب المعارضة السابقة: «نعرف حاليا إلى أي مدى يشعر المجتمع الدولي بالحساسية إزاء انتهاكات حقوق الإنسان بصورة عامة، والمجازر التي تجب المعاقبة عليها».

كانت المخاطر التي تحدق بالتجربة الديمقراطية الجديدة داخل هذا البلد واضحة خلال اجتماع أعضاء المعارضة السابقين. وتجمع ممثلو نحو 40 حزبا سياسية و30 منظمة. وجلس القادة، الذين كانوا قبل أشهر قليلة يبحثون عن مكان يختبئون فيه ويضمدون جراحاتهم بعد المذبحة، في الصفوف الأول وعلت صيحات الفرح بعد أن اختار الحشد متحدثا. وقال الرجل الذي اختير في النهاية، وهو رئيس الوزراء السابق فرانسوا لونسيني فال: «مات أناس من أجل ذلك. ولذا، فأمامنا مهمة تاريخية، وعلينا أن نعطي لبلدنا للمرة الأولى مؤسسات ديمقراطية».

ولن يكون ذلك أمرا سهلا داخل غينيا، التي ما فتأت يتعاقب عليها ديكتاتور تلو آخر على مدار 52 عاما منذ استقلالها عن فرنسا. أولا، جاء سيكو توري، الذي يتبنى النهج الستاليني، والذي بحث عن المؤامرات في كل مكان وقتل العشرات من المواطنين. وبعد ذلك جاء العسكري لانسانا كونتي، الذي نهب البلاد الغنية بالثروات، وكذا فعلت الزمرة التي أحاطت به. وفي النهاية جاء كامارا، الذي حكم حتى أطلق أحد حراسه الرصاص على رأسه مطلع شهر ديسمبر.

وامتزج الأمل بشعور بالحذر خلال هذا الاجتماع. ويقول موكتار ديالو، وهو رئيس حزب سياسي معارض، تعرض للضرب المبرح داخل الاستاد، وأجبر على الاختباء بعد ذلك: «هناك تقدم جديد واعد، ولكن تجب إدارة ذلك بصورة جيدة. نشعر بالتفاؤل، وعلينا توخي الحذر».

ويعتمد الكثير من ذلك على الجنرال كوناتي، وهو رجل عسكري ضخم الجسم، كان قراره بالسماح لقوى المعارضة أن تختار رئيس وزراء انتقالي - دوريه - عنصرا مهما في نزع فتيل الأزمة داخل غينيا. ويقول دبلوماسيون داخل غينيا إن الجنرال كوناتي، وزير الدفاع السابق في مجلس الحكم العسكري، يبدو غير مهتم بالحصول على نفوذ سياسي. وعلى عكس الضباط البارزين الآخرين، لم يكن متورطا في المذبحة، وحذر علنا من خطر السماح للجنود باغتصاب المدنيين.

وهناك شيء من الغموض يتعلق بدوريه، 71 عاما، على الرغم من وجوده منذ وقت طويل على الساحة السياسية الغينية، وهو من المنطقة نفسها التي جاء منها كامارا، وكفل ذلك له دور الوسيط بين قوى المعارضة ومجلس الحكم العسكري.

وقد وكل إلى دوريه مهمة تشكيل حكومة، تضم 10 ممثلين من المعارضة السابقة، و10 من مجلس الحكم العسكري، و10 من الحكومات الإقليمية، والإشراف على التحضر لانتخابات. وهناك منافسة قوية على هذه المناصب في الوقت الحالي، وتوجه انتقادات إلى دوريه بسبب تلكئه الشديد، بعد مرور أسبوع على توليه منصبه.

وانتخب دوريه مرتين لعضوية برلمان غينيا، الذي يعاني ضعفا إلى حد كبير، ولكن رفض الدخول فيه بعد انتخابات 2002، احتجاجا على تزوير الانتخابات، ومع ذلك أبقى الخطوط مفتوحة مع الشخصيات الديكتاتورية المتعاقبة داخل البلاد، حسبما ذكرت الصحف الغينية. وبخصوص مستقبل البلاد، نجد أن له ردود فعل محسوبة تناسب محترفا سياسيا، فقال: «لا يمكن أن أتنبأ بما سيحدث، ولكني أعتقد أن الجيش وقائده يفهمان ضرورة إنهاء هذا التفسخ الذي تعانيه غينيا».

*خدمة «نيويورك تايمز»