مطعم «زفريون» حكاية عشق يونانية إسكندرانية عمرها 80 عاما

تسمع فيه «الثرثرات» اليونانية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية والعربية بلهجاتها المختلفة

زفريون» من الداخل وهو يتميز برحابته وطاولات خاصة لأيام الشتاء القارس ومدخل مطعم «زفريون» مكتسيا بطابعه اليوناني
TT

على بقعة هادئة بشاطئ ضاحية أبو قير في مدينة الإسكندرية يقبع مطعم «زفريون» اليوناني. تتسلل منه رائحة الجمبري المشوي المختلطة بعبق اليود الذي ترسله أمواج البحر على المكان وعلى الحارات المحيطة بحكاياتها وذكرياتها عن الإسكندرية العتيقة ببساطتها ورقتها وعذوبتها.

خطوات تقطعها وسط المباني الضئيلة ذات الطابقين حتى تصل إلى مبنى مميز على ساحل الأبيض المتوسط، يكتسي بألوان العلم اليوناني الأبيض والأزرق، حيث يمكنك الاستمتاع بأشهى وجبة بحرية، مستمتعا بمذاق عند أطراف البحر الأبيض المتوسط اللامتناهي.

وأمام هذا المطعم البسيط والمتفرد في ديكوراته ستجد سيارات فارهة تصطف في مكان مخصص لها، ويلقاك نادل مهذب يساعدك على وضع سيارتك لتبدأ متعتك مع الأسماك الطازجة. وبمجرد أن تختار طاولتك ستقوم برحلة في رحاب «زفريون» الفسيح لانتقاء ما تلتهمه من أصناف المأكولات البحرية من الأسماك الطازجة والمحار واختيار طريقة طهيها. وتترامى إلى أذنيك ثرثرة يونانية إنجليزية وفرنسية وإسبانية وثرثرات أخرى غير مفهومة تختلط بها لهجات عربية.

وفي أثناء تلك الرحلة ستلاحظ رجلا ذا إطلالة تشير لهجته، الإغريقية مع العامية المصرية، بأنه ليس مصريا لكن روحه مصرية خالصة، يناديه الجميع الدكتور بيركليس.

ودائما تعتريه حالة قلق وتوتر ذهابا وإيابا يتابع كل حركة وكل إشارة للزبائن، يرحب بالقادمين ويودع المنصرفين، حريص على أن يتم كل شيء حسب ما يريدون.

التقت «الشرق الأوسط» بالخواجة بيركليس، صاحب المطعم، وهو من أقدم اليونانيين المقيمين في الإسكندرية. في البداية قيل لنا إنه يرفض الحديث مع الصحافة، فهو شخص متحفظ جدا في الحديث عن نفسه، إلا أنه آثر أن يفتح لنا قلبه ولم يمانع في الحديث رافضا التصوير: «ربنا يخليك، بلاش فوتوغرافيا»، قالها بعربية مكسرة. وقد لاحظنا رغم انفتاحه وشخصيته الاجتماعية الودودة أنه شديد التحفظ والتكتم في ما يخص ذكرياته.

يتنقل بيركليس من طاولة إلى أخرى يلقي النكات ويداعب الأطفال ويجامل السيدات بلطف ويحيي الرجال، مطلقا ضحكاته في المكان. وستعتقد من خلال متابعتك له أنه صديق شخصي لكل الزبائن، فغالبا ما يأخذ أحدا من ذراعه ويتحدث إليه، وفي ظل اندماجه يلتفت إلى أحد رواد المطعم فيحييه.

«كان في استوريا قصة كبير خالص، وظروف كتير وقصص ميكفيش سنة علشان نحكيه». هكذا فتح بيركليس قلبه بعربيته المكسرة، يروي حكايته مع المطعم التي جاءت «قدرية». فقد أسس والده المطعم منذ عام 1929، حينما كانت الجالية اليونانية من أكبر الجاليات في المدينة، إلا أنه كان مصرّا على استكمال دراسته في اليونان في مجال الطب، رافضا في ذلك الوقت مواصلة الإقامة في الإسكندرية. يقول عن سبب عودته إلى هذه المدينة: «جيت هنا علشان في واحد تلغراف جالي»، تلغراف أنبأ بمرض والده الشديد وأنه يحتضر. كان ذلك عام 1962، فهرع بيركليس من أثينا تاركا معطفه الأبيض وحيدا معلقا مع أحلامه في ممارسة مهنة الطب.

ذهب إلى والده الذي كان محتجزا في المستشفى اليوناني (جمال عبد الناصر)، والمدهش تطابق هذه القصة مع قصة والده مع جده، وكأن القدر يحتم على هذه العائلة أن تعيش وتسعى لرزقها في الإسكندرية.

ويقول بيركليس ضاحكا: «جيت علشان أقعد 24 ساعة أشوف والدي، لكن قعدت 50 سنة، والحمد لله، الحمد لله شربت ميه بتاع النيل ورجعتله تاني.. ربنا يخلي مصر والمصريين ويا رب تكون بلد آمن على طول».

