سالنجر.. العزلة والنساء

روايته «الحارس في حقل الشوفان» لا تزال من أكثر الكتب مبيعا بعد خمسين عاما من صدورها

سالنجر لم يسمح لأحد طوال 40 عاما بالاقتراب منه ما عدا النساء
TT

شكل جي دي سالنجر، الذي رحل قبل أيام قليلة عن 91 عاما، ظاهرة فريدة في التاريخ الأدبي للقرن العشرين من ناحيتين: الأولى، اعتزاله الأدبي والحياتي الطويل، الذي استمر أكثر من أربعين عاما. والثانية، انتشار روايته «الحارس في حقل الشوفان»، التي ترجمها إلى العربية الروائي الراحل غالب هلسا، انتشارا مدويا لم تحققه أي رواية أولى في القرن الماضي، حيث بيع منها ملايين النسخ حال صدورها عام 1951. والأمر الأغرب أنها لا تزال من الكتب الأكثر مبيعا حتى اليوم، بعد مرور نصف قرن. ويبدو أن الشباب والطلبة، في العالم الغربي بشكل خاص، لا يزالون يجدون أنفسهم في بطلها المراهق هولدن كوافيلد، البالغ ستة عشر عاما، على الرغم من التغير الهائل في أنماط الحياة، والانقلابات الهائلة في العادات والقيم والمفاهيم. لقد ترجمت هذه الرواية إلى 30 لغة، وباعت أكثر من 65 مليون نسخة، رغم الهجوم الذي تعرضت له من قبل بعض النقاد، وكذلك المؤسسات التعليمية باعتبارها تقدم نموذجا سيئا للطلاب من خلال هولدن المتمرد على عائلته ومدرسته، وبالتالي مجتمعه، والفاقد لأي قيمة أخلاقية. وجانب من هذا النقد صحيح بالطبع، ولكنه يحاكم عملا أدبيا من خارجه، وليس حسب منطقه الأدبي الداخلي الخاص. لقد اشتهرت الرواية هذه الشهرة الاستثنائية بسبب أنها عبرت آنذاك، وربما لحد الآن، عن حاجات دفينة في نفوس النشء والطلاب والمراهقين، وكشفت، اجتماعيا وأخلاقيا، عن عالم حجبته الكتب التعليمية، والمؤسسات التربوية المتزمتة، والوصايا الأخلاقية المثالية في مجتمع غير مثالي، بل منافق. من هنا، أحدثت «الحارس في حقل الشوفان» حين صدورها ذلك الدوي الهائل، الذي ظل محبوسا في الصدور لفترة طويلة، ثم وجد طريقه إلى الهواء الطلق. وربما لهذا السبب، تراجعت الكثير من المؤسسات التعليمية والتربوية عن إداناتها السابقة، وقررت تدريسها للطلبة.

هل أثقل هذا النجاح المذهل كاهل مؤلفه، فاختار الانعزال وهو في أول مشواره الأدبي؟ هل هو الخوف من فشل الكتاب التالي؟ لا أحد يدري على وجه اليقين. ولم يصرح سالنجر قط بشيء يمكن أن يفسر سبب اعتزاله، فلم يسمح لأحد طوال 40 عاما بالاقتراب منه ما عدا النساء، اللاتي سرعان ما يتركنه، أو يتركهن، ليعود إلى وحدته.

ولد جي دي سالنجر في الأول من يناير (كانون الثاني) عام 1919، في مدينة نيويورك. أكمل دراسته الابتدائية في المدينة نفسه، ثم أرسله والده إلى مكبيرني لإكمال الثانوية في مدرسة خاصة، لكنه طرد منها وهو في السادسة عشرة (وهو عمر بطله هولدن في «الحارس في حقل الشوفان»)، بسبب عدم انتظامه. وبعد ذلك، التحق بالأكاديمية العسكرية، التي تخرج فيها بعد سنتين. وكان في ذلك الوقت قد تعرف لفترة قصيرة على أونا أونيل، ابنة الكاتب المسرحي الأميركي الشهير يوجين أونيل، وكانت في السادسة عشرة من عمرها، وذات جمال صارخ. لكن علاقتهما انتهت بعدما التحق سالنجر بالجيش عام 1941، فتزوجت شارلي شابلن، الذي كان في الخامسة والخمسين، بينما هي في الثامنة عشرة. (وهذا ليس غريبا على شابلن). خرج سالنجر من الجيش منهار الأعصاب، فسافر إلى فرنسا للنقاهة، وهناك تعرف إلى طبيبة فرنسية لا نعرف عنها الكثير، لكن زواجهما لم يدم سوى 9 أشهر وبعدها عاد إلى أميركا، وبدأ يفكر جديا في الكتابة، فنشر عدة قصص في المجلات الأدبية، وبخاصة «نيويوركر»، ثم أصدر «الحارس في حقل الشوفان». وفي تلك الفترة، كثيرا ما كان يشاهد مصاحبا فتيات مراهقات إلى قاعات الرقص أو الساحات الرياضية. وفي عام 1954، تعرف إلى كلير دوغلاس، ابنة الناقد المعروف روبرت دوغلاس، التي كانت في التاسعة عشرة من عمرها، والتي تشبه كثيرا بطلة قصته «فراني غراس». وبعد سنة من تعارفهما، تزوجا، ولم يستمر الزواج طويلا أيضا. وفي عام 1961، نشر سالنجر «فراني وزووي»، التي استقبلها النقاد بحفاوة، لكنهم هاجموا عمله التالي «سيمور.. مقدمة»، على الرغم من أنها حققت مبيعات عالية.

