مصر: ظاهرة البناء بالطين والخشب.. محاولة لاستعادة فن الأجداد المعماري

تستعين بالخامات البيئية المتوافرة وتجمع بين قلة التكلفة والجمال

عودة البناء بالطين والخشب في الواحات المصرية («الشرق الأوسط»)
TT

في محاولة لاستعادة فن الأجداد المعماري، بدأت تنتشر ظاهرة البناء بالطين والخشب في العديد من المدن الصحراوية بمصر، مستعينة في ذلك بالخامات البيئية المتوافرة، وتجمع في شكلها العام بين البساطة والجمال، إضافة إلى قلة التكلفة، وهو الأهم، خاصة بعد ارتفاع أسعار الحديد والإسمنت والطوب، كما يقول المهندس جمعة حسين المشرف على بناء سلسلة وحدات سكنية لشباب الخريجين قرب مدينة موط بواحة الداخلة على بعد نحو 900 كلم جنوب غربي القاهرة.

وكانت مدن الواحات الصحراوية مثل سيوة والباويطي وموط وغيرها تشيد مبانيها بالطين والخشب بالفعل حتى منتصف القرن الماضي. وحل بدلا منها على نطاق واسع المباني الإسمنتية المبنية بالطوب الجيري. وكان هذا النوع من الطوب قد ظهر بكثرة منذ أكثر من ثلاثين سنة. ونشط في صناعة تقطيع الطوب بالآلات الكهربائية مئات الشركات، معتمدة في ذلك على الهضاب الجيرية بالساحل الشمالي الغربي بمصر.

ويقول حسين إن انتشار الطرق ووسائل النقل ورخص ثمن ذلك النوع من الطوب في ذلك الوقت، بالإضافة إلى توافر الإسمنت والحديد بأسعار مناسبة، أسهمت جميعها في القضاء على النمط القديم في البناء بالطين والأخشاب، مشيرا إلى أن أول من بدأ البناء بهذه الطريقة كان المصريون العائدون من العمل بالدول النفطية.

وهجر سكان مدن مثل سيوة والقصر وموط والباويطي البيوت القديمة التي كانت مبنية بالطين وأسسوا مدنا جديدة بجوارها مبنية بالطوب الحجري والإسمنت والحديد.

لكن ما الجديد الذي دفع سكان هذه المدن للتفكير في العودة للبناء بالطرق التقليدية التي هجرها معظمهم منذ نحو نصف قرن؟ يقول عبد الله جفيري، وهو صاحب شركة مقاولات من مدينة الخارجة بمحافظة الوادي الجديد، إن المباني الإسمنتية اتضح أنها «لا تلائم البيئة الصحراوية الحارة والجافة طوال العام هنا. لكن هذه الحقيقة ظهرت بعد أن بنى الناس بيوتهم الجديدة. في الوقت الحالي يوجد اتجاه للبناء بالخامات القديمة التي تعطي للبيوت من الداخل طراوة في الصيف ودفئا في الشتاء».

ويشير جفيري إلى أن فكرة العودة للبناء بالطين بدأتها بعض المشروعات السياحية الناشئة في مدن الواحات في الصحراء الغربية بمصر سواء من الشمال حيث سيوة أو من الجنوب حيث الباويطي وموط إضافة لمدينتي الداخلة والخارجة، مشيرا إلى أن بعض الفنادق والقرى السياحية التي بدأت في الظهور في تلك المدن خلال العقدين الماضيين، استلهمت البناء بالخامات البيئية من المدن القديمة التي هجرها سكانها بالواحات، مثل مدينة شالي (سيوة القديمة) أو القصر القريبة من موط، أو الباويطي القديمة.

وأصبح هذا النوع من البناء يعرف منذ عدة سنوات بـ«عمارة الوادي» التي أسس لها المعماري المصري المميز حسن فتحي. واستلهم فتحي هذا الفن المعماري منذ البداية من البيئة المحلية. واعتمدت فنادق وقرى سياحية على الطين والأخشاب في بناء منشآتها، في محاولة لاتباع خطى فتحي والتعديل فيها وفقا لما يتوافر في كل بيئة محلية على حدة. ومن ثم أخذت تظهر بعض المباني السكنية هنا وهناك على نفس الطراز.

