بناء المنازل ذاتيا ينتشر بين المشترين الجدد في أوروبا وأميركا

حلول عقارية جديدة في عصر الكساد

مشاريع البناء الذاتي تنتشر خلال الكساد («الشرق الأوسط»)
TT

تشهد أسواق العقار الأوروبية والأميركية إقبالا جديدا على فكرة قديمة كانت قد ظهرت في بدايات القرن الماضي، وهي فكرة البناء الذاتي التي يتولى من خلالها المستثمر كل خطوات بناء عقاره الجديد بداية من شراء الأرض وحتى إضافة اللمسات الأخيرة على المنزل الجديد. ويستفيد من يقبل على هذه الخطوة، أو بالأحرى الخطوات، من عدة مزايا، منها الإعفاء الضريبي وتسهيلات من المجالس المحلية، وتوفير يصل في العادة إلى نحو 20 في المائة بالمقارنة إلى شراء العقارات الجاهزة أو من على الخريطة من شركات العقار.

ولكن الاستفادة الأكبر من مشاريع البناء الذاتي هي أن المستثمر يطور مشروعه بناء على التصميم الذي يريده وليس على ما تقدمه له شركة العقار. وكان هذا الأسلوب في الماضي يقتصر على الأثرياء فقط الذين يستطيعون استخدام مهندس معماري لرسم تصاميم الموقع من أجل تقديمها لإدارات إصدار تراخيص البناء. ولكن التكاليف الباهظة للمكاتب الهندسية يمكن توفيرها باللجوء إلى شبكة الإنترنت التي تتيح خيار تصاميم معمارية رخيصة الثمن نسبيا ولا تزيد تكلفتها في المتوسط على ألف دولار.

ويشتري المستثمر أرض الموقع الذي سيقوم عليه البناء كما يتولى بنفسه كافة الإجراءات الخاصة باستخدام مقاول بناء والتقديم على الخدمات الأساسية للكهرباء والغاز والاتصالات والمياه. وهناك العديد من النصائح التي يقدمها خبراء البناء، ويمكن للجدد الاستفادة منها في عملية البناء، كما توجد أيضا جمعيات يشترك الأعضاء فيها في بناء منازل بعضهم البعض، باستخدام خبراتهم المتراكمة.

ولكن هذه المشاريع ليست سهلة ويشبهها البعض بأنها مثل «حقول الألغام». وهي ليست فكرة جديدة، فقد ابتكرتها شركة أميركية اسمها «سيرز ريبوك» في عام 1908 وكانت ترسل مكونات المنازل (الخشبية) الجديدة التي يطلبها العملاء في عربات قطارات البضاعة ومعها مجلد فاخر لكيفية تركيب 30 ألف قطعة يتكون منها المنزل الجديد. وكان المشتري يختار من بين 44 تصميما تتيحه الشركة. أما التكلفة حينذاك فكانت تتراوح بين 600 دولار و4000 آلاف دولار للمنزل الفاخر. ولم تكن الشركة تطلب من المشتري أكثر من دولار واحد مقدم لحجز تصميم المنزل وبداية عملية التصنيع.

ويذكر أرشيف الشركة أن طلبية منزل واحد كانت تحتوي على «750 رطلا من المسامير و22 غالونا من الطلاء والورنيش و20 ألف قطعة خزفية للسقف». وكانت الشركة تقدر أجر النجار الذي يبني مثل هذا المنزل بنحو 450 دولارا.

وفي الولايات المتحدة تشهد كتالوغات سيرز شهرة في الوقت الحاضر ويستخدمها البعض لإحياء تقليد البناء الذاتي للمنازل وتوفير ما تفرضه شركات العقار من هوامش أرباح. ولكن البعض لا يرضى بمثل هذه التصميمات التقليدية التي تشبه إلى حد كبير ملايين المنازل القائمة بالفعل ويكمن شراؤها فورا. ولهذا تكتسب التصميمات الفريدة والخاصة أهمية في هذا القطاع الذي يريد المستثمرون فيه أن يبرزوا قيمة البناء الخاص على المنازل الجاهزة.

وبينما يعتبر البعض أن تكاليف مكاتب الهندسة باهظة، وهي تقريبا نحو 15 في المائة من تكلفة البناء، كان الحل هو اللجوء إلى الإنترنت وطلب تصميمات جاهزة بناء على مواصفات ومساحة قطعة الأرض. وفي مناخ الكساد الحالي الذي فقدت فيه مكاتب الهندسة المعمارية معظم عملائها، وجد الكثير من المكاتب أن الإنترنت تقدم فرصا جيدة، وإن كانت رخيصة، لاستمرار نشاطها.

