محاكاة خيوط العنكبوت لإنتاج الماء.. والأعصاب والعظام الصناعية

لها فوائد كثيرة يكتشفها علماء ألمان وصينيون

توصل العلماء الصينيون أخيرا إلى أن خيوط العنكبوت قادرة على «امتزاز» الماء من الهواء
TT

في واقع الحال ينسج العنكبوت خيوطا ليصطاد بها فرائسه من الحشرات، وهي خيوط لزجة وقوية وناعمة كالحرير.. إلا أن العلماء اكتشفوا خاصية جديدة لها يمكن أن تنفع الناس في الحصول على الماء في المناطق الجافة.

فقد توصل العلماء الصينيون أخيرا إلى أن خيوط العنكبوت قادرة على «امتزاز» الماء من الهواء وحتى في المناطق الجافة. وهذا ليس كل شيء، لأن هذه الخيوط الشعرية اللزجة تمتص مختلف الجزيئات السائلة من الهواء، ويرشح الماء منها طبيعيا. وقد نشر فريق العمل الصيني الذي يقوده لي جيانغ، من الأكاديمية الصينية للعلوم، خبر اكتشافهم في العدد الأخير من مجلة «نيتشر» العالمية العلمية المتخصصة.

العلماء الصينيون لاحظوا هذه الظاهرة بينما كانوا يراقبون تأثير الماء على شبكة العنكبوت من نوع «أولوبوروس فالكيناريوس» تحت المجهر، إذ تحولت الشبكة بتأثير الماء إلى كرة خيوط تتراقص على سطحها الخارجي قطرات الماء. واستخدم الباحثون وعاء بشكل حرف «يو» الإنجليزي، وضعوا فيه شبكة العنكبوت وعرّضوها إلى بخار الماء.

وظهر من الفحص، إضافة إلى الخواص الطبيعية الأخرى، أن خيوط العنكبوت تحتوي على «غرف» خاصة من حرير «سريبيللوم» المعروف بحساسيته للماء. وتتحول كل شبكة العنكبوت، بفعل هذا الحرير، إلى شبكة واسعة تمتص الماء وتعطيه عند الحاجة.

كذلك تتغير تركيبة شبكة العنكبوت تماما خلال عملية امتزاز الماء وترشيحه، كما لاحظ جيانغ وزملاؤه. فخيوط الشبكة الاعتيادية تتألف من خيطين حريريين متوازيين تنتشر عليهما ندب صغيرة شفافة ومتسلسلة، إلا أن تماسها مع بخار الماء يجعل جزيئات الماء تتكثف على الندب فتحولها إلى كريات صغيرة غير شفافة، ومن ثم يتحول النسيج بأكمله في النهاية إلى عقد طويلة تترتب بشكل حلزوني.

وكلما زاد امتزاز الماء زادت المساحة السطحية للكرات الخيطية، وتبدأ بترشيح قطرات الماء حينما تتشبع بالماء. ولقد تمكن العلماء بهذه الصورة من جمع الماء في قعر الوعاء وفحص خواصه تحت المجهر، فاتضح أنها قطرات ماء صالحة للشرب.

وحاليا، يخطط العلماء الصينيون لاستخدام هذه الظاهرة، ونسيج العنكبوت، لمساعدة مناطق الجفاف في العالم، وأيضا في المجالات الصناعية والتجارية. ونجحوا حتى الآن في مد شبكات العنكبوت على شبكة «مصفاة» أكبر مصنوعة من «النايلون»، وتمكنوا بهذه الطريقة من ترشيح الماء بكميات تجارية. ويفترض أن تنجح هذه الشبكات في سحب الماء من الهواء في المناطق الجافة ووضعه تحت تصرف البشر في تلك الصحارى.

وكتب لي جيانغ أن إنتاج الشبكات الممتزمة للماء من الهواء بكميات تجارية يتطلب العمل على شبكات واسعة وقوية من خيوط العنكبوت. وينكب العلماء حاليا على محاولة تقليد الطبيعة في صناعة خيوط العنكبوت وإنتاجها بشبكات واسعة في المختبر.

الجدير بالذكر أنه سبق أن نجح العلماء الألمان الشرقيون في إنتاج خيوط عنكبوت قوية جدا داخل مختبراتهم. وكتب ماتو كنيز، من معهد ماكس بلانك في مدينة هاله (شمال شرقي ألمانيا)، في مجلة «ساينس» الأميركية، أن قوة الخيوط التي أنتجت تؤهلها للاستخدام في صناعة الطائرات ومركبات الفضاء.

وتم إنتاج شبكات العنكبوت القوية من خلال معاملة خيوطها الطبيعية مع المعادن المتأينة تحت تأثير الضغط. وكانت الخيوط الجديدة أقوى عدة مرات من الخيوط الطبيعية، كما أن مرونتها وقابليتها على التمدد بلغتا الضعفين. وهذا يعني أن الخيوط المحسنة مختبريا قادرة على امتصاص الطاقة وتحريرها 10 مرات أكثر من خيوط العنكبوت الطبيعية.

من ناحية المكاسب العملية، يمكن استخدام الشبكات الصناعية حيثما يحتاج الإنسان إلى القوة والمرونة معا. وكمثل، فإن شبكة خيوط العنكبوت المعاملة مع المعادن المتأينة، يمكنها أن تتحمل ســقوط إنسان عليها، من ارتفاع عال، دون أن تنقطع أو أن تضر بالساقط، وهي تحتفظ من جهــــــة أخرى بلزوجتها التي تمنــــــع الأجسام الســــاقطة عليها من القفز مجددا في الهواء بعد الارتطام.