ويستعين جفيري وعماله في عملية بناء البيوت، في أشكال دائرية ذات قباب ومستطيلة بأسقف بارزة، بالطين الموجود في الأرض مجانا، ويخلطه بالتبن والقش ليعطيه تماسكا، بعد أن يكون قد أسس للمبنى بقطع من الحجارة التي يأتي بها من الهضاب المجاورة. ويسقف البيت بالأخشاب ويكسوها من أعلى بطبقة من الطين. ويمكن أن يبني طابقا إضافيا فوق الطابق الأول. وبسبب طبيعة المدن الصحراوية فإن مسألة المساحة لا تمثل مشكلة، ولا توجد حاجة إلى البناء الرأسي، ولذلك يحل البناء الأفقي هناك مشكلة الطوابق المتعددة.

ويقول وائل عابد، صاحب منتجع «الطرفة لودج» الذي بناه بالكامل بخامات من الطين والأخشاب، إن هذا الاتجاه له العديد من الفوائد منها الحفاظ على حرفة تتميز بها عمارة الواحات، لأنها كانت لسنوات مهددة بالانقراض، بالإضافة إلى مناسبة هذه المباني للبيئة المحيطة بها. ويضيف أن «كبار البناة الذين عملوا في بناء المنطقة في السابق، أعطوا خبرتهم للبناة الصغار الذين شرعوا بالفعل في العمل على إحياء هذا النوع من العمارة قبل أن تندثر.. أعتقد أن مضمون ما يقومون به هو ما حاول أن يقوم به المعماري حسن فتحي فيما أصبح يعرف بعمارة الوادي».

وتبدأ عملية البناء وفقا لهذا النوع «القديم الجديد» بوضع الأساسات باستخدام الحجارة، بعرض وطول متناسبين مع الحجم الذي تريده للمنزل سواء من حيث الغرف أو الصالة. ثم يبدأ البناء باستخدام الطوب «الني» بعد خلطه بالتبن ليعطيه قوة، حتى ترتفع الحيطان الحاملة.

ويضيف عابد: «من خشب السنط المتوفر هنا، ويسمونه الخشب الحديدي، تصنع النوافذ والأبواب ودعائم السقف. أما حوامل السقف نفسه (الجمالونات) فهي عبارة عن جذوع النخيل»، مشيرا إلى أن «جريد النخيل بعد فتله بالحبال يدخل في استكمال مفردات المبنى الأخرى كإطارات للأبواب والنوافذ وأدراج في الجدران. يمكن من خلالها عمل آلاف الأشكال، منها الجريد المسلوخ والمضفور والسمبوكسات».

أما أرضيات المباني فتتكون من الحجارة أو «لياس الطين». وأصبحت بعض المباني الطينية تستغني عن الطلاء المعالج كيماويا الذي يباع في الأسواق، وتستعيض عنه بأنواع مختلفة من الألوان الطبيعية التي تتشكل منها التربة الطينية في الواحات، حيث إن كل درجة من درجات الألوان الطينية لها طبيعة ملحية خاصة، تظهر بوضوح على الجدران ما بين الألوان الحمراء القاتمة والبنية الفاتحة والصفراء الباهتة.

وما زال بعض أصحاب المباني الطينية الجديدة القديمة يستعينون ببعض الخامات والخبرات التي يقولون إنه لا غنى عنها. وهناك فنادق استعانت بمهندسين من القاهرة للإشراف على بناء حمامات السباحة، وعمل توصيلات الكهرباء، والصرف الصحي، لأنها «أشياء غير قابلة للخطأ»، كما يقول عابد، حيث إن مثل هذه الخدمات لم تكن معروفة لدى سكان الواحات المصرية فيما مضى.