أحد هذه المكاتب اسمه «هوميتا» في مدينة هيوستون الأميركية وبدأ نشاطه قبل شهور قليلة لتقديم أفكار عقارية جديدة لفئات من المشترين لا يستطيعون تحمل تكلفة مكاتب التصميم التقليدية. ويقدم المكتب الجديد خطط تصميم بأسعار لا تزيد على ثلاثة آلاف دولار ويضم في لائحة المصممين الذين يتعاون معهم العديد من المشاهير الدوليين الذين يعملون من مكاتب في عدة عواصم.

وتقول مكاتب التصميم إن أغلب أعمالها ما زالت في الأسواق الأميركية وبنسبة 80 في المائة، ولكن بعض الطلبات تأتي أحيانا من أماكن متفرقة حول العالم. أحد الطلبات كان من مدينة أكسفورد البريطانية لبناء منزل مكون من خمس غرف وخمسة حمامات. ولم يتكلف التصميم أكثر من 1300 دولار.

ولا شك أن النزعة إلى تصميم المنازل من المشتري نفسه تصاحب العديد من التوجهات الجديدة مثل اختيار المنازل الجاهزة وإدخال العديد من ملامح المحافظة على البيئة في منازل المستقبل. ويرى مهندس عقاري أن شركات تطوير العقار سوف تضطر في المستقبل إلى استشارة مكاتب التصميم أثناء مراحل بناء المشروعات الجديدة حتى يمكن للمشترين إدخال التعديلات المطلوبة قبل البناء وعدم اتباع أساليب الماضي التي كانت تبيع تصميما واحدا للجميع. فهذا يماثل في صناعة السيارات بيع كل السيارات بمواصفات ولون واحد، وهو أمر غير مقبول من المستهلك.

ولكن شركات تطوير العقار لديها خبرة طويلة في مجال البناء ولذلك يتعين على الجدد في هذا المجال عدم إغفالها بالمرة والاستفادة من خبراتها. وأول هذه الخبرات هي العثور على الأرض الملائمة للبناء. وتقبل شركات العقار على ذلك عبر شبكة علاقات مع المجالس الحكومية وسماسرة الأراضي، وهو ما يجب على المستثمر الخاص أن يفعله أيضا. فالمجالس المحلية يمكنها أن تنصح في العديد من المجالات بداية من فرص إتاحة الأراضي الصالحة للبناء وأيضا إمكانية الحصول على التراخيص والشروط التي يتعين على المستثمر الالتزام بها من أجل استخراج تراخيص البناء.

ويكشف الخبير مارك ويلسون، الذي عمل مع العديد من شركات العقار، عن وسائل اكتشاف الأراضي المناسبة عن طريق فحص الخرائط وأحيانا بدراسة سجل الملكيات ومعاينة الأحياء على الطبيعة. ويضيف أن الاتصال بوكلاء العقار المحليين مهم في التعريف بمواصفات ومساحات الأرض المطلوبة. ويجب توفير التمويل اللازم من قبل العثور على قطعة الأرض، لأن الأراضي الصالحة للبناء لا تبقى طويلا في الأسواق وتباع في أسرع فرصة للمشتري الجاهز من الناحية المالية.

النواحي العملية للبناء الذاتي متعددة وأهمها تدبير التمويل للمشروعات. ويختلف تمويل مشاريع البناء عن التمويل العقاري في أن البنوك لا تدفع المبلغ كله مقدما بل على مراحل كلما تقدم المشروع. وتوجد نحو أربع مراحل في مشاريع البناء يتخللها تقييم من البنك قبل تقديم الدفعة التالية. وفي الغالب تطلب البنوك أن يمول المستثمر نسبة 25 في المائة من التكاليف نقدا.

وتوجه الدفعة الأولى في التمويل إلى شراء الأرض، ثم تنتظر الدفعة الثانية الحصول على ترخيص البناء. وأحيانا تكون هذه الخطوة هي الأصعب بين كل مراحل مشروع البناء الذاتي نظرا لما تشير إليه تجارب شركات العقار نفسها. وتنقسم مراحل الحصول على ترخيص البناء إلى ثلاث خطوات: الأولى، هي شرح موجز لمواصفات المبنى المقترح وما يسعى المطور لتحقيقه من الموقع ودواعي اختيار الموقع بالإضافة إلى التصميم المرفق الذي يعزز رؤية المطور للمنزل الجديد. وتتاح هذه الوثائق لكل من يهمه الأمر في المنطقة للاطلاع عليها أو حتى الاعتراض قبل إبداء الرأي الرسمي. أما الخطوة الثانية فهي تبرير التصميم المقدم ومواءمته مع الأسلوب العقاري السائد محليا ويمكن إثبات ذلك ببعض الصور لملامح عقارية محلية تتوافق مع أسلوب البناء والتصميم العام للمنزل الجديد. أما الخطوة الثالثة والأخيرة فهي ما يعرف بلفظ «تنظيف» الترخيص العقاري من أي شروط من شأنها أن تجعل الالتزام بها باهظ التكاليف أو يحد من حرية التصرف في العقار. ويمكن تحقيق هذا عن طريق التفاوض والتفاهم مع الإدارات المحلية حول كافة التفاصيل لتوضيح الشروط لكل الأطراف. ويمكن هنا الاستعانة بالشروط المتاحة للعقارات الأخرى والصور التي تثبت المواصفات المطلوبة والمساحات المحددة لها بما في ذلك حدود العقار. والهدف النهائي لعملية تنظيف الترخيص هي تحديد أي تكاليف محتملة لشروط عقارية لم تكن في الحسبان.

