مذكرات حاج ياباني: سرّ الإيمان يكمن في الحج

أدى الفريضة قبل 68 عاماً

TT

قبل 68 عاماً أدى الحاج الياباني (تاكيشي سوزوكي)، والذي أصبح يعرف فيما بعد بإسمه الجديد الحاج محمد صالح، أدى فريضة الحج للمرة الثالثة في حياته. وكتب مذكراته في الحج وأصدرها في كتاب عنوانه بالياباني (سيتشي مكة جورنيي) وتعني (الحج الى مكة المكرمة). وقامت في عام 1999 مكتبة الملك عبد العزيز بإصدار الكتاب تحت عنوان (ياباني في مكة)، وترجمه الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم وسارة تاكاهاشي.

لا يقف الكتاب على الجانب الحرفي لأدب الرحلات، ولكنه يجيد تصوير مشاعر مسلم من بيئة مختلفة تلامس قلبه وروحه معاني الحج الانسانية فيستجيب لها بشغف ويتلمس معانيها بشاعرية. فمناسك الحج وشعائره المختلفة تمثل ثقافة مختلفة يسعى الياباني الى استيعابها فاتحاً قلبه لسيل متدفق من المضامين التي قد لا يعيها آلاف الحجاج الآخرون.

في تلك الرحلة التي كانت في عام 1938 سافر (تاكيشي سوزوكي) إلى مكة المكرمة بالباخرة من مرفأ كوبة في اليابان وأنتقل إلى مصر مروراً بقناة السويس على باخرة مصرية، ثم صوب وجهه نحو السعودية لأداء مناسك الحج والإحرام.

في الفصل الثاني يتحدث عن وصوله للجزيرة العربية، وارتدائه ملابس الاحرام، يصف لحظة ارتدائه لملابس الاحرام: (حين حانت ساعة ارتداء ملابس الاحرام، كان جميع الحجاج في سعادة غامرة، وانطلقت السنتهم بالتلبية والتكبير، بينما كانت دموع الفرح والسعادة تنهمر أحياناً من عيون بعضهم.. لا يمكن أن أشاهد في أي مكان آخر مثل هذه المشاعر الجياشة، والأحاسيس العميقة، والعواطف الحارة، إلا في هذا المكان، وفي تلك اللحظات بالذات.. كان الحجاج يرتدون ملابس الاحرام، لا فرق بين غني وفقير، كنا جميعاً نرتدي نفس الملابس، المصنوعة من قطعتين من القماش الأبيض، ففي الحج يتساوى الجميع). في طريقه من الفندق الذي سكنه بجوار البيت الحرام، كان يمشي في درب ضيق تحيطه الجبال والبيوت، ويقول أنه كان يتلمس الأرض بخشوع وهو يستحضر التاريخ الاسلامي ويشعر أن (هذا الطريق الضيق المظلم موجود منذ 1330 سنة يقود المسلمين المؤمنين الى طريق الكعبة. (في الطواف، كما في المسعى بين الصفا والمروة، يطلق الحاج الياباني مخيلته لكي تتعقب ما وراء الأعمال التي يؤديها الطائفون والساعون، فهذه الأعمال ليست مجرد حركات رياضية، فهو يشاهد مجموعات (البدو تهرول بينما شعورهم بدت منكوشة، وكان هناك أناس أصابهم التعب الشديد، فأخذوا يتحركون بصعوبة، وهناك عجوز محمول داخل شيء أشبه بالقفص، وهناك رجل غطاه العرق الغزير المتساقط من أعلاه لأسفله، وزوجة تتساند على كتف زوجها، وشاب يحمل أمه العجوز التي بدت على حافة الموت.. هذه هي قوة الإيمان، هذا هو سرّ الإيمان، من ذا الذي يستطيع أن يجد تفسيراً لكل ما يشاهد هنا؟)!في الكتاب أيضاً اقتراب من الثقافة العربية، فالحاج الياباني تعرف في رحلة الحج على علماء وثقافات وانماط سلوكية في العالم العربي وفي الجزيرة العربية بنحو خاص، فهو يكتب عن طبيعة الزواج في الجزيرة العربية ويقول: بشكل عام، لا يسمح للفتاة العربية بأن تظهر نفسها أمام الآخرين، حين تبلغ الثامنة من عمرها، ويجب أن تقضي معظم وقتها في غرفة الحريم، فإذا ما خرجت من البيت يجب أن تلتزم بالحجاب، والأسرة المتمسكة تماماً بتعاليم الإسلام لا تسمح للمرأة بالخروج من البيت.

