انطلاق مهرجان برلين السينمائي الدولي

أفلام آتية من الماضي.. ووجود عربي مباشر في العروض الرئيسية

من الفيلم الألماني «مطاط»
TT

مع انطلاق مهرجان برلين السينمائي الدولي مساء اليوم (الخميس) في دورته الستين، يشعر المرء بأن هذا العدد من السنوات التي مرت على المهرجان لم تكن في نهاية الأمر إلا مواكبة لفن أحيط دائما بالتحديات، وأثيرت حوله التساؤلات، وحاول الكثير حول العالم صندقته، فهو أداة آيديولوجية عند البعض، وأداة ترفيه عند بعض آخر، ورسالة ثقافية ومهمة إنسانية عند آخرين. تتعدد التعريفات والسينما تبقى أكبر من أي تعريف واحد.

شيء من التاريخ ستون سنة على عمر مهرجان لم يكن يعرف آنذاك ما هو مستقبل السينما ذاتها. أي عدو متربص بها سينهيها: حربا كونية جديدة؟ التلفزيون المنتشر في البيوت؟ أم أنها ستترهل وستتوقف مثل موديل سيارة ما عاد محببا؟

الوثائق تقول إن المكتب الأميركي للفيلم الذي كان يرأسه في برلين أوسكار مارتاي، أوعز إلى لجنة تضم بريطانيا (جورج تيرنر) وإداريين ألمانيين وأربعة ممثلين عن السينما الألمانية وصحافيا واحدا بالاجتماع بغية تأسيس مهرجان دولي، وأول اجتماع عقد في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1950 وتم فيه اختيار الاسم والتاريخ: السادس من يونيو (حزيران) سنة 1951.

ولم يتم انتخاب إداري أو سياسي أو مقرب أو أحد من أعضاء اللجنة رئيسا، بل جيء بالمؤرخ السينمائي الألماني ألفريد باور الذي كان مسؤولا عن «المكتب السينمائي للرايخ» خلال الفترة النازية والذي كان أبدى تعاونا حُسب له للإدارة العسكرية البريطانية حين كانت مدينة برلين (وحتى انهيار الجدار وتوحيد الألمانيتين الشرقية والغربية سنة 1989) مدارة من قِبل ممثلين للحلفاء الذين ساهموا بدخولها وإنهاء الحقبة الهتلرية والنزعة النازية وبالتالي الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة عشرات الملايين.

في السادس من العام المذكور، افتتح الرئيس الأول لمهرجان برلين الدورة الأولى بفيلم لامع «ربيكا» لألفرد هيتشكوك، وبطولة جوان فونتاين التي حضرت إلى جانب بضعة نجوم من أوروبا وهوليوود ربما جاؤوا مدفوعين بفضول غريب لمعرفة كيف يقام مهرجان بعد ستة أعوام من نهاية حرب شرسة وفي مدينة لا تزال أشلاء ورتلا من الباطون والحديد المكوم في ساحاتها الرئيسية.

أحد تلك الأشلاء تُرك على ما هو: كنيسة كانت الطائرات أصابتها بينما كانت تنوي إصابة موقع آخر في منتصف المدينة. الحكومة الألمانية والدول المحتلة لها حتى بضعة عقود لاحقة وافقت على إبقاء الكنيسة كصرح لحرب بشعة لعله لا يغري أحدا باللجوء إلى هذا الحل الرهيب لفرض تصوراته حول العالم. في الوقت ذاته، نظر المؤسسون لمهرجان برلين في عام 1951 على أنه تعبير عن «العالم الحر»، وأن عليه أن يعكس صورة ثقافية وفنية إيجابية شاملة كما لو أن العالم يولد من جديد، وكان بالفعل كذلك.

ستون عاما من السينما التي عكست، خصوصا خلال الحرب الباردة بين الشرق والغرب، ما مر به العالم من ظروف ومشاكل وتيارات، وتناوبت على إدارته شخصيات تركت بصماتها المختلفة لكنها انضوت تحت مظلته تماما وعملت لإنجاحه هو أولا.

هناك 400 فيلم تعرضها كل أقسام المهرجان من اليوم وحتى الحادي والعشرين من الشهر الحالي، بينها فيلم فريتز لانغ الخيالي العلمي «متروبوليس» الذي كان عرضه مهرجان فينيسيا في إحدى دوراته في الثمانينات. لكن المهرجان الإيطالي عرض نسخة اعتبرت وحيدة آنذاك، بينما النسخة التي يعرضها برلين هذا العام من الفيلم الذي تم إنتاجه سنة 1927 ليست فقط مرممة، بل أضيفت إليها مشاهد تم اكتشافها صورها المخرج الذي رحل إلى هوليوود فيما بعد، ولم تلحق بالنسخة التي توافرت سابقا. نحو نصف ساعة من المشاهد التي ستجعل مشاهدته بالنسبة للناقد والمؤرخ والممعن في فن السينما أمرا واجبا كما لو كان فيلما جديدا تحف به الهالات الفنية والأسماء الكبيرة. «متروبوليس» يبدو من هنا «تايتانيك» عصره وعصر سواه على حد سواء.

لن يكون هذا الفيلم هو العمل الوحيد من بين الأفلام الآتية من الماضي، ولو أنه أبعدها وأكبرها سنا، فهناك عدد آخر من الأفلام المنضوية تحت رايات الاحتفال بالمناسبة، والتي تعكس مراحل مختلفة في أزمنة مختلفة ولفنانين مختلفين. على الرغم من أن هذه العروض مناسبة للوقوف على التاريخ، إلا أن المجتمعين هنا في جلهم سينكبون على مشاهدة الأفلام الجديدة الموزعة، كالعادة، بين العروض الرسمية (عشرون في المسابقة وستة خارجها)، البانوراما والفورام وعروض سينما الأطفال وعروض «السينما الألمانية الجديدة». من بين كل هذه الأفلام ثمانية عشر فيلما تشهد عرضها الدولي الأول من بينها «المطاط» للألماني بنجامين هايزنبرغ و«جزيرة مغلقة» لمارتن سكورسيزي و«الكاتب الشبح» لرومان بولانسكي و«منفصلان معا» للصيني وانغ كوران.

وغني عن القول أن عددا كبيرا من الممثلين سيحضرون عروض أفلامهم، بينهم ليوناردو دي كابريو الذي يقود بطولة «جزيرة مغلقة». ووالدة الممثل ألمانية، مما يوضح الابتسامة المزدوجة التي واجه بها الممثل أحد الذين أجروا معه حوارا حين تطرق الحديث إلى مهرجان برلين. البريطانيان بيرس بروسنان وإيوان مكروغر سيحضران كونهما مشتركين في بطولة فيلم بولانسكي الذي قام بالإشراف على جزء من مونتاجه من بعيد لبعيد على أساس أن المخرج المعروف كان في الزنزانة السويسرية حينما بوشر العمل على مونتاج الفيلم.

فيلمان يعرضان في المسابقة اختيرا رغم مرورهما على شاشة مهرجان سندانس قبل أسابيع قليلة، «عواء» وهو فيلم عن الشاعر الفوضوي ألن غينزبيرغ الذي، مثل هارفي ميلك، كان من دعاة الشذوذ الجنسي الأول في الستينيات في الولايات المتحدة. أخرج روب إبستين وجيري فرايدمان هذا الفيلم من إنتاج غس فان سانت الذي كان أخرج «ميلك» قبل عامين.. الحلقة متصلة.

أيضا في العروض الرئيسية فيلم هندي بعنوان «اسمي خان»، الذي يقود بطولته شاه روح خان وتقع معظم أحداثه في الولايات المتحدة لتتحدث عن هندي مسلم واقع في حب فتاة هندوسية فيتزوج منها رغم معارضة أولياء الأمور. روميو الجديد بعد ذلك سرعان ما يجد نفسه مقبوضا عليه بفعل أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 للاشتباه في أنه إرهابي. وإلى أن يتم الإفراج عنه يكون نصف الفيلم قد مضى وأصبح بطله في حالة عاطفية تستدعي حبا جديدا، وهذا ما سنراه يقع مع الطبيبة التي تشرف على معالجته.

هذا الفيلم إنتاج هندي، لكن شركة «إيماجنيشن»، المنبثقة عن «الهيئة العامة للثقافة والتراث» في أبو ظبي هي التي قامت بتمويل جزء منه وتقديمه على شاشة المهرجان الألماني الكبير. خطوة من المفترض بها أن تؤدي إلى دعم وجود السينما العالمية الممولة عربيا.

من المستبعد أن يكون «اسمي خان» عملا فنيا أكثر منه عملا استعراضيا منوعا كما عودتنا السينما البوليوودية، لكن وجوده سوف يكون إمعانا في التنويع وإثراء التجربة البصرية على موزاييك الدورة الحالية. الأمر مختلف بالنسبة لفيلم المخرج الصيني يوجي يامادا، أحد الكلاسيكيين الأخيرين الباقين على قيد الحياة في اليابان. فيلمه الجديد «حول شقيقها» ينهي أعمال المهرجان منسابا إلى جملة الأفلام التي يقوم فرنر هرتزوغ، المخرج الألماني المعروف، برئاستها، وتضم الممثلة الأميركية رنيه زلويغر والمخرجة الإيطالية فرنشيسكا كومنشيني والكاتب الصومالي نور الدين فرح والممثلة الألمانية كونيلا فروبوس، ثم المنتج الإسباني جوزي ماريا موراليس (الذي أنتج في حياته نحو 50 فيلما بينها أعمال أرجنتينية، والذي فاز فيلمه «حليب الأسف» بالدب الذهبي العام الماضي). إلى هذه المجموعة انضمت الممثلة الصينية يو نان التي كان أحد أفلامها الأخيرة («زواج تويا») نال ذهبية المهرجان سنة 2008.

إذ تبدأ الأفلام بالتوالي من الآن وللأيام العشرة التالية، فإن المرء العائد إلى المهرجان الذي تابعه من مطلع الثمانينات لا بد أن يشعر بأن الكثير من الماء مر تحت جسر هذا المكان. كل نقطة منه هي فيلم يحمل في ثناياه مخرجين وممثلين وكتّابا وفنيين لا يحصون مغلفين بتجربة قد تكون نجحت وقد تكون فشلت لكن قدر لها أن تنتج وتعرض ولو على شاشة هذا المهرجان العتيد وحده.