بعد هذه السنوات، التي بذل فيها نشاطا مكثفا، أخذ سالنجر ينسحب داخل نفسه شيئا فشيئا، ويبتعد أيضا عن زوجته كلير دوغلاس التي أنجبت له طفلين. بدأ يترك البيت كثيرا ليقضي معظم أيامه في استوديو صغير أشبه بالقن. وكان يمضي في الغالب أسابيع متصلة هناك، طاهيا طعامه فوق موقد صغير. وأخذت زوجته تفقد قواها العصبية والجسمانية، ولم ينقذها سوى الطلاق الذي حصلت عليه عام 1967.

بعد خمس سنوات سيكرر سالنجر الحكاية نفسها مع شابة صغيرة أخرى، هي جويس ماينارد، التي اختارتها مجلة «نيويورك تايمز» غلافا لها عام 1972، احتفاء بها بعد نشرها مقالا عن جيل الستينات ينبئ بميلاد ناقدة كبيرة. كانت آنذاك في الثامنة عشرة من عمرها، وكانت تبدو كأنها «لوليتا اللوليتات». ومن غريب الصدف، إن قصة سالنجر «ابنة الثامنة عشرة تتطلع إلى الحياة» قد نشرت في العدد نفسه. كتب لها سالنجر رسالة إعجاب من معتزله، ولم تصدق الكاتبة الصغيرة عينيها. وقررت أن تترك كل شيء، عائلتها ودراستها، لتلحق به. وهذا ما حصل. كان الأب يريد لها أن تصبح كاتبة كبيرة، بدلا من أن تذوي تحت ظل سالنجر. وهذا ما أدركته هي نفسها، ولكن بعدما أصبحت في الرابعة والأربعين! كان سالنجر يغرق نفسه في الكتابة، وهي تتابع مشروعها عن كتاب جيل الستينات. لكن الخلاف بدأ يدب بسبب رفض سالنجر الإنجاب، وكان الطلاق.

بعد أشهر قليلة فقط، فعل سالنجر الشيء نفسه مع الممثلة ألين جويس، التي كانت في الخامسة والثلاثين. فقد تسلمت رسالة منه يبدي فيها إعجابه بتمثيلها، ولم تصدق عينيها أيضا. كان سالنجر قد أصبح آنذاك أسطورة حية، تدور الحكايات حوله، وعزلته الغريبة، وتتناقل الصحف أخباره الحقيقية والكاذبة. قضى الاثنان، كما قالت جويس، أوقاتا سعيدة. لكن سالنجر تركها نهاية الثمانينات بعدما تعرف إلى مخرجة شابة من هامبشاير، كان كل دورها أن تعيد على مسامعه ما يقوله الناس، فقد أصبح ثقيل السمع إلى حد كبير.

لكن شبحه الأكبر، الذي سيعكر عليه عزلته، هو تلك الشابة التي كتبت عن جيل الستينات وأطوار كتّابه الغريبة، ومنهم سالنجر، ونعني بها جويس ماينارد. إنها ستنتقم منه بالأداة نفسها التي حولته إلى أسطورة: الكتابة. فبعد عشرين سنة، ستصدر كتابها «إذا أردت حقا أن تسمع ذلك»، وهي العبارة الأولى في رواية «الحارس في حقل الشوفان». وصدر الكتاب عام 1999، بعد معركة كبيرة خاضها محاموه الذين حاولوا إصدار أمر من المحاكم بمنع صدور الكتاب «لانتهاكه حياة سالنجر الخاصة». لقد التزمت ماينارد الصمت، كغيرها، طوال سنوات طويلة حسب رغبة سالنجر، ولم تتحدث عنه، قبل صدور كتابها، سوى مرتين بشكل عابر. فقد قالت مرة في لقاء صحافي: «إن جيري (سالنجر) شخص منزو جدا كما تعرفون، وأنا أحترم عزلته تماما، كما وعدته منذ زمن طويل جدا. لكن ماضينا المشترك هو ملكي أنا أيضا. لقد غيرتني تلك العلاقة، فقد كان سالنجر قوة مؤثرة في حياتي، كما في حياة كل شخص آخر. وبعدما انتهت العلاقة أحسست بالضياع. لم يكن هناك أي مكان آخر في الأرض يمكن أن ألتجئ إليه». وذكرته في المرة الثانية حين أجرت معها إحدى الصحافيات لقاء قدمتها فيه بهذه العبارة «المرأة التي كانت صديقة سالنجر». وتقول ماينارد عن ذلك: «لقد أصبحت أرعب من الوصف الذي اختزل كياني كإنسانة وكاتبة». بعد هذا اللقاء، قررت ماينارد أن تقتحم عزلة سالنجر بعد نحو ربع قرن على افتراقهما. تقول عن ذلك اللقاء: «في المرة الأولى التي رأيته فيها، كنت فتاة مرعوبة منسحقة. كان بالنسبة لي الرجل الأقوى في العالم. وآخر ما أخبرني به هو أنني غير جديرة بإنسان مثله. لكنني حين زرته بعد كل هذه السنوات، أحسست بأني امرأة قوية في الرابعة والأربعين من عمرها. عرفت حينئذ أنه كان مخطئا».

اقتحمت ماينارد عزلة هذا الشبح القادم من الماضي، الذي هز العالم برواية واحدة، والذي لم تستطع نسيانه قط خلال 25 سنة، على الرغم من أنها عرفت رجالا كثيرين، وعاشت حياة عريضة منذ طلاقها منه. لقد ذهبت إلى سالنجر في عيد ميلادها الرابع والأربعين لتقول له، وهو يستقبلها مذهولا عند مدخل بيته الصغير الأشبه بقن دجاج، عبارة واحدة لا غير: «لقد تحررت منك إلى الأبد».