كانت معالم الدهشة بادية على محمد الهداف وهو يحملق بناظريه في بسطات باعة الخضراوات الذين كانوا يتخذون مواقعهم للتو في السوق الشعبية في مخيم المغازي للاجئين، وسط القطاع، إذ أدرك أنه سيعود بخفي حنين ولن يتمكن من بيع ما جلبه من بازلاء بسعر مرتفع نسبيا، كما كانت عليه الأمور في الأعوام السابقة، بعدما تبين له أن بسطات الخضراوات تزخر بالبازلاء التي يفضل الغزيون طبخها. وقد أصيب محمد الذي يقطن المنطقة الريفية الواقعة بين مدينة دير البلح ومدينة خان يونس، بالدهشة، لأنه كان يدرك أنه ضمن عدد قليل من المزارعين في القطاع يزرعون البازلاء بشكل مبكر، وفي ظروف بيئية خاصة حتى يتم قطفها في وقت مبكر، وبالتالي يمكن بيعها بأسعار عالية.
لكن دهشة محمد سرعان ما تلاشت عندما تبين له أن هذه البازلاء قد تم تهريبها عبر الأنفاق بكميات كبيرة، وهو ما أدى إلى زيادة العرض بشكل قلص من إمكانية بيعها بأسعار عالية. لم يكن هناك بد أمام محمد إلا التوجه إلى شوارع المخيم وأزقته في مسعى منه «لاصطياد» المتسوقين قبل أن يصلوا إلى السوق. وهناك المزيد من الخضراوات التي تقلص سعرها بسبب تهريبها من مصر إلى قطاع غزة. وعلى الرغم من عدم سماح إسرائيل بتوريد أي كميات من البصل والثوم للقطاع، فإن هذا لم يرفع سعر هذه السلع في القطاع بسبب تهريب كميات كبيرة منها للقطاع. وما يغري الناس هنا بشراء هذه الخضراوات هو حقيقة أنها في كثير من الأحيان أكثر جودة من الخضراوات التي يتم زراعها في القطاع.
خميس الدقة، أحد تجار الخضراوات يشرح أثر عمليات التهريب في خفض الأسعار، منوها بأنه لولا إغراق أسواق القطاع بكميات كبيرة من البصل لكان سعر الكيلو لا يقل عن خمسة شيكلات، لكنه يباع حاليا بشيكلين فقط. ويقول الدقة لـ«الشرق الأوسط» إن تدفق الخضراوات والفاكهة عبر الأنفاق غير مسبوق، حيث إن المهربين لم يكن يغريهم الربح الضئيل الناجم عن الاتجار بهذه الأصناف.
ومن الدلائل على دور الأنفاق في التخفيف عن الناس في ظل الحصار الخانق المفروض على القطاع هو حقيقة أن المواقع الإخبارية الفلسطينية على شبكة الإنترنت صدرت خبر وجود البطيخ والشمام في مدينة رفح الحدودية، وهما الفاكهتان المرتبطتان بالصيف فقط في قطاع غزة. بعد أكثر من ثلاثة أعوام من فرض الحصار، أصبحت الأنفاق تمثل دور الرئة بالنسبة للفلسطينيين في غزة. معظم ما يحتاجه الفلسطينيون بات يعتمد على الأنفاق وعملها. ابتداء من أدوات التنظيف المنزلية وانتهاء بالملابس ومستلزمات التجميل وغيرها. وأدت الأنفاق إلى ازدهار ما بات يعرف بتجارة الأنفاق التي باتت تستوعب آلاف الناس.