ولا بد من وضوح الرؤية فيما سوف يكون عليه تصميم العقار النهائي من وجهة نظر المستثمر الخاص. وكلما اتضحت هذه الرؤية كانت مهمة التصميم سهلة سواء اشترى المستثمر التصميم من مهندس معماري أو من شركة تعمل على الإنترنت.

وتستغرق مرحلة البناء الذاتي للمنازل ما بين 12 إلى 18 شهرا من البداية وحتى استكمال بناء العقار، وهي فترة تتوزع بين استكمال التصميم والحصول على ترخيص البناء ثم استكمال البناء. وهناك العديد من المواقع التي يروي فيها مستثمرون كيف خاضوا تجربة بناء منازلهم الجديدة حتى أثناء فترة الكساد. ويقول أحدهم من مدينة ليستر البريطانية إنه اتصل بعشر شركات بناء ومثلها من شركات الزجاج والأخشاب والمكونات الأخرى لكي ترسل له شروطها وتكاليفها بناء على التصميم المقدم لهم على الإنترنت. واستجابت بعض الشركات له وقدمت له عروضا مختلفة يدرسها في الوقت الحاضر. كما يتابع في الوقت نفسه تقدم طلب الترخيص الذي يستغرق نحو ثلاثة أشهر لدراسته من المجلس المحلي ومناقشته في اجتماع عام. وتتاح الفرصة لجيران العقار للتعليق بملاحظاتهم على موقع إلكتروني بإدخال رقم طلب الترخيص.

وهناك أنماط معروفة من المستثمرين الذين يقبلون على مشاريع البناء الذاتي، منها العائلات أو الأفراد من صغار السن الذين يريدون تحسين العقار الذي يعيشون فيه ببناء آخر أفضل منه. وهناك مدمنو البناء الذاتي الذين ما إن يفرغون من استكمال عقار حتى يبيعوه ويبدأوا في عقار آخر. وآخرون يستغلون حدائق شاسعة حول عقاراتهم للبناء عليها. وهناك أيضا العجائز الذين يرغبون في مشروع يشغلهم بعد انفصال الأبناء عنهم، وأخيرا هناك مجموعة تريد التميز بابتكار منازل فريدة لها خواص بيئية وتصميمية غير متاحة في الأسواق. ويمكن التعلم تدريجيا بتعديلات في العقار الذي يملكه المستثمر فعلا قبل الشروع في بناء عقار جديد. وهناك مجموعة من المهارات المطلوبة ولكن البناء الذاتي لا يعني أن المستثمر سوف يبني بنفسه العقار الجديد من الأساس إلى اللمسات الأخيرة عليه. فلا تتعدى نسبة هؤلاء الذين ينفذون كل خطوات البناء أكثر من واحد في المائة من إجمالي البناء الذاتي. والواقع أن المقبلين على هذه المشاريع لا توجد لديهم كل المهارات أو الوقت اللازم لتنفيذ كل الخطوات بأنفسهم. ولابد من الاستعانة بخبرات مختلفة، إما لأن المستثمر لا يستطيع تنفيذها بنفسه أو لأنه يمكنه أن يحقق المزيد من الدخل بالعمل في مجاله وترك هذه المهام لآخرين. ولكن على الرغم من أن البناء الذاتي للعقار يمكنه أن يوفر الكثير من التكاليف ويتيح فرصة امتلاك العقار الذي يرغب فيه المشتري، فإن التجربة بوجه عام لا تخلو من متاعب وفقا لآراء العديد ممن خاضوها. وهناك العديد من المعارض المخصصة للمهتمين بالبناء الذاتي ويزورها سنويا أكثر من 60 ألف زائر في بريطانيا وحدها. ولكن العديد من هؤلاء يحلمون بالفكرة ولا يخرجون بها إلى حيز التنفيذ لأسباب متعددة منها صعوبة التمويل أو اليأس من إنجاز المشروع بسبب صعوبة التنفيذ وتعدد الخطوات والتعامل مع عشرات الجهات.