عراق ما بعد صدام.. كم يختلف عن عراق الصحف والفضائيات الخارجية

من المنفى... إلى العراق الذي استعاد نفسه

TT

* بعد سنوات طويلة من العيش في المنفى، عادت الزميلة انعام كجه جي والزميل علي المندلاوي الى العراق.. زارا المدن الحبيبة والاحياء العزيزة والاماكن الاثيرة.. واستعادا ذكريات الماضي البعيد في عراق مختلف تماما عن العراق الذي خلفاه وراءهما في الرحلة الى المنفى.. فالعراق هذه المرة من دون صدام حسين. هنا بعض من انطباعاتهما عن العراق الذي استعاداه.. واستعاد نفسه.

* عراق اليوم عراقان، عراق عربي، وعراق كردي، ولم يحدث في تاريخ الدولة الحديثة في العراق قط ان انعدمت نقاط السيطرة والتفتيش بين العراق العربي، والعراق الكردي، كما يحصل اليوم.

العراق الكردي الممتد شرقا وشمالا متوازن، منظم، فيه استرخاء، وبنى تحتية مكينة، وفيه ملامح رخاء وبناء جديد. في العراق الكردي احزاب، وبرلمان، وصحف، ومحطات ارسال اذاعية وتلفزيونية ارضية وفضائية للحكومة وللاحزاب.

وفي العراق الكردي الذي تحرر من نير صدام منذ بداية التسعينات من القرن الماضي مقاهي انترنت ومكاتب للاتصالات الدولية، وصحون تلتقط ما تشاء من فضائيات العالم، وفيه جامعات، ومعاهد للفن، ومحاكم، وشرطة، وجيش، وتجارة مفتوحة، ومعاهد للديمقراطية وحقوق الانسان، وطرق مفتوحة على العالم.

في العراق الكردي احزاب تحكم، واخرى لها مكاتبها وقواعدها تعارض، وفيه جيش اميركي لا يكاد يرى، فالاقليم آمن، والناس في وئام مع انفسهم ومحرريهم.

المحامي الكردي المستقل، الذي التقيته في ردهات احدى محاكم محافظة اربيل الكردية، ذكر لي ان تأثير وجود الاميركيين على الارض عزز قناعة الناس بالديمقراطية، وحرية الرأي، واجبر الاحزاب على التراجع عن بعض ممارساتها التي تنتمي الى الماضي.

المستشار السياسي لزعيم احد الاحزاب الرئيسية على الساحة العراقية، عزز كلام المحامي، واضاف عليه حقائق بدأت تحرث افكار السياسيين العراقيين بشكل عام.

المستشاراكد لدى لقائي به في مكتبه ببغداد ان الاحزاب والسياسيين العراقيين كانوا يفكرن بتسليم السلطة وبدء التغيير من فوق.

وقال المستشار «الاميركيون لا يفكرون بالسلطة ولا يهمهم الحكم، انهم يعملون بدون كلل لتهيئة الارضية الاساسية، وتمهيدها لاستقبال الديمقراطية. انهم يجمعون الناس، كل الناس، ويدعونهم الى انتخاب ممثليهم في المجالس البلدية، والعراقيون يستجيبون لدعوتهم. هذه هي الطريقة المثلى التي لم نستوعبها في البداية، ولكننا نستعجل الفهم، ونستقبل الدروس»، ويضيف «وللاميركيين اخطاؤهم ايضا، ولكن فضيلتهم انهم يعتبرون بالاخطاء التي يرتكبونها ويراجعون خططهم عندما تصطدم بمعوقات، ويعدلونها، وهو ما نجده نحن العراقيين صعبا، لكننا جميعا متعاونون، ونحاول ان نستفيد من اخطائنا، ونجد الحلول، ونطبقها».

وتعليقا على الموضوع نفسه شبه احد الرسامين من اصدقائي، المقيمين في بغداد، الاميركيين بانهم «مثل الاطفال الصغار الذين بدأوا اولى محاولاتهم في المشي، فهم لا يتعلمون السير الا بعد ان يتعثروا مرات ومرات، ويرتكبوا عدة سقطات مؤلمة».

العراق العربي مثخن بالجراح (بعض المغرضين من العاملين في الصحف، والفضائيات العربية، لا يزالون على عنادهم في تصوير هذا الجزء من العراق كعراقيين: عراق سني، وعراق شيعي، وهو ما رفضه العراقيون منذ الايام الاولى من سقوط النظام، ولا يزال). لكن مع ذلك العراق العربي موحد، وهو يتعافى بسرعة، ويستفيق، وينظم نفسه، رغم انه لا يزال يتلفت حوله بحذر وخوف، فظل صدام لا يزال ماثلا على الجدران. تسمع في بغداد من يسأل: هل صحيح ما حدث، وما يحدث؟ هل نصدق بأن القتلة رحلوا، وبامكاننا ان نتكلم، ولا نساق الى المسالخ؟! صديق رسام جاء من بابل، وفي جمع من الفنانين ذكر بان البعثيين ارتكبوا مجازر مهولة، ففي احدى المقابر الجماعية التي عثروا عليها في محيط مدينته وجدوا باصاً دفن بركابه الاحياء. ثم التفت الي، وهمس في اذني، رغم كل هذه الفظاعات هناك من دعاني من زملاء المهنة الى القيام بعمليات ضد الاميركيين.. لا اتخيل هذا، الا يخجل مثل هؤلاء من انفسهم، وممن ضحاياهم؟! عراقيون في بغداد تحدثوا باعجاب عن معمم شيعي شاب خرج على شاشة التلفزيون، ليقول بان الخليج ينفق المليارات على خبرات، وعمالة، وخدم من شرق اسيا، وفي العراق هناك من يرفض الخدمات المجانية المقدمة التي يقدمها 160 الفا من خيرة الوية الجيش الاميركي، وخبرائه، اليس هذا بطراً، وقصر نظر وغباء؟! اخرون حدثوني عن مشهد عجائبي رأوه في احدى الساحات التي اختنقت ذات صباح بالسيارات اذ بادر شيخ معمم بالتقدم الى وسط الساحة، واخذ دور شرطي المرور وراح لساعات طويلة يفتح الطريق لهذا، ويغلقه على ذاك، والكل يحترم اشارته ويطيعها.

في بغداد حيث لا وجود للدولة، ولا للحكومة، وللشرطة، ولرجال الامن، وللاشارات الضوئية التي تنظم السير، ولكن، قدر كبير من الامور الحياتية اليومية تسير بانتظام والمتضررون من اعوان الرئيس الهارب ورجال امنه ومخابراته المهزومين يحاولون بكل ضراوة اعادة الساعة الى الوراء، فيقطعون الطريق على سائق تاكسي سبق ان جدعوا انفه ليأخذوا سيارته المتهالكة، كي يسلبوا لقمة العيش من افواه اولاده ويحرقوا كتبا مدرسية انتزع العراقيون رسوم وصور صدام عنها وفرص التقدم للملايين من اهل العراق، المهزومة على الالة التي تحدوها، فيقتلون جنديا هنا، ويفجرون انابيب النفط التي تأتي بلقمة العيش وفرص التقدم للملايين من اهل العراق، ويرمون قنابلهم جنديا هنا، ويجرحون جنديا هناك ويحطمون بعض المولدات الكهربائية التي تشغل اجهزة الشفاء في المستشفيات التي سبق ان امروا بنهبها وحرقها.

هؤلاء هم «رجال مقاومة» بعض الصحف والفضائيات العربية اللاهثة وراء كل خبر يسيء الى العراق واهل العراق.