سلمان (38 عاما) هو أحد الشباب الذين مثلت تجارة الأنفاق نقطة تحول في حياتهم. فمن صاحب محل لبيع الأدوات الكهربائية، تحول إلى تاجر كبير تتناول تجارته الكثير من الأصناف. ويتاجر سلمان بالأدوات الكهربائية ومواد البناء والماشية، وطيف آخر من احتياجات الناس في ظل الحصار. بالقرب من بيته الكائن في المنطقة الوسطى من القطاع، أقام سلمان حظيرة كبيرة تأوي إليها المئات من رؤوس الماشية والأبقار التي يتم تهريبها عبر الأنفاق، حيث يقوم سلمان ببيعها على صغار التجار. وفي داخل الحظيرة يعمل عشرة عمال يشرفون على الماشية. وفي بعض الأحيان يرتفع عدد العمال إلى عشرين، لا سيما عندما يطلب الزبائن ذبح الماشية وسلخها. ويقول سلمان لـ«الشرق الأوسط» إنه في بعض الأحيان يعمل عماله على مدار الساعة لتلبية طلبات الزبائن. ولا يكثر سلمان من التواجد في الحظيرة، فهناك الكثير الذي يشغله في مجال الاتجار بالأصناف الأخرى. يعمل سلمان مع تجار مصريين يقومون بجلب البضائع من داخل مصر وإيصالها إلى الأنفاق في الجانب المصري من مدينة رفح، حيث يقوم سلمان وعماله بتسلمها من النفق، بعد دفع ما يتوجب دفعه لصاحب النفق. لا يميل تجار الأنفاق للكشف عن قيمة البضائع التي يشترونها من مصر حتى يتمكنوا من تقاضي الثمن الذي يسمح لهم بتحقيق أرباح معقولة.
وبخلاف ما يردده الكثير من الناس في غزة بأن التجار يتقاضون أرباحا عالية، فإن واقع الأمور يختلف، إذ إن تجار الأنفاق الفلسطينيين يدفعون لنظرائهم المصريين ولأصحاب الأنفاق، فضلا عن الدفع لعدد كبير من العمال، الأمر الذي يجبرهم على رفع أسعار السلع بشكل كبير حتى يتمكنوا من جعل هذه التجارة مربحة.
بعض التجار حرصوا على تقليص المبالغ التي يدفعونها في هذه التجارة، فقاموا بحفر أنفاق خاصة بهم. أحد هؤلاء التجار كان يدفع نحو 40% من ثمن السلع لأصحاب الأنفاق، فما كان منه إلا أن قام بحفر نفق خاص به، حيث يتخصص النفق في إدخال الأدوات الكهربائية والملابس. ويشعر التجار بأنهم في سباق مع الزمن، فيحاولون إدخال أكبر قدر من البضائع قبل أن يتوقف العمل في هذه الأنفاق لهذا السبب أو ذاك.
ويؤكد تجار الأنفاق أن الانطباع الذي تحاول إسرائيل تسويقه بأن الإنفاق مخصصة لتهريب السلاح والوسائل القتالية مضلل وغير حقيقي. ويقول صاحب أحد الأنفاق، والذي يرفض الكشف عن اسمه لدواع أمنية، لـ«الشرق الأوسط»، إن 90 في المائة من الأنفاق مخصصة لتهريب المواد والبضائع الأساسية وذات الاستخدام المدني. ويضيف أن النفق الذي يملكه متخصص بشكل أساسي لتهريب الأدوية، بالإضافة إلى بعض المواد الغذائية، حيث يقوم شركاؤه في الطرف الثاني من الحدود بتأمين هذه المواد وإرسالها عبر النفق حيث يتلقاها هو، ويقوم بتوزيعها.
ويضيف أن آلية العمل التي يتبعها بسيطة، حيث إنه يتصل بأصحاب بعض مستودعات الأدوية في قطاع غزة ويطلب منهم تحديد الأدوية المصرية التي يفضلونها لكي يقوم شركاؤه بشرائها وإرسالها إلى زبونه. ويضيف أنه يتفق مع أصحاب المستودعات على أن يتلقى هو وشركاؤه قدرا محددا من المال لقاء كل إرسالية. ويشير إلى أن بعض أصحاب المستودعات يقومون بالتنسيق مع مصانع الأدوية المصرية التي تقوم بإرسال الأدوية إلى رفح ويتسلمها شركاؤه ويرسلونها له.
ويؤكد أن عدد الأنفاق زاد بشكل كبير بعد تشديد الحصار إثر سيطرة حماس على القطاع، ويقدر عدد الأنفاق حاليا بنحو 900 نفق. وأكثر المواد التي يتم تهريبها عبر الأنفاق بالإضافة للدواء حليب الأطفال والمواد الغذائية وقطع غيار السيارات والوقود والملابس. ويقول إن أكثر من 5000 شخص يعملون في مجال حفر الأنفاق، وتجارتها.
تهريب السيارات هو أحدث «إنجاز» للعاملين في مجال تجارة الأنفاق. وفي حال تواصل تهريب السيارات فإن ذلك سيغطي النقص في عدد السيارات في قطاع غزة والناجم عن الحصار الخانق الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة والذي أدى إلى ارتفاع أسعار السيارات بشكل خيالي. أحد الذين يعملون في أحد الأنفاق المتخصصة في تهريب السيارات الحديثة من مصر إلى القطاع، أبلغ «الشرق الأوسط» بأن تهريب السيارة الواحدة وإعدادها للعمل في القطاع كان يستغرق أربعة أسابيع، مشيرا إلى أنه كان يتم تقطيع السيارة إلى أربعة أجزاء داخل مصر، ومن ثم يتم تهريبها عبر الأنفاق إلى القطاع، حيث يعاد تجميع الأجزاء مجددا في مدينة رفح وضواحيها، وبعد ذلك يعاد طلي السيارة من جديد. ولكنه يشير إلى إنجاز جديد، وهو أنه تمكن حاليا من إدخال سيارات كاملة من دون أن يتم تقطيعها. وقال شخص آخر على علاقة بتجارة الأنفاق لـ«الشرق الأوسط»، إن المهربين نجحوا مؤخرا في حفر نفق كبير بظروف تسمح بإدخال سيارات كاملة. وبحسب هذا الشخص فقد تم إدخال عدد كبير من السيارات عبر هذا النفق، من بينها 80 سيارة من نوع «هوندا سيفكس».
وعلى الرغم من أنه لا خلاف في غزة على الدور الحيوي الذي تؤديه الأنفاق في ظل الحصار المفروض على القطاع منذ أن فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية الأخيرة وشكلت الحكومة، فإن هناك تداعيات سلبية لها لا يمكن الجدل حولها. ويقول حامد جاد، الخبير الاقتصادي الفلسطيني، لـ«الشرق الأوسط»، إن تجارة الأنفاق أدت إلى أزمة سيولة كبيرة في القطاع، إذ إن التجار يقومون بدفع مبالغ ضخمة بعملتي الدولار والشيكل لنظرائهم المصريين لشراء البضائع ولتأمين توصيلها، الأمر الذي أدى إلى أزمة سيولة.
ويوضح جاد أن ما جعل الأمور أكثر صعوبة، هو واقع أن إسرائيل توقفت عن السماح للبنوك الفلسطينية والعربية العاملة في قطاع غزة بجلب مبالغ كبيرة من المال من فروعها في الضفة الغربية، مع العلم بأن البنوك الإسرائيلية أوقفت تعاملها مع البنوك في غزة، إثر إعلان إسرائيل قطاع غزة ككيان معاد. وأشار جاد إلى أن النتيجة كانت أن قطاع غزة أصبح بلا عملة صعبة، الأمر الذي جعل البنوك في كثير من الأحيان عاجزة عن دفع رواتب الموظفين الذين يحصلون على رواتبهم عبر البنوك.
وفي الوقت نفسه، فإن العمل في الأنفاق هو في الحقيقة مهمة محفوفة بمخاطر جمة جبت أثمانا باهظة من الفلسطينيين. فنحو 130 فلسطينيا قتلوا جراء أعطاب فنية أو قصف إسرائيلي أو بسبب الأمطار الغزيرة. جمال (24 عاما)، من مدينة رفح، يعمل في أحد الأنفاق، مهمته استقبال البضائع داخل النفق، وقال جمال لـ«الشرق الأوسط» إنه قبل دخول النفق وأثناء وجوده فيه يحرص على تكرار ذكر الشهادتين حتى تكونا آخر ما يصدر عنه في حال توفي جراء هذا السبب أو ذاك. وما يقوله جمال يشي بحجم المخاطر التي ينطوي عليها العمل في الأنفاق. ومن أسباب الوفاة في الأنفاق التعرض للماس الكهربائي.
ويقول أحمد (32 عاما)، الذي يعمل منذ عامين في مجال الأنفاق، إنه نظرا للحاجة لتشغيل محركات ضخمة تستخدم في رفع البضائع والإضاءة وتشغيل المصاعد، فإن الأنفاق تعتمد على خطوط كهرباء ضغط عال (3 فاز). ويضيف أحمد لـ«الشرق الأوسط» أن «الكارثة أنه لا يتم استخدام أجهزة أمان تقوم بفصل التيار الكهربائي عند حدوث ماس، وبالتالي فإن حدوث ماس كهربائي داخل النفق يؤدي قطعا إلى وفاة أو إصابة العاملين بشكل خطير». ويشير أحمد إلى أنه لما كان المجال الذي يتحرك فيه العمال ضيقا، فإن حدوث ماس كهربائي يؤدي إلى إصابة عدد كبير من العاملين. ويضيف أنه في بعض الأحيان تتعرى أسلاك الكهرباء جراء الضغط وارتفاع درجة الحرارة أو جراء الاحتكاك بالمواد الحادة، فيؤدي ذلك إلى حوادث الماس الكهربائي.
وهناك مصادر أخرى للموت المفاجئ داخل عتمة النفق، فكثير من المواد التي يتم تهريبها داخل الأنفاق ذات رائحة نفاذة جدا، مثل الكلور والعطور، وفي بعض الأحيان تُسكب العلب التي تحتوي على هذه المواد فتتسرب إلى داخل الأنفاق. ويشير خالد (35 عاما)، الذي يعمل في الأنفاق، إلى أنه نظرا لأن لعدم وجود أجهزة لتهوية الأنفاق، فإن بقاء المواد النفاذة يصيب العاملين بالاختناق. ويروي خالد لـ«الشرق الأوسط» عن تجربته المرة في هذا المجال، حيث إنه في أحد الأيام شعر بالاختناق، وكان ليقضي عليه لولا أنه كان قريبا من نهاية النفق، فصعد هو ومن كان معه ريثما ينتهي تأثير هذه المواد. وأشار إلى أنه بعد أن عاد للنفق تبين له أن إحدى مواد الطلاء قد تسربت من علبة في النفق فانتتشرت الرائحة لتخنق من كانوا في النفق. ويتحدث خالد عن سبب آخر للأذى داخل الأنفاق يتمثل في عمل الأخطاء البشرية الناجمة عن التعامل مع خط السحب، وهو عبارة عن خط نقل معدني يتم عليه نقل البضائع من الطرف المصري للطرف الفلسطيني للنفق.
ويشير خالد إلى أنه نتيجة التعب والإعياء يغفل بعض الناس العاملين في الأنفاق ويضعون أياديهم في مجرى الخط، فيقوم بقطعها. ويجزم بأن هناك الكثير من الأشخاص الذين بترت أياديهم جراء هذا الخلل.
ورغم المخاطر والسلبيات التي تنطوي عليها تجارة الأنفاق، فإنها تبقى مصدر الأمل الوحيد الذي يمنع حدوث كارثة كبيرة في ظل الحصار، وهذا ما جعل حكومة غزة والفصائل الفلسطينية والجماهير في القطاع تنظر بحساسية شديدة لقيام مصر بالشروع في حفر جدار فولاذي على طول الحدود الفاصلة بين القطاع ومصر لوقف عمل الأنفاق.
وقد نجح بعض عمال الأنفاق في تعطيل أحد الحفارات التي تستخدمها السلطات المصرية لحفر الأرض تمهيدا لتركيب الجدار الفولاذي على الحدود مع قطاع غزة. كما تعهد المهربون بأنهم سيجدون طريقة مناسبة لمعالجة الجدار وتجاوزه. ويذكر أن عددا من المجهولين قاموا بإطلاق النار من الجانب الفلسطيني للحدود على الأطقم التي تعكف على العمل في الجدار.
وطالب المجلس التشريعي الفلسطيني الرئيس المصري حسني مبارك بالتدخل لوقف إقامة الجدار الفولاذي الذي تبنيه مصر على طول الحدود مع قطاع غزة. واعتبر النائب الأول لرئيس المجلس التشريعي الدكتور أحمد بحر أن إقامة الجدار تفاقم مخاطر الحصار، وتزيد من معاناة الشعب الفلسطيني. وطالب السلطات المصرية بتطبيق تعليمات الرئيس مبارك الذي أعلن أنه لن يسمح بتجويع الشعب الفلسطيني تحت أي ظرف، داعيا الجامعة العربية ومجلس الشعب المصري وكل الجهات في العالم العربي والإسلامي للتدخل لوقف أي إجراء يفاقم من أثر الحصار على الشعب الفلسطيني. وأصدرت اللجنة القانونية في المجلس التشريعي تقريرا اعتبرت فيه إقامة الجدار مخالفة للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني. وأشارت اللجنة إلى أن إقامة الجدار جاءت لخدمة المصالح الإسرائيلية وليست لها علاقة بالمصلحة الوطنية، محذرة من أن تشييده سيؤثر على المصالحة الوطنية، في إشارة إلى إمكانية أن تواصل حماس موقفها من الورقة المصرية.