ويستطرد: «أنا لما جيت كان اليونانيين كله ماشي، ما عدا حبة قليل، وحافظت على المحل بنفس تصميمه وشكله وديكور بتاعه.. البابا بتاعي اختار المكان دي وكانت مهجورة خالص، وكانت قريبة من الكامب بتاع الإنجليز، وكانوا هما زباين بتاع المحل، وكانوا بيقولوا عليه كازينو (زفريون)».

ويتنهد بيركليس متذكرا والده ووالدته ومعاناتهم في تأسيس المكان، حيث كان يجلب المياه العذبة من منطقة المنتزه التي تبعد نحو عشرة كيلومترات، إلى أن ذاع صيت مطعمه يوما بعد يوم.

كان «زفريون» أول مطعم يقدم الجمبري المشوي على مستوى مطاعم مصر، وأصبح مكانا يتهافت عليه النجوم وكبار الشخصيات المصرية والأجنبية.

وفي غمار الحديث عن الذكريات ينطلق نداء مستعجل أقرب إلى الاستغاثة من أحد النادلين في المطعم: «يا خواجة، يا خواجة.. يا دكتور بيركليس، الحكومة على التليفون». فيستأذن: «عن إذنك، ما اقدرش». إنها مدام فيفي، زوجته اليونانية التي تعرف عليها وتزوجها في الإسكندرية، وهي من أسرة يونانية عريقة كانت من أوائل الأسر التي استقرت بالإسكندرية. يتحدث عنها بيركليس بغاية الحب والود قائلا: «إنها زوجتي وشريكة حياتي، وهي من يؤازرني في إدارة المطعم والحفاظ على مستواه وسمعته»، ويضيف مبتسما «في إيدها كل حاجة».

وأخذنا بيركليس في جولة في أرجاء المطعم ليقف أمام كل لوحة من اللوحات الزيتية الرائعة التي تكسو الجدران، قائلا: «شوف، كل اللوحات دي من الأفكار بتاع الأنا، نقوله لواحد فنان يرسمه، هنا رسمت فكرة أبقراطيس أبو الطب لأني معجب بيه كتير، وفي الخلفية قلت للفنان يرسم جزيرة اللي اتولد فيها، والناحية التانية رسمت إسكندر الأكبر وفتوحاته في مصر وآسيا».

وإذا نظرت في الناحية المقابلة لها تجد لوحة عليها الملكة كليوباترا، وأخرى للأهرامات والنيل، وأخرى لواحة سيوة والطبيعة الصحراوية. وفي نهاية الجولة ستجد العلمين المصري واليوناني جوار صورتين لكل من الرئيس المصري ونظيره اليوناني.

ومن أشهر أطباق الأسماك التي يتميز بها «زفريون» البوري السنجاري والقاروس مع البطاطس وأطباق الجندوفلي الشهية والوقار المطهو بالطريقة اليونانية والسلطات الشهية الطازجة مع حساء السي فود.

وعن المأكولات التي يقدمها للزبائن، يقول بيركليس: «الله خلقنا بمعدة واحدة تتأثر بأي حاجة ولو صغير، علشان كده نقدم للزباين بتاعي اللي نحبه وناكله، ولا يمكن نقدم أي شيء وحش أو مش عاجبني، ولو شوفتو أي سمكة واحدة مش طازة نرميه، ولازم كل حاجة يبقى مية مية علشان زباين».

«لا يمكن أن يشوى السمك بالردة (الطحين الخشن) في (زفريون)»، هذا ما يؤكده بيركليس متحيزا للطريقة اليونانية في شي الأسماك بزيت الزيتون. ورغم اختلافها عن الطريقة المصرية فإن الزبائن يأتون إلى ضاحية أبو قير لتجربة هذا المذاق.

وبفخر وزهو شديدين يقول الخواجة بيركليس إن المطعم حائز على جائزتين من وزارة السياحة المصرية. ويضيف: «أنا نفسي أحافظ على تاريخ المحل لحد لما أموت». وينهي «زفريون» حديثه رغم امتلائه بالقصص والذكريات متكتما على كثير منها تاركا للزمن مهمة كشفها.

وعادة يبدأ «زفريون» في استقبال مريديه في الحادية عشر صباحا وحتى منتصف الليل تقريبا، وقد تمتد ساعات العمل في الصيف. ويستقبل بيركليس وفودا كثيرة من مختلف بلدان العالم، إلا أنه يستعد لاستقبال الوفود اليونانية بدءا من يوم 20 من كل شهر وحتى نهايته، وفي تلك الفترة تحديدا لا يستطيع أن يتلفت لأنه يلتقي بأحبائه وجيرانه ومعارفه، وعليه أن يروي لكل تلك الأفواج قصة المحل وذكرياته، حيث ينفرد به اليونانيون العاشقون لمصر والإسكندرية.