لكن المشكلة الوحيدة التي تواجه العلماء الألمان هي مشكلة العلماء الصينيين نفسها، أي عجز هذه الحشرات الصغيرة - أي العناكب - عن إنتاج الخيوط بكميات تجارية، وبالتالي، فلا بد من البحث عن بديل صناعي عنها في المختبر. ولكن مع هذا، في الأقل، يستطيع العلماء مستقبلا التعويل على تقنية خلطها، ولو بكميات صغيرة، مع البروتين البشري - الـ«كولاجين» - لإنتاج أجزاء العظام والأنسجة الرابطة في المفاصل للأغراض الطبية في مجال جراحة العظام والكسور.

من جهة أخرى، يتعاون توماس شويبل، من جامعة بايرويت (جنوب شرقي ألمانيا) مع الباحث سيباستيان رامنسي، من جامعة ميونيخ التقنية (بجنوب ألمانيا)، لإنتاج خيوط العنكبوت في المختبر. ويقول رامنسي إن فريق العمل نجح في إنتاج الكثير من أنواع خيوط العنكبوت في محاولة لتقليد الطبيعة، وصناعة خيوط يمكن أن تحدث ثورة في عالم صناعة الأنسجة والمواد الخفيفة مثل النايلون.. والمتينة مثل الحديد. إلا أن فريق العمل من الجامعتين الألمانيتين أمضى سنتين من العمل لإنتاج 5 سم فقط من خيوط تشبه خيوط العنكبوت إلى حد كبير وتتمتع بقوى شبيهة، جامعة بين مزايا المرونة والمتانة وخفة الوزن.

واستطاع شويبل أن يجد في البكتيريا المعوية المريضة «إيشريشيا كولي» بروتينات مشابهة لبروتينات خيوط العنكبوت. والمعروف عن البكتيريا المعوية من هذا النوع أنها معدية، ومن أشهر مسببات الإسهال، ولا تحتوي في تركيبتها سوى على كميات قليلة من هذه البروتينات. وهكذا تطلب الأمر العمل سنتين من أجل إنتاج 5 سم فقط من هذه الخيوط «السحرية».

يبلغ سمك الخيوط المنتجة من بروتينات البكتيريا نحو 5 ميكروميترات (5 أجزاء من مليون جزء من المتر)، لكنها قوية وخفيفة إلى حد أنها من الممكن استخدامها لصناعة الصدريات الواقية الخفيفة المضادة للرصاص. ورغم الاهتمام الذي أبدته وزارة الدفاع الأميركية في تطوير المشروع، فإن العلماء الألمان يخططون لاستخدام الخيوط القوية والغالية في الجراحة المجهرية وفي صناعة معدات وبذلات رجال الفضاء، وفي الصناعة النسيجية.

وما يستحق الذكر عن خيوط العنكبوت الطبيعية أنها تتألف من وحدات بروتينية خفيفة الوزن هي سر قوة الخيوط ومرونتها في آن واحد. ويقول العالم توماس شويبل إن وحدة بناء خيوط العنكبوت الواحدة تعادل وزن الإنسان حينما يكون الإنسان بوزن الكرة الأرضية، ولذلك فهي أصلب من الحديد ويمكنها بسهولة أن تتحمل وزن «الرجل العنكبوت» وهو يتنقل بها بين بنايات نيويورك الشاهقة.

وأخيرا لا آخرا، حيث فشل الآخرون، نجحت باحثتان ألمانيتان نالتا جائزة أفضل اكتشاف في المجال الطبي لعام 2007 لقاء توصلهما إلى إنتاج أعصاب احتياطية للإنسان من نسيج العنكبوت. كما ثبت أن النسيج المصنع من خيوط العنكبوت يمنع توسع الندب الناجمة عن الجروح، ويمنح مجالا لنسيج الجسم الطبيعي لترميم نفسه بنسيج من صلبه وليس من الألياف.

العالمتان، وهما كريستينا الميلنغ وزميلتها كيرستن رايمرز، توصلتا إلى نتائجهما بعد ثلاث سنوات من البحث في نسيج نوع من العناكب الاستوائية التي يطلق عليها اسم «نيفيليا». وذكرت رايمرز آنذاك أن هذا الجنس من العناكب الطويلة الساقين، الذي يبلغ حجم الواحدة منها حجم راحة الكف، تنتج خيوطا حريرية بالغة الدقة والقوة في آن واحد. وتعاونت الباحثتان، اللتان تعملان في جامعة هانوفر الطبية (شمال ألمانيا)، مع علماء قسم التقنية الكيمياوية في الجامعة ذاتها، لصناعة آلة تسحب الخيوط بطول مئات الأمتار يوميا من هذه العناكب.

وثبت للعالمتين، من خلال التجارب المختبرية على الحملان، أن مادة خيوط العناكب، من فصيلة «نيفيليا كالفيبس»، تحفز انقسام خلايا الجسم ولا يلفظها الجسم كمادة غريبة، ثم إنها تمتلك قدرة طبيعية على طرد البكتيريا. وتبين من التجارب أيضا أن النسيج المصنوع من خيوط العناكب قوي جدا بطبيعته، ثم إنه مشحون بالمواد الحيوية والبروتينات الطبيعية التي تدعم عملية بناء الأنسجة الطبيعية في جسم الإنسان. وكانت هذه الخواص مصدر اهتمام العالمتين للبحث في إمكانيات الاستخدام الطبي لهذه الخيوط.