يتحدث فيما بعد عن رحلة الحج الى المشاعر، فقد كانت السيارة التي اقلتهم الى عرفات تعلق بالرمل في كل مرة، وكانت أحياناً تصطدم بالجمال التي تنقل الحجاج الى عرفة، وكان هذا الحاج من بين عدد قليل من الحجاج الذين توفرت لهم سيارة تقلهم في ذلك الوقت، ويصف باعجاب ان خيام عرفة تستوعب 150 الف حاج.

وكما في كل الكتاب، فإن الحاج الياباني يحاول وهو يتحدث عن المشاعر أن يأخذ لقطات (فلاش باك) من التاريخ الاسلامي، فهو تارة يتحدث عن معاناة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأخرى عن كفاحه لنشر الدعوة، وكيف حطم الاصنام، وماذا كانت عادة العرب في جاهليتهم وفي صدر الاسلام، وهكذا.

يصف مشهد الزوال في عرفة: بعد أن ارتقت الشمس في السماء، اشتدت حرارتها أكثر فأكثر، وظهر الناس الذين صعدوا قمم المرتفعات على جبل عرفات كالنمل الأبيض، وكنا نحن أيضاً ضمن هذا النمل، حاولنا أن نصعد جبل الرحمة وسط هذا الزحام الشديد.. ففي أعلى قمة جبل الرحمة يوجد المكان الذي وقف فيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلقي خطبة الوداع، وهذه معلومة أوردها الحاج الياباني وليس لها مصدر ثابت، بل ان المصادر تتحدث أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) خطب في بطن الوادي وليس في اعلى الجبل.

ثم يتحدث عن مزدلفة، وهي أيضاً خليط من أدب الرحلات ووصف طبيعة العمل وتاريخيته وراهنيته التي تحفر في النفس معاني مفعمة بالشفافية، وهكذا الحال في رحلته في اليوم التالي الى منى، ورمي جمرة العقبة.

في ختام المذكرات، يفرد عنواناً للحديث عن المطر في مكة، فالرياح الجافة الحارقة في الجزيرة العربية، تجعل التنفس من الصعوبة بمكان، وكان حالنا كحال القطة في الصيف، لا تريد أن تتحرك كثيراً، ولكننا بعد فترة نشعر بضرورة الحركة. كنا نشتاق الى المطر.. قال بعض الناس: لم نر المطر منذ سبعة أعوام!، لكننا فوجئنا برعد وبرق، وهطول أمطار شديدة جدا بعد منتصف الليل، (...) كانت الرياح تعصف، وتندفع الينا من النافذة، شعرنا بشدة الريح، وشعرنا بالسعادة التي لا أجد كلمات للتعبير عنها، فقد شعرنا كما لو كنا في فصل الخريف الياباني.. الهواء نقي طازج يميل الى البرودة المنعشة. أشعر براحة شديدة لم يخامرني مثل هذا الشعور حين رأيت المطر من قبل، لا يوجد ما هو أغلى وأثمن من أمطار الصحراء، لقد أصابنا اليأس، وفقدنا الأمل من امكانية مشاهدة الأمطار هنا وكان هذا المطر حقيقة رحمة من عند الله، كنت أحاول ان احتضن الأمطار، لكننا سمعنا بعض الناس يتصايحون على سطح المنزل ، ماذا حدث؟ أعتقد أن أهل مكة سعداء بالمطر!.