في عالم اليوم لا يستقر نظام ما لم تتوافر له أربعة شروط، هي أن تقبل كتلة حرجة من المواطنين شرعيته، وأن يكفل الأمن، وأن يكفل وسائل المعيشة للسكان، وأن يحظى بقبول دولي.
نظام السودان رفع شعارا إسلاميا أفرغه من محتواه، مما كوّن ضده معارضة إسلامية واسعة. أما القوى السياسية غير ذات المرجعية الإسلامية، فتعارضه منذ البداية، وتحت عنوان الجهاد عمق الحرب الأهلية في البلاد، وحقق للطرف الذي يقاتله تعاطفا داخليا ودوليا واسعا، قال لي د. جون قرنق: «يستحق قادة انقلاب (الإنقاذ) أن نقيم لهم تماثيل في جوبا!»، مما انتهى إلى إجماع أهل الجنوب، عبر استفتاء، على الانفصال، وأخفق في تنفيذ بروتوكولي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، فانفجرت فيهما حرب أهلية.
الشباب بعضهم منضم إلى أحزاب، ولكن الأغلبية ليست كذلك، هذا القطاع هو الأكثر ضياعا في السودان، وغضبا من النظام، لأن أغلبيتهم عطالى وغاضبون عبروا عن موقفهم هذا بالانخراط في الفصائل المسلحة الكثيرة، وبالتطلع للهجرة خارج السودان، وبالانتماء لتيار احتجاج اجتماعي، كالحواتة، وبالانتماء لأنشطة جهادوية، أو بعنف اجتماعي وفردي غير معهود في السودان، أو بممارسات تهدم العفة أو تهدم الوعي، كالمخدرات.
واستعدى النظام قطاعات واسعة من السكان لممارسة كثير من قادته فسادا مجاهرا لا يغيب عن السمع والبصر.
هؤلاء جميعا يشكلون كتلة حرجة واسعة ترفض النظام وتجرده من أي شرعية.
أخفق النظام في كفالة المعيشة للسكان؛ نحو 20 في المائة منهم هاجروا من البلاد، ونحو 20 في المائة يعيشون على حساب المعونات الإنسانية الأجنبية، والبقية يعانون من البطالة، ومن ارتفاع جنوني في الأسعار، وحتى المستخدمون من موظفين وعمال يجدون مرتباتهم دون تغطية احتياجاتهم.
صحيح هنالك طبقة رأسمالية تعاني كثيرا من الضرائب ومن تنافس شركات تابعة لأجهزة حكومية. وكل شعارات النظام الاقتصادية أخفقت، كان حجم استيراد المواد الغذائية عندما أطلق شعار «نأكل مما نزرع» 72 مليون دولار، اليوم هو مليارا دولار، وحال شعار «نلبس مما نصنع» مماثل. النظام لا يكفل معيشة أهل السودان. وصار الناس إذ يذكرون تلك الشعارات يقولون: نضحك مما نسمع! حالة الأمن في البلاد مزرية؛ تواجه ست جبهات اقتتال أهلي، وفي بعض المناطق الأمن خارج المدن مفقود، ويعاني السكان في بعض المدن مظاهر جديدة على البلاد، كالاغتيالات الفردية واختطاف الأفراد، وبالقياس لحالة الأمن المعهودة في السودان، فإن البلاد تعاني اضطرابا أمنيا، ودرجة عالية من النزوح الداخلي، واللجوء الخارجي.
النظام لا يحظى بقبول دولي، وقيادته تواجه اتهامات جنائية دولية، والبلاد تشهد 47 قرارا ضدها من مجلس الأمن، تحت الفصل السابع، وتستضيف نحو 30 ألف جندي أجنبي للقيام بمهام أمنية في السودان.
إخفاق النظام في إدارة مالية البلاد سببه الصرف السياسي والأمني والإداري المبالغ فيه، ولكنه مطلوب لتمويل استمرار النظام، ولا يستطيع النظام القيام بخفض النفقات المطلوبة، مما يدفعه لتحميل الشعب أعباء تمويله.
رفع الدعم عن المحروقات لم يكن الأول، ولن يكون الأخير. كذلك الاحتجاجات التي واجهها النظام بعنف غير مسبوق ضد مدنيين عزل، لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، وإن كانت أكبر من سابقاتها.
فما المصير؟
في المراحل الماضية حدث نوع من التحالف المريض بين النظام ورافضيه، هم يعيشون على رفض عيوبه، وهو يعيش على عدم جدوى مشاريعهم:
- المقاومة المسلحة ناجحة في استنزاف النظام، ولكن تكوينها وأسلوبها وتحالفاتها لا تجعلها بديلا قوميا مقبولا.
- الاحتجاج الشبابي واسع ومؤثر، ولكنه كرصيفه في دول الربيع العربي، مشدود لشعار إسقاط النظام بلا خريطة طريق للمستقبل.
- المعارضة السياسية المدنية منعتها تناقضاتها الداخلية من اتخاذ برنامج بديل ذي جدوى، وهيكل قيادي ذي فاعلية.
حالة تعايش توازن انعدام الجدوى هذه بين النظام ورافضيه توشك الآن أن تزول:
- لأول مرة في تاريخ النظام تجهر قطاعات مهمة من أنصاره بالمعارضة، بل كذلك قطاعات مهمة من مؤسسات الدولة.
- أدركت القوى الثورية المسلحة أن الأجدى لتحقيق أهدافها تأييد الخيار السياسي القومي لبناء المستقبل.
- الدرس المستفاد للاحتجاج الشبابي على ضوء أحداث دول «الربيع العربي»، بل وأحداث السودان نفسها، أن إسقاط النظام وحده، حتى إذا تحقق، لا يجدي.
- أدركت القوى الأكثر شعبية في المعارضة السياسية المدنية أن حزمة تناقضات، حتى إذا جمعها رفض النظام، لا تجدي.
- ولأول مرة جهرت القوى الدولية الأكثر متابعة للشأن السوداني بأن الحلول الثنائية بين الحكومة والفصائل المسلحة لا تجدي، مما جعلها تعلن مباركة حل شامل لقضايا السلام والسلطة في السودان، بوسائل سياسية لا مساجلات قتالية.
هذه التطورات، لأول مرة، سوف تؤدي لموقف جامع يوحد القوى المتطلعة لنظام جديد على ميثاق يحدد خطوات المستقبل ووسائل تحقيقها سلميا، بوسائل حركية قد تبلغ الإضراب العام أو العصيان المدني الذي يجد تجاوبا من مؤسسات مفتاحية في الدولة، أو قد يقنع النظام بضرورة إجراء استباقي، كما فعل قادة جنوب أفريقيا لـ«كوديسا» سودانية، لا سيما في المعارضة رجال ونساء دولة تهمهم سلامة الوطن، لا الانتقام.
* رئيس الوزراء السوداني السابق وزعيم حزب الأمة