«شياطين» محمود درويش تهبط في بيروت

جواد الأسدي يرقص توابيت الرحيل على إيقاع غنائي هستيري

نسرين حميدان تغني درويش بهستيرية المتألمين (تصوير: حسين بيضون)
TT

على مدى أربع أمسيات متواليات، يعود محمود درويش إلى بيروت، هابطا بأشعاره وآلامه على خشبة مسرح بابل، حيث تصبح «جداريته» مع ديوانه الآخر «لماذا تركت الحصان وحيدا؟» ساحة لأخيلة المخرج العراقي المعروف جواد الأسدي. استعادة درويش هذه المرة لها معنى آخر.

فجواد الأسدي المعروف بروحه الدرامية العالية وقسوته وتركيزه على كثافة الأداء عند الممثلين، يأبي إلا أن يستخدم كل أدواته لإبراز الغضب واللوعة والتمزق الشديد في حياة محمود درويش. يختار الأسدي مقاطع من أشعار درويش، الأكثر حزنا وإيلاما ويضيف إليها الكثير من التشتت العراقي والتمزق الذي يحمله في داخله طازجا ومتأججا.

حفاة، شعثو الشعر، منهكو الملامح، تغمست أرجلهم أو أيديهم بالأحمر القاني، أو نبتت على أطرافهم خضرة، ربما كناية عن الشجر إلى جانب الدم، يأتينا الممثلون على خشبة أريد لها أن تصغر وتضيق لتحشرهم في مساحة مضغوطة، تزداد ضيقا بهم، بسبب العتمة التي غالبا ما ترافقهم.

عمد جواد الأسدي إلى اختصار المسرح بمساحة صغيرة بعد أن وضع على الجانبين حائطين معدنيين يبدآن منفرجين ثم يضيقان، وكأنما يشكلان مع حافة المسرح مثلثا يضيق ضلعاه قبل أن يؤديا إلى خلفية ارتفع عليها لوح معدني مائل، يسمح للراغبين في الصعود بتسلقه. الحائطان المعدنيان الجانبيان فيهما نوافذ صغيرة يستخدمها الممثلون ليطلوا علينا برؤوسهم، وكأنهم في بعض الأحيان يطلون من مقصلة تكاد تهوي على رقابهم.

الممثلة نسرين حميدان تغني من أشعار محمود درويش، كأنما هي في حالة ترتيل حزين: «سأقول صبوني بحرف النون، حيث تعبّ روحي، سورة الرحمن في القرآن.. وامشوا صامتين معي علي خطوات أَجدادي ووقع الناي في أَزلي.. ولا تَضَعُوا على قبري البنفسجَ.. فَهْوَ زَهْرُ المُحْبَطين، يذَكِّرُ الموتى بموت الحُبِّ قبل أَوانه.. وَضَعُوا على التابوتِ سَبْعَ سنابل خضراءَ إنْ وُجِدَتْ.. وبَعْضَ شقائقِ النُّعْمان إنْ وُجِدَتْ...».

الممثلة بملابسها البيضاء والرسوم على وجهها، مع شعرها المغبرّ، وضحكاتها الهستيرية، وإلقائها الهذياني للشعر وحركاتها العصبية، تمهد لدخول الممثلين الآخرين، بسام أبو ذياب وعبدو شاهين. يطل كل منهما بمعطف عتيق وصدر عار إلا من وشم أسود وأقدام مخضبة بالأحمر، وعيون جاحظة. يشعر المتفرج أنه في حضرة قابض الأرواح الذي يخاطبه درويش في جداريته حين يقول له: «أيها الموت انتظر حتى أعدَّ حقيبتي، فرشاة أسناني، وصابوني وماكنة الحلاقة والكولونيا والثياب».

لكن الشيطانين، أو الرجلين اللذين رسمت وجهيهما ووشمت جسديهما نادين جمعة، بحروف كبيرة، لن يمهلا أحدا على ما يبدو، فيعودا إلى المسرح بتابوتين خشبيين، تابوتين وازنين متعبين، يصلحان خزانة للاختباء أو أداتين للرقص بهما أو لرفعهما إلى أعلى في محاولة للنهوض بالموت إلى فوق.

الملامح الشيطانية للمثلين الثلاث، تبقي الأجواء مكفهرة، متجهمة، وهم يطلون ساعة من وراء الحيطان المعدنية، وأحيانا من قلب النوافذ، يلقون بأشعار من «الجدارية»: و«لماذا تركت الحصان وحيدا؟» من هذه الأشعار ما قيل في الرحيل عن فلسطين حين كان محمود درويش يخاطب والده، وهو يسير به من فلسطين إلى لبنان هربا من الاحتلال الذي سرق البيت والأمن والمستقبل. ومن هذه الأشعار ما قيل في وصف طريق العودة، خلسة إلى البيت الفلسطيني، الذي صار في يد اليهود، بعد الهجرة والتشرد. ينفض الممثلون الغبار على المتفرجين وكأنهم خرجوا للتو من قبورهم، يلقون الأشعار وكأن كلا منهم هو محمود درويش أو والده أو إبليس الذي يريد أن يقبض روحه. تختلط الأدوار، وتتشابه الملامح، ويبقى العذاب هو السمة التي تنبض بها أجساد، درّبها جواد الأسدي جيدا، كي تبدو متأثرة ومجهدة، ودائمة الإنهاك، وكأنما هي آتية من رحلة اجتازت خلالها قفار الصحراء. موسيقى بندرسكي، أو صمت الموات الذي يخيم أحيانا، يضيف سوداوية على سوداوية. التنفس الصعب للممثلين، ومهارتهم في إظهار انقباضات الصدر والوجه والبطن، والمشي على حافة المسرح والقفز العصبي على الحيطان، كلها أمور تزيد الاحتقان على الخشبة، وترفع من نسبة الضغط على المتفرج.

هكذا هو جواد الأسدي، لا يرى فسحة لأمل أو بصيص نور، إنه مسرح لا انفراجات فيه ولا مزاح. لكن الأسدي، في لحظة ما، يترك لمحمود درويش أو الشخص الذي يتقمصه على المسرح أن يتسلق الحائط المعدني الذي يغطي خلفية الخشب صاعدا إلى الأعلى بصعوبة، تذكر بأسطورة سزيف، والمحاولات المستميتة للوصول إلى القمة. ولكن البطل الذي يصل إلى رأس المرتفع يعود وينزلق ليرتاح جسده هامدا، مستسلما للأبدية.

هذه هي رؤية جواد الأسدي لمحمود درويش، أو لما أراد أن يقوله في أشعاره وفي تجربته كشاعر ومشرد فلسطيني في آن. رؤية فاض فيها الألم وتمادى في الانسكاب على المتفرجين، الذين أمضوا ثلاثة أرباع الساعة فيما يشبه العيش داخل كابوس درويشي-أسدي، أطبق عليهم بقوة. جواد الأسدي كعادته لا يرى في التراجيديا سوى واقع، لا يتعب من أن ينهل منه. أما درويش الذي رحل، فلم يعد يملك سوى أن يطل من هناك، من البعيد، على تآويل لا نعرف إن كانت تفرحه أم تغضبه؟