إيران والعراق.. وحروب الحدود

أبرز الخلافات الحدودية ترتبط بموضوع حقول النفط المشتركة وسوف تحل تلقائيا بعد ترسيم الحدود بين البلدين

جنود إيرانيون يتمركزون بالقرب من بئر النفط في فكة على الحدود العراقية - الإيرانية (رويترز)
TT

لا يختلف اثنان على أن حدود العراق مع إيران تشكل إحدى المسائل التي تسببت في إثارة الكثير من النزاعات في تاريخ العراق، لا سيما أن العلاقات بين البلدين اتسمت وعبر التاريخ بالشد والجذب، وغلب عليها التوتر والعداء في مراحل كثيرة، ابتداء من العهد العثماني حينما كان العراق تحت السيطرة العثمانية وحتى اليوم، وهذا على الرغم من أن الحكومة العراقية الحالية تعتبر (بحسب مراقبين) حليفة لإيران، لا سيما أن غالبية الأحزاب المشاركة في العملية السياسية كانت تعد إيران المأوى الآمن لها من النظام السابق، الأمر الذي لا يسمح للطرفين بالانجرار إلى مواجهات قد تفقد بريق العلاقة التي تربط البلدين بالرغم من حساسية القضايا المثارة الآن بين البلدين. ولم تكن قصة احتلال إيران لبئر نفط داخل الأراضي العراقية إلا صفحة جديدة من كتاب الخلافات بين البلدين حول الحدود.

ترجع أصول الخلافات العراقية - الإيرانية إلى الخلافات الناشئة حول ترسيم الحدود بين البلدين، وقد بقيت هذه الخلافات مشكلة عالقة في العلاقات الإيرانية العراقية لا سيما حول السيادة الكاملة على شط العرب. في عام 1969 من القرن الماضي ألغى شاه إيران محمد رضا بهلوي من جانب واحد اتفاقية الحدود المبرمة بين إيران والعراق عام 1937، وطالب بأن يكون خط منتصف النهر هو الحد ما بين البلدين، لتحتل عام 1971 البحرية الإيرانية الجزر الإماراتية طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، وقطعت العراق علاقاتها بإيران في ديسمبر (كانون الأول) 1971، لتشمل الخلافات أيضا احتلال إيران المناطق الحدودية وهي قوس الزين وبير علي والشكرة. ففي عام 1972 بدأ الصدام العسكري بين إيران والعراق، وازدادت الاشتباكات على الحدود، وزاد نشاط الحركات الكردية المسلحة في الشمال، وبعد وساطات عربية وقعت العراق وإيران اتفاق الجزائر سنة 1975 واعتبر على أساسه منتصف النهر في شط العرب هو خط الحدود بين إيران والعراق، وتضمن الاتفاق كذلك وقف دعم الشاه للحركات الكردية المسلحة في شمال العراق.

عند وصول صدام حسين إلى رأس السلطة في العراق عام 1979، كان الجيش الإيراني جيشا قويا ضمن المنطقة على الرغم من الهيكلة وتعرُّض القياديين السابقين في الجيش إلى حملة اعتقالات بعد وصول الثورة الإسلامية إلى سدة الحكم في إيران. وشهد عام 1979 تدهورا في العلاقات بين العراق وإيران إثر قيام الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979. وترجع المصادر بدايات الحرب إلى الاعتداء الإيراني بقصف بلدات على الحدود العراقية في 4 سبتمبر (أيلول) 1980، فاعتبر العراق ذلك بداية للحرب فقام الرئيس الأسبق صدام حسين بإلغاء اتفاقية (الجزائر لعام 1975) مع إيران في 17 سبتمبر (أيلول) 1980، واعتبار مياه شط العرب كاملة جزءا من المياه الإقليمية العراقية، وفي 22 سبتمبر 1980 هاجم العراق أهدافا في العمق الإيراني، وبدأت إيران بقصف أهداف عسكرية واقتصادية عراقية.

كما أعلن صدام أن مطالب العراق من حربه مع إيران هي: الاعتراف بالسيادة العراقية على التراب الوطني العراقي ومياهه النهرية والبحرية، وإنهاء الاحتلال الإيراني لجزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى في الخليج العربي عند مدخل مضيق هرمز، وكف إيران عن التدخل في الشؤون الداخلية للعراق.

ويؤكد الإعلامي مزهر الخفاجي، الأستاذ في قسم التاريخ جامعة بغداد، أن كل الطروحات التي تشير إلى أن العراق كان مكانا للحروب على مر التاريخ، هي أمر بعيد عنه، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «عندما حصلت الحرب بين العثمانيين والفرس في القرن الرابع عشر كانت حربا بين الصفويين والسنة المتشددين، وليست لأسباب أخرى، لا سيما أن العراق عبر التاريخ لم يكن طاردا للأقوام، بل جاذبا له بسبب الموقع الاستراتيجي الذي يتمتع به، الأمر الذي جعل هناك ما يشبه التنافس الحضاري حوله». ويشير إلى أن «تعاقب الأقوام على العراق جاء جراء جذب العراق غير مرتبط بحجم العلاقة التي تربطه مع تلك الأقوام، بل أصبح شكلا من أشكال التحدي من هذه المناطق، فكلما ضعفت الدولة أرادت تلك الأقوام السيطرة عليها».

ويضيف أن «العراق وخلال حروبه المتعددة لم يكن له دور أو سبب فيها، فحين حارب جلجامش (ملك أورك) انتهاء بصدام كانت قرارات الحرب ذات طابع شخصي تتخذ عند الإحساس باقتراب الخطر»، لافتا إلى أن «الوقت الراهن يشهد معركة خفية من خلال الدور الإيراني الإقليمي في المنطقة، حيث عبر عنه الرئيس الإيراني أحمدي نجاد أخيرا بأن إيران هي الدولة الأكبر والقادرة على قيادة المنطقة إلى العقد القادم، ويقابل ذلك رفض إقليمي خجول لهذا الدور، فضلا عن وجود صراع خفي بين الدور الشيعي المتصاعد والدور السني المدافع».

ويتحدث عن الصراع الثالث، ويقول إنه «صراع استراتيجي، بين قوة ناهضة تعبر عن مشروع المقاومة المتمثلة بإيران والقوة الأخرى الاحتلال الأميركي»، معتبرا أن «أزمة احتلال بئر الفكة هي التي فجرت الحروب لا سيما أن الموقف الإيراني كان غير مقبول ولا يعبر عن دور إقليمي حقيقي». وعن الحلول التي تستطيع الحكومة العراقية الخروج بها من أزمة ترسيم الحدود، لا سيما أن هناك مطالب بإلغاء اتفاقية الجزائر، يقول الأستاذ في قسم التاريخ «إن كل الدول المجاورة للعراق تتجاوز على حدوده، وبالتالي فإن الحكومة ليس لديها بديل عن اتفاقية الجزائر إلا بالعودة إلى اتفاقية (أرض روم عام 1884 بين الدولة العثمانية والدولة الإيرانية) التي تظلم العراق، فضلا عن أن الوضع السياسي في البلاد لا يسمح بالتفاوض».

من جانبه، يؤكد محمد الحاج، الوكيل في وزارة الخارجية، أن حدود العراق مع إيران تصل إلى 1400 كيلومتر مربع، من الخليج العربي انتهاء إلى مثلث الترك، موضحا لـ«الشرق الأوسط» أن «تلك الحدود تتخللها الكثير من الجبال والأنهار والوديان وكذلك الأهوار في جنوب البلاد، والتي يصب قسم منها في شط العرب». ويشير إلى أن «هذه الحدود مرسمة سابقا ومتفق عليها بين العراق وإيران عبر سنين طوال»، مضيفا أنه «من المفترض ألا يكون هناك تصعيد حول هذه المسائل بين البلدين، خصوصا بعد عودة العلاقات الودية بينهما إثر الاتفاق على تشكيل لجان لإعادة ترسيم الحدود». ويؤكد أن «الدعامات الحدودية التي كانت موجودة تهدمت بسبب الحروب، وتحتاج إلى بنائها من جديد»، مبينا أن «أبرز الخلافات الحدودية ترتبط بموضوع الحقول المشتركة، وسوف تحل تلقائيا بعد ترسيم الحدود بين البلدين».

وحول الاعتداءات الإيرانية على المناطق الحدودية في إقليم كردستان، يقول «يبدو أن إيران تدعي وجود متسللين وحركات إرهابية في تلك المناطق فتحاول من خلال استهدافهم الحد من ممارساتهم لعمليات في العمق الإيراني، وهو أمر نرفضه سواء من قبل إيران أو من قبل الجماعات الموجودة على الأراضي العراقي التي نرفض أن تستخدم الأراضي العراقية منطلقا لعملياتها سواء ضد إيران أو تركيا».

وإذا كانت الحدود هي التي تحدد وتعين الأراضي والمساحات التي يحق للدولة أن تمارس عليها سيادتها وسلطتها ونفوذها من دون تدخل خارجي، فقد حدد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وظائف أخرى ومتعددة للحدود، منها:

(1) وظائف الأمن والدفاع وسلامة الوطن:

فالحدود هي نقاط ومراكز دفاع ضد الأخطار والغزوات الأجنبية، وكل ما يهدد سلامة وأمن الوطن، وللحدود وظائف أمنية أخرى في حماية الوطن من المهربين والإرهابيين.. وحماية البلاد من دخول الأوبئة والأمراض المعدية وغير ذلك.

(2) ضبط ومراقبة تنقل الأفراد:

وهي وظيفة مهمة تمنع دخول الأفراد غير المرغوب فيهم، خاصة إذا كانوا يشكلون خطرًا على الأمن، أو مطلوبين لدول أخرى ارتكبوا جرائم على أرضها، وكذلك تنظيم عمليات الهجرة وتدفق السلع والبضائع ورؤوس الأموال.. وحركات الأفراد والقوى العاملة ووسائل الإنتاج حسب ما تسمح به القوانين، فتمنع تهريبها ودخولها إلى البلاد، وينطبق ذلك على الصحف والمنشورات والكتب التي قد تسيء إلى العقيدة أو النظام العام، فيمكن عندئذ حظر دخولها.

(3) الاستغلال الأمثل للثروات والموارد الطبيعية:

فكل دولة تحدد حسب مصالحها الوقت والطريقة التي تستغل بها مصادر ثرواتها ومواردها الطبيعية، وغالبا ما تكون مناطق الحدود غنية بتلك المصادر سواء كانت مياها أو نفطا أو معادن أو غيرها؛ كما قد تثار حوله نزاعات مثل النزاع حول استغلال مناجم المعادن، كالفحم والحديد واستغلال حقول البترول وآباره.. كما حدث لحقل بترول الرميلة على الحدود بين العراق والكويت.

كذلك كانت المياه الحدودية سببا في الكثير من النزاعات حولها، خاصة فيما يتعلق بالصيد البحري وما ينشأ عنه من خلافات.

(4) حماية الاقتصاد الوطني والتنمية الاقتصادية:

ويتم ذلك بمنع دخول السلع والمنتجات الأجنبية الأكثر منافسة للسلع الوطنية، أو بفرض رسوم جمركية عليها؛ لخلق توازن في الأسواق والأسعار؛ لذلك تقام المراكز الجمركية على الحدود لضبط هذا الأمر حفاظا على الاقتصاد الوطني للدولة.

ويقول مسؤول أمني لـ«الشرق الأوسط» فضل عدم الكشف عن اسمه «إن الحدود ليست في صالحنا كما خططها الاستعمار». ويضيف أن «قضية شط العرب هي المشكلة الأساسية التي برزت الخلافات حولها، لا سيما أن حدود شط العرب تصبح حدودا يابسة من جهة الطرف الإيراني على العكس من جهتنا التي تتآكل، ويزحف منها باتجاه حدودنا، وعليه فإن خط التالوك تجاوز هذه المنطقة وفقا لاتفاقية الجزائر». ويشير إلى أن «أبرز الخلافات الحدودية بين العراق وإيران تتمحور في ثلاثة أسباب: السبب التاريخي، وأحلام الإمبراطورية الفارسية التي سقطها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، والسبب الآخر الخفي أن الحدود بيننا وبين إيران ليست من صالحنا خصوصا أن مدنهم تكون بعيدة عن الحدود عشرات الكيلومترات عكس مدننا المتاخمة للحدود، فضلا عن وجود اتصالات داخلية بين مجموعات سياسية معينة في البلاد مع إيران».

ويشير المسؤول إلى أن الولايات المتحدة «اتخذت موقف المتفرج من الأزمة الأخيرة مع إيران باحتلالها بئر الفكة، وهو أمر يثير الدهشة». ويتساءل «كيف سمحت لصدام حسين بالدخول للكويت وإخراجه والآن تتخذ موقف الصمت؟». ويقول المسؤول «إن العراق من الآن وحتى 2020 لن يستطيع الدفاع عن نفسه أو عن سيادته، وذلك لضعف الجيش العراقي وعدم امتلاكه الأسلحة التي تساعده على ردع أي اعتداء على أرضه».

وكانت حادثة استيلاء قوات إيرانية على بئر في حقل الفكة (قبل نحو أسبوعين) الواقع في محافظة ميسان إلى جنوب شرقي العاصمة بغداد بثلاثمائة كيلومترات، قد أكسبت إيران بذلك موضع قدم في منبع نفطي من أصل ثلاثة حقول يقدر مخزونها بـ 1.55 مليون برميل نفط، حقل يشمل سبع آبار نفطية وضع في جدول التراخيص في ثاني جولة مزادات عرضتها الحكومة العراقية أخيرا على شركات النفط العالمية، وهو يقع غير بعيد عن حقل مجنون الأضخم في العالم بمخزون يقدر بـ21 مليار برميل.

وقد استدعت بغداد السفير الإيراني وأبلغته احتجاجا على ما سماه العراق بانتهاك السيادة العراقية من قبل طهران، في إشارة إلى ما عمد إليه الجنود الإيرانيون من سيطرة على الموقع ورفع العلم الإيراني عليه، لكن الحكومة العراقية لم تبين طبيعة التحرك الذي ستقوم به للرد على هذه الخطوة الإيرانية. الموقف الإيراني تراوح بين نفي شركتها النفطية خبر التوغل ونقل وسائل إعلام عن قائد القوات البرية أن البئر محل التنازع إيرانية خالصة.

وكانت جهات أخرى أحالت المشكلات برمتها إلى اللجنتين المشتركتين بين البلدين للحدود المشتركة والخبراء النفطيين قصد التباحث فيما سمته الحدود التي يشوبها الغموض، داعية إلى ضرورة تنفيذ الاتفاق الجزائري في فض النزاعات الحدودية العالقة بين البلدين